بعد نكسات مشاريع الإسلام السياسي في الاستيلاء على السلطة في الربيع العربي، يسود أوساط الجناح الأكثر ثقافةً بين الإسلاميين، دعاوى بيان مآثر نظام إسلامي يدّعون وجوده، وذلك استناداً إلى أدبيات تيارات نقد الحداثة ومؤسساتها كالدولة الوطنية. بحسب الأصوليين الجدد، يمكن تجاوز أزمات الحداثة ودولتها بالرجوع إلى بديل مستقى من تقليدنا السياسي الديني والثقافي قبل مجيء الحداثة إلى منطقتنا.
يستقي النقد الأصولي الجديد خطابه في نقد المؤسسات الحداثية من أسماء يمينية ككارل شميت ويسارية كرواد مدرسة فرانكفورت وتيار ما بعد البنيوية. كما يستلهمون كتابات وائل حلاق، وهبة رؤوف عزت وعبد الوهاب المسيري وأمثالهم ممن حاولوا تبيئة خطاب نقد الحداثة على أساس أخلاقي أو ديني.
مع الجوانب الإيجابية لانتشار أدبيات نقد وتعرية البنى التسلطية وأهمها الدولة الوطنية في منطقتنا، إلا أنّنا نشهد بشكل متسارع توظيف هذا النقد لخدمة مشاريع سياسية أكثر تسلطية من النموذج الحداثي. أحاول في هذا المقال بيان مآزق هذا التوجّه الأصولي في بدائله المقترحة للدولة الحداثية.
بين النقد التحرري والأصولي
المنظومة الحداثية، كما سبقها من نظم وأنساق، تسودها علاقات الهيمنة والتسلط وأتت بأزمات صاحبت تثويرها الرأسمالي للسياسة والاقتصاد والاجتماع والعلم، من استغلال وتفاوت اقتصادي واغتراب نفسي وتحدّيات بيئية، بالإضافة إلى ردود أفعال تأزمية إعلائية للعرق والدين، مع تخلخل الأمان الاقتصادي والنفسي والتذرر الاجتماعي.
وإنْ ارتفعت إمكانيات العنف والتسلط مع التقدّم التقني الذي مكّن توظيف الدولة الحداثية لوسائل عنف وسيطرة وتحكّم أكثر فعّالية وفتكاً، فإنّ مثالب الحداثة في جوانبها التسلطية والتفاوتية، لم تكن خاصة بالبنية الحداثية بل اتسمت به ما سبقها من بنىً اجتماعية عرفت شكل الدولة منذ ظهور دول زراعة الحبوب بحسب جايمس سكوت.
ومع التسليم بأن التصوّر الحداثي للعلاقات الاجتماعية هو أحد التصورات المتخيلة الممكنة وليس الحتمية، فإن أفضلية التصوّر الحداثي المساواتي تبرز لدى مقارنته بغيره من التصورات البديلة الإحيائية. فكما تولّد عن المنظومة الحداثية كم من العنف والقمع ولكن جاء معها أيضاً فيض من المساواة والتحرّر.
مع دوام وتراكم أزمات الحداثة، إلا أنه جاءت من رحمها حركات النضال التحررية بتنويعاتها الليبرالية والاشتراكية والاجتماعية ومكاسب تحرير العبيد وتوسيع حقوق الانتخاب والمشاركة السياسية ومثيلها من مبادئ ومؤسسات الدولة الديمقراطية ودولة الرفاه الاجتماعي وتوسيع حقوق المرأة والأقليات والمهمّشين، وغيره مما حجّم مظاهر التسلط والهيمنة للمؤسسات الحداثية.
فضلاً عن تعذّر القطع مع الحداثة مع اختراقها لكل مجالات الحياة بما فيها تصورات الإسلاميين عن دينهم ووظيفته، فإنّ ما يطرحه أنصار الإحيائيات الدينية والقومية لا يتجاوز استبدال التراتبية الحداثية المؤسَّسة على القانون الوضعي، بأخرى مؤسسة على أفضلية تمييزية أولية كالعرق والدين والتقليد، وما يُستنبط من العرف من تراتبيات عمودية. هذه التراتبيات الأولية المخترعة حداثيّاً من جديد، لا تخلو مما يشوب التراتبية الحداثية من علاقات السيطرة والهيمنة. بل تتجاوزها في الإقصاء والتهميش والصلابة في وجه محاولات كبح جوانبها التسلطية.
التقليد الإسلامي وسطوة الدولة
يغفل الأصوليون الجدد عن أن منتقدي الحداثة من الغربيين تحدّروا من خلفية تجربة الدولة الوطنية الغربية التي سبقها النظام الإقطاعي ذي الدولة شبه الغائبة، وذلك بعكس التجربة الإسلامية والصينية اللتين سبق دخولهما في نظام الدولة الحديثة تقليد دولة قوية وواسعة القدرات على تنظيم الحياة العامة مقارنة بمثيلتها الغربية قبل الحداثية.
