في خمسينات القرن العشرين، بدأت موجة الفن الشعبي Pop Art في أمريكا وبريطانيا، وهي حركة ثقافية متحررة عن الأطر النخبوية والأكاديمية المتعارف عليها وقتذاك.
تفجرت في المجالات الإبداعية من آداب وتمثيل وغناء وصولاً الى تصميم الأزياء والديكور والأثاث بل وبعض أنماط الحياة أيضاً.
هذه الموجة كانت لها إرهاصاتها الثقافية في أمريكا منذ نهاية العشرينات على وقع الأزمة الاقتصادية الكبرى، ولكن الأجيال الإبداعية في أمريكا ما بعد الحرب العالمية الثانية هي من انتصر ورسخ هذا الفكر.
وحول العالم وحتى اليوم هنالك موجة رافضة للبوب آرتـ انطلاقاً من ان معارضة هذا اللون الثقافي يعنى بالضرورة التزامك بالأطر النخبوية، ما يعني حصدك صك النخبوية والعمق الثقافي والهيبة الاكاديمية فور معارضتك لهذا النمط من الفنون بغض النظر عن امتلاكك تلك الرؤى من عدمه.
وفي مصر كانت الحركة الثقافية هي الأكثر تأثراً بفكر البوب آرت عن التمثيل والغناء، ذلك لأن سلسلة "روايات الجيب" التي أصدرها محيي الدين فرحات عام 1933 قد سبقت البوب آرت الثقافي في بريطانيا وأمريكا وفرنسا وإسبانيا قاطبة.
وهي سلسلة قدمت ترجمة دقيقة لأمهات الأدب العالمي بسعر مخفض لأنها طبعة شعبية، توقفت السلسلة عام 1957.
عام 1960 بدأت مرحلة جديدة، عين الكاتب محمود سالم (1929 – 2013) بمجلة سمير تحت رئاسة رائدة فن الكوميكس المصري نادية نشأت حفيدة المفكر جورجي زيدان مؤسس دار الهلال، وقد شجعته على كتابة الألغاز البوليسية عبر صفحات مجلة سمير، ولكن تأميم الصحف المصرية قضى على المساحات الإبداعية ورحلت نادية إلى لبنان عام 1962.
ولكن بحلول عام 1968 تولى سيد أبو النجا رئاسة دار المعارف الحكومية وطلب من نادية نشأت العودة والعمل بالدار، وبدورها طلبت من محمود سالم أن يبدأ في كتابة سلسلة روايات تطبع بحجم الجيب.
وهكذا بحلول عام 1968، استأنفت دار المعارف نشر روايات الجيب التي غابت لفترة عن المكتبة المصرية.
يمكن القول إنّ دار المعارف ونادية نشأت ومحمود سالم هم من وضعوا أسس وقواعد أدب البوب آرت في مصر عام 1968 عبر سلسلة "قصص بوليسية للأولاد"، والتي اشتهرت لاحقاً بأسم الألغاز، وتدور روايات سالم حول "المغامرون الخمسة"، تختخ وعاطف ومحب ولوزة ونوسة.
القطع الصغير، والنصوص البوليسية المشوقة وسهولة قراءة الرواية لقلة عدد صفحاتها جعل ألغاز "المغامرون الخمسة" تصبح في كل حقيبة مدرسية في مصر في الفترة ما بين عامي 1968 حتى عام 1988.
وأعلنت دار المعارف وقتذاك أنّ إجمالي مبيعات "المغامرون الخمسة" قد وصلت إلى 20 مليون نسخة، وأنّ الطبعة الواحدة لا تقل عن 100 ألف نسخة.
وكان محمود سالم هو أوّل كاتب مصري تنظم له حفل توقيع بالنمط الحديث، وذلك في معرض القاهرة للكتاب أوائل السبعينات، بعد أن كان طقس توقيع الكتب لا يجري إلا في الحلقات النقاشية المصغرة في صالونات المثقفين فحسب وعلى استحياء أيضاً.
الملاحظ أنّ بزوغ أدب البوت آرت في مصر حدث في العصور الذهبية الأدبية، جنباً إلى جنب مع كتابات محمود تيمور ونجيب محفوظ والعقاد وهيكل وإدريس، ومع ذلك لم يقم هؤلاء الكبار بنقد هذه الظاهرة.
ولكن النقد العنيف جرى لاحقاً من الأجيال الأدبية التالية التي نظرت إلى هذا الأدب باعتباره كتابة درجة ثانية، وهو جدل لا يزال دائراً في مصر حتى اليوم.
فالمحافل الأدبية المصرية لا تقبل بهؤلاء، وسيطرتهم على الصحافة الثقافية صنعت قائمة سوداء منهم حتى أصبح من غير المسموح لكتاب البوب آرت أن يفرد لهم صفحات عرض أو نقد لأعمالهم إلا فيما ندر.
لاحقاً منع محمود سالم من الكتابة لخلاف سياسي وقامت نادية نشأت بعد استقرارها مرة ثانية وأخيرة في لبنان بدعوته إلى بيروت للكتابة، وهكذا كتب الشياطين الـ 13 في بيروت، عبر 250 رواية.
ولما أسست مؤسسة الأهرام الصحفية مجلة علاء الدين عاد "المغامرون الخمسة" في نسخة مصورة أوائل التسعينات، وأخيراً عام 2010 طلبت دار الشروق من سالم أعداداً جديدة من العمل، وبالفعل نشرت الشروق تلك الأعداد ليظل سالم يكتب عن تختخ ورفاقه حتى سنواته الأخيرة.
ولعبت الآراء السياسية لسالم لاحقاً دور هام في الاحتفاء به على حساب باقي أبطال ومؤلفي سلسلة قصص بوليسية للأولاد.
على سبيل المثال، قدمت هدى الشرقاوي عبر نفس السلسلة "المخبرين الأربعة" (خالد ومشيرة وطارق وفلفل والكلب سبع) وعبد الرحمن حمدي "المغامرون الثلاثة" (عامر وعارف وعالية والقط مرجان)، وأيضاً قدمت رجاء عبد الله مجموعة بهذا الاسم.
ولم يتعلق الشباب من السبعينات للتسعينات بكتاب "المغامرون الخمسة" فحسب، ولكن بباقي أبطال السلسلة.
مواقف سالم الناصرية المناهضة لآراء الرئيس السادات جعلت الصحف اليسارية في مصر تحتفي بسالم في بداية الألفية الثالثة ولم تقدم سيرة باقي كتاب وأبطال السلسلة رغم غياب عوامل النقل من نص أجنبي كما الحال مع سالم.
يلاحظ مع محمود سالم، أنّ الناشرة نادية نشأت