نما دور الدولة في الاقتصاد في الدول الصناعية إثر الكساد العالمي في ثلاثينيات القرن الماضي، وبعد الحرب العالمية الثانية مع صعود النموذج السوفياتي، وتمدُّد رأسمالية دولة الرفاه الغربية. وشهدت عقود الخمسينيات والستينيات نمو النموذج السوفياتي الذي تمكّن من توفير الخدمات الصحية والتعليمية وفرص العمل بشكل واسع لمواطنيه وتجلّى في إنجازات تقنية كإرسال أول قمر صناعي إلى الفضاء.
أجبر التهديد الأحمر رأسماليي الغرب على أن يتعايشوا مع حركة نقابية عمالية قوية في بلادهم وأن يدفعوا نسب ضرائب مرتفعة -وصلت ضريبة أعلى شرائح الدخل إلى 90 في المئة في أمريكا الخمسينيات- لتمويل تكاليف البنى التحتية وتوسيع برامج الرفاه الاجتماعي، في إطار التنافس مع النموذج السوفياتي.
هذا النمو في الدور الحكومي في الدول الصناعية امتدّ إلى الدول النامية، فقامت الأنظمة الشعبوية الثورية في منطقتنا بتوسيع دور الدولة في الاقتصاد ونجحت إلى حين بتحسين الأحوال المعيشية وتوفير فرص عمل واسعة. وحتى الأنظمة اليمينية في منطقتنا أُجبرت تحت الضغط الشعبوي اليساري على زيادة الإنفاق الاجتماعي الحكومي والتوظيف، كما رأينا في المغرب وعمان، إثر محاولتي اغتيال الملك الحسن الثاني في أوائل السبعينيات وثورة ظفار العمانية.
تراجع دولة الرفاه
في السبعينيات، مع ظهور المشكلات الاقتصادية في الاتحاد السوفياتي الذي احتفظ بملامحه القمعية، أفل النموذج الاشتراكي كبديل حيوي للنظام الرأسمالي، وشهد العالم انزياحاً باتجاه اليمين، وذلك بعد نهاية عقدين من الازدهار الاقتصادي السوفياتي الذي قضّ مضاجع النخب الرأسمالية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
نجد مظاهر الانزياح اليمني في تراجع دولة الرفاه الاجتماعي في الدول الغربية وإضعاف كوابح هيمنة قوى السوق على الاقتصاد من خلال تخفيض التنظيمات الحمائية للعمال والقطاعات الحيوية، وتمثّل الانزياح اليميني دولياً في تفكك شبكات الدعم التي رعاها قطبا الحرب الباردة للدول النامية من دعم سياسي وعسكري واقتصادي. استُبدل الدعم الغربي والسوفياتي للدول النامية ببرامج المنظمات الدولية المشروطة بالتقشف في النفقات الحكومية والخصخصة وتحرير التجارة مع ضعف قدرة القطاع الخاص المحلي على توفير فرص عمل كريمة وواسعة.
وهكذا، ساهمت مفاعيل انكفاء النموذج السوفياتي واكتساح العولمة والنيوليبرالية منذ أواخر السبعينيات في تحوّل سياسي واجتماعي يميني تمثّل في صعود التيارات الهوياتية كالإنجيليين في أميركا والقوميين الهندوس في الهند والإسلاميين في الشرق الأوسط ولاحقاً التيارات القومية في الصين وبلدان أوروبا الشرقية، مع اختلاف ديناميات وخصائص التيارات الهوياتية بحسب الدولة وموقعها في سلّم التطوّر الاقتصادي ومحدداتها الثقافية.
أهمية تراجع النموذج السوفياتي في تفسير تقدم الأيديولوجيات الإحيائية اليمينية يعود لسببين: الأول، تراجع النموذج التقدمي الأيديولوجي للتحديث في عالم الأفكار؛ والثاني يتجلى في تغلغل الرأسمالية النيوليبرالية وما يصحب ذلك من صعوبات اقتصادية واغتراب اجتماعي يفتك بالبنى الاجتماعية التقليدية وروابطها.
"الكثير من سكان الأطراف نزحوا من الريف إلى المدينة ودفعتهم الضغوط الاقتصادية في بيئتهم الجديدة وبقائهم في الهامش ماديّاً وهويّاتياً إلى أحضان الإسلاميين الذين وفّروا لهم بمؤسساتهم شيئاً من الدعم المادي والإحساس بالانتماء، في مدن أشعرتهم بالاغتراب"
يمكن تأريخ بداية موجة التيار الأصولي الإسلامي في تجلياته السياسة والجهادية في العقود الأخيرة منذ منتصف السبعينيات. ففي أعقاب هزيمة 1967، بدأت تظهر موارد العطب في التيار القومي-اليساري الذي هيمن على السياسة والاجتماع بعد التحرر من الاستعمار. تمدّد التيار الإسلامي شعبياً في العقود الأربعة الأخيرة حتى بدت جزءاً من ذاكرة بعيدة حادثة فوز مرشح اليسار رياض المالكي على مرشد الإخوان المسلمين في انتخابات دمشق 1957، أو الشعبية الكاسحة لزعيم كجمال عبد الناصر الذي نكّل بالإسلاميين وأعدم عدداً من أعلامهم.