فلا يوجد في الموروث الإسلامي ما يتضارب مع مركزة سلطة الدولة وتغولها ما دام مضبوطاً بعدم التصادم المبدئي مع الشريعة (الكفر البواح). الدول الإسلامية حازت دوراً كبيراً في إدارة شؤون رعاياها، كان على مثيلتها الغربية أن تنتظر قروناً لتحقيقه. فقدرات الدول الإسلامية في عهد قوتها على نظم النشاط الاقتصادي والقضاء والتعبئة العسكرية كانت واسعة، مقارنة بالبنية الغربية الفيودالية التي كان فيها للكنيسة والإقطاعيين المحليين دور أكبر في إدارة شؤون الأقاليم.
يعزز هذا الرأي موقف العلماء المزدوج من حركة التنظيمات العثمانية التي سرّعت في إدخال مظاهر الحداثة إلى منطقتنا الذي سرده أوريل هيد والمؤرخ خالد زيادة في كتابه "الكاتب والسلطان". فقد أعانت نخبة العلماء السلاطين العثمانيين في محاولتهم تحديث الدولة، ودعمت عملية مركزة سلطة الحكم في مجالات تحديث الجيش والصحة والتعليم والتجنيد الإجباري وفرض المزيد من الضرائب. كما شارك العلماء في مناصب الإدارة الجديدة حتى أواخر القرن التاسع عشر. إلا أنهم عارضوا إجراءات لم تمس من سلطان الدولة، كالمساواة مع أهل الذمة لما رأوا فيه من انحراف عن الشرع ووَهنٍ لإمتيازات المسلمين ومكانتهم.
"بعد نكسات مشاريع الإسلام السياسي في الاستيلاء على السلطة في الربيع العربي، يسود أوساط الجناح الأكثر ثقافةً بين الإسلاميين، دعاوى بيان مآثر نظام إسلامي يدّعون وجوده، وذلك استناداً إلى أدبيات تيارات نقد الحداثة ومؤسساتها كالدولة الوطنية"
مع تنوّع علاقات مركز الدولة بأطرافها في مختلف العهود الإسلامية، فإننا نلحظ أن لحظات ضعف الدولة الإسلامية كانت تتلازم مع تراجع تدخّلها في شؤون الديار المحكومة، ويأتي مع هذا الانسحاب عادةً تدهور للأمن والاقتصاد والثقافة وغيرها من نواحي الحياة. فكما أوضح خالد زيادة، حين استولت الدولة العثمانية على مصر وبلاد الشام في القرن السادس عشر، سيطرت على القضاء والإفتاء وأقصت وهمشت مراكز الحكم والإدارة المحلية. ولكن مع تراجع قوة المركز وضعف الدولة في أواخر القرن السابع عشر، عاد للمراكز المحلية دورها وقوتها في إدارة شؤون أقاليمها وهي عقود وُصمت نسبياً بالتراجع الحضاري.
يُذكّر هذا التلازم بين قوة الدولة ومستويات المعيشة، بما تحدّث عنه تشارلز تيلي في كتابه "الديمقراطية" عن أنّ تعزيز الديمقراطية يأتي معه دوماً تعزيز لإمكانيات الدولة، والذي لا يمكن بدونه ترجمة رغبة الناخبين بشروط حياة أفضل إلى الواقع. ولا تنحصر هذه الحاجة لدولة أقوى بتوفير الاحتياجات المادية، وإنما يندرج ضمنها توفير الإطار القانوني والمادي لحماية حقوق وحريات المهمشين.
بين غولَيْ التقليد والدولة
مع تعقّد البنى الاجتماعية بدءاً من القبيلة، تظهر أسس جديدة لفرض التعاون والنظام على أفراد التجمعات البشرية من أجل توفير أسباب البقاء وإعادة إنتاج البنى الاجتماعية بتراتبيتها. وهذا ما نلحظه في الانتقال من بنية القبيلة إلى القرية إلى المدينة-الدولة إلى الإمبراطورية، انتهاء بالدولة الوطنية. وفق نيكوس بولانتزاس، مع صعود الدولة الوطنية في الغرب استبدل القانون الوضعي للدولة الكنيسة، كأساس نظم شؤون المجتمع.
أفضلية هرمية القانون الحداثية على غيرها، هو أنها وإنْ كانت خاضعة لتوازن قوى سياسي ومادي ما في الدولة، إلا أنّها تخضع في شروط تحرّرية معيّنة لآلية تغيير تفسح المجال للمزيد من الحقوق لمَن هم ليسوا على قمّة النظام الاجتماعي. في حين لا يمكننا أن نخرج من خلال التقليد بآلية واضحة تمنح المزيد من الحقوق للمرأة وذوي المعتقدات المغايرة للانتماء الديني المهيمن، أو للعبيد و غيرهم من الفئات المُستَغلة اقتصادياً. ومن الممكن أن تتضح الفكرة عن إشكالية نقد الحداثة المؤسَّس على استبدال القانون الوضعي للدولة بمرجعية محلية دينية أو تقليدية بالمثال التالي:
بانكاج ميشرا من كبار الأسماء التي اشتبكت وانتقدت الحداثة الغربية ودولتها الوطنية. حاول تسليط الضوء على مشاريع بدائل ممكنة لنموذج الدولة الحداثية في كتابه "من حطام الامبراطورية". لدى سؤاله عن البدائل للدولة الحداثية في مناقشة كتابه، أشار ميشرا إلى اتفاقية بنجسامورو في الفلبين كوثيقة مثالية يجب أن تحتذى في سبيل سياسة أكثر تحرّرية تحجّم من قوة الدولة المركزية وتدخّلها في شؤون المجتمع. هذه الاتفاقية أعطت مسلمي إقليم بنجسامورو حكماً ذاتياً واسعاً يتضمن شؤون القانون، وإلزام المسلمين بالخضوع لأحكام الشريعة، محجّمة بذلك دور الدولة المركزية في إدارة شؤون الإقليم.
ولكننا نكتشف مدى تحررية هذا المشروع، لدى طرح الحكومة المركزية الفلبينية قانون منع تزويج الأطفال قبل سن الثامنة عشرة. فقد تم استثناء الإقليم المسلم من القانون المركزي، ليستمر السماح بتزويج الفتيات عند بلوغهنّ سن الثانية عشرة مع اشتراط البلوغ. ولو لم يتم قصر تطبيق الشريعة على قانون الأحوال الشخصية في الحالة الفلبينية، لرأينا غالباً ما درجنا عليه في تجارب تطبيق الشريعة الموسّعة من ممارسات تسلطية من تكفير وأحكام ردة وإخضاع للفئات المهمشة اجتماعياً من نساء وأقليات دينية، وحصر للنشاطات السياسية والفكرية والثقافية وأنماط الحياة في حيّز ضيق يتناسب مع الفهم الأصولي للدين. هذا فضلاً عن ضبابية الطروحات الإسلامية، خلا الشعارت، في تناول مسائل الاستغلال الاقتصادي.
المستدرك الإيراني
ولعلّ في تجربة الثورة الإيرانية ما يوضح مآزق المقاربة الما بعد حداثية لمسألة التحرر والدولة في جغرافية الشرق الأوسط. في معرض مناقشته لسؤال "هل هناك تحديث غير التحديث الغربي؟"، يروي برتران بادي في كتابه "الدولتان"، تجربة المجالس المحلية في السنوات الأولى للثورة الإسلامية في إيران. هذه المجالس المحلية التي تأسست في خضم الثورة، استلهمت أفكار علي شريعتي وآية الله طالقاني في تبنّي تولّي الجماعة بأكملها للسلطة السياسية بعيداً عن تراتبية وقمع الدولة وأجهزتها.
"مع الجوانب الإيجابية لانتشار أدبيات نقد وتعرية البنى التسلطية وأهمها الدولة الوطنية في منطقتنا، إلا أنّنا نشهد بشكل متسارع توظيف هذا النقد لخدمة مشاريع سياسية أكثر تسلطية من النموذج الحداثي"
تمددت هذه المجالس في مختلف أنحاء إيران، وكان لليساريين ومتنوري الإسلاميين دور في تأسيسها كنموذج ديمقراطي بديل لتحكّم مركز الدولة العمودي بشؤون البشر. على أن هذه التجربة ما لبثت أن أُفشلت ونجح التيار الخميني الدولتي باختراقها، بل وحوّل هذه المجالس إلى أحد روافد جهاز الدولة الإسلامية القمعي.
يعلّق بادي على فشل المجالس المحلية الإيرانية بقوله: "في الصراع بين النقاوة والضرورة، تغلب الضرورة". مع غياب الكوابح الشرعية وتعقد مستلزمات توفير الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة، من المشروع استشراف أنّ مفاعيل رومانسية ثورية تستوحي إحيائية روحية قائمة على أدبيات انتقاد الحداثة ومؤسساتها ستكون بوابة الولوج إلى دولة عالية القمع والتسلط، كالدولة الخمينية التي دغدغت ثورتها خيال ميشال فوكو، أحد كبار نقاد الحداثة.
خاتمة
لم يكن الغرض من هذه المقالة الدفاع غير المشروط عن مؤسسات الحداثة ومنها الدولة الوطنية التي تتصاعد تحدّياتها وأزماتها في ظل عالم كثيف التداخل. الغاية كانت مناقشة دعاوى الأصوليين الجدد المستندة على خطابات ما بعد الحداثة. وهي دعاوى ينبثق منها ما قد يجرنا إلى عالم أشد تسلّطاً وقمعاً.
من الصعب أن نرى أن الطريق نحو سياسة تحررية، تهدف إلى إنهاء تسلط الدولة الوطنية وغيرها من البنى القمعية، إنما يمر عبر رؤية تسلطية بعيدة عن شرط المساواة. ولعلّ لأصوليينا أن يُؤنسنوا دعاوى نقدهم للحداثة، بتبنّى مفهوم أوسع للتعاضد الإنساني، كالوعي الكوني المتجاوز للروابط الدينية والوطنية، وهو ما نادى به زيغمونت باومان، الذي لا يفترون عن ترديد انتقاداته للحداثة الراهنة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...