عزا كارل بولاني في كتابه "التحول الكبير/ الأصول السياسية والاقتصادية لزمننا المعاصر" صعود الفاشية في عقود ما بين الحربين العالميتين كما الاشتراكية ورأسمالية دولة الرفاه إلى ردود فعل المجتمعات على عواقب عصف قوى السوق بالروابط الاجتماعية في ظل الرأسمالية غير المقيّدة. فتغوّل الرأسمالية غير المنضبطة بما يصحبه من سيولة تدفق البضائع ورأس المال والعمال وتغييرات هيكلية اجتماعية واقتصادية متسارعة ومحكومة بمنطق السوق ينتج عنه قلق مادي ووجودي واغتراب يمهّد لصعود أيديولوجيات مقاومة للتفكك الاجتماعي.
وعلى هذا الأساس، يمكن تفسير ما حدث في العقود الأخيرة من صعود للتيارات اليمينية ومنها أيديولوجيات الخلاص القائم على الرجوع إلى الصفاء العرقي أو الديني في العالم الثالث في ظل تراجع خياري الاشتراكية ورأسمالية الرفاه الاجتماعي. وقد وُظفت الأيديولوجيات الإحيائية أيضاً كغطاء فكري لحركة المعارضة الشعبية ضد النخب الحاكمة احتجاجاً على الحرمان الاقتصادي والاجتماعي المصاحب لتمدّد الرأسمالية غير المنضبطة.
"التصدي للسرديّة الأصولية على المستوى المفاهيمي والتاريخي، يشكّل خطوة على درب تلمّس الحلول الواقعية والتحرّرية لمشكلاتنا لتجاوز ثنائية الاستبداد العسكري والأصولية التي هيمنت على المنطقة في العقود الأخيرة"
على سبيل المثال، مع امتداد مراكز دعم الحركات الإسلامية طبقياً ومكانياً في الأرياف والمدن، نجد أنّ أطراف المدن العربية من أكثف مراكز الدعم الشعبي للحركات الإسلامية. الكثير من سكان هذه الأطراف نزحوا من الريف إلى المدينة ودفعتهم الضغوط الاقتصادية في بيئتهم الجديدة وبقائهم في الهامش ماديّاً وهويّاتياً إلى أحضان الإسلاميين الذين وفّروا لهم بمؤسساتهم شيئاً من الدعم المادي والإحساس بالانتماء، في مدن أشعرتهم بالاغتراب وافتقرت أصلاً إلى الزخم الكافي لدمج سكان الأطراف في أجواء حداثية اقتصادية أو اجتماعية.
الاعتياش على مشاعر التهميش
لا بدّ من إضافة أنّ منطقتنا شهدت أيضاً ردة فعل أصولية على سرعة إيقاع التغيير الاجتماعي تحت تأثير تعاظم رأسمالية الدولة، كما حدث في الثورة الإيرانية إبان طفرة السبعينيات النفطية، وفي سوريا أثناء أحداث أوائل الثمانينيات، حين وقف الريف السوري تقريباً على الحياد، وكان التمرّد الإسلامي المديني رد فعل على مزاوجة النظام بين استبداد أقلوي الصبغة وإضعاف معظم البرجوازية التجارية المتوسطة والصغرى من خلال تنامي دور الدولة وشركاء النظام في الاقتصاد.
ومع أنّ توقيت وظروف صعود الحركات الإسلامية ضمن أجواء صعود اليمين عالمياً يؤكد مركزية العامل الاقتصادي، فإنه لا يفوتنا عدم إمكانية نفي أثر الحساسيات الهوياتية الثقافية في حركات الاحتجاج الاجتماعية مع الإقرار بدينامية ماهية الثقافة. فالتواجد في دولة كالسويد أو ألمانيا والمجيء من خلفية برجوازية لم يمنع انضمام أفراد من الجاليات المسلمة من أطباء ومهندسين إلى الحركات الإسلامية وحتى أكثرها عنفاً وتطرفاً كداعش. ولم يعزل مستوى عالٍ من الرفاه الاقتصادي التكافلي نسبياً بلاداً كسويسرا والدنمارك من حضور ملفت لتيارات اليمين ولو كان محدود الأهداف والطموح بالمقارنة مع جذرية تيارات الإحياء الديني والعرقي غير الغربية وشعبيتها.
تعتاش الأيديولوجية الأصولية على مشاعر التهميش والمهانة لدى أفراد المنطقة وفق سردية تاريخية شديدة الإشكالية توعز إلى التباعد عن الشريعة والهوية، انحدار المكانة الدولية للشرق الأوسط منذ القرن الثامن عشر والهزائم اللاحقة أمام الاستعمار الغربي، وبه يفسّر فشل محاولات التحديث بعد التحرر من الاستعمار. ومن هنا أتى شعار الأصوليين السياسي "الإسلام هو الحل". وترافق هذه السردية نظرة نرجسية تآمرية تعويضية لمشاعر الدونيّة في تفسير علاقات الاستغلال والهيمنة بين المراكز الرأسمالية والدول النامية ومنها منطقتنا على أنها استهداف وتخوّف من "النموذج الحضاري الإسلامي".
بعد هذا العرض للظروف والأسباب التي مهّدت لصعود التيار الأصولي في المنطقة، فإنّه من الواضح أنّ التصدي لهذه السرديّة الأصولية على المستوى المفاهيمي والتاريخي، يشكّل خطوة على درب تلمّس الحلول الواقعية والتحرّرية لمشكلاتنا لتجاوز ثنائية الاستبداد العسكري والأصولية التي هيمنت على المنطقة في العقود الأخيرة. وهو ما سنتعرض له في المقالات القادمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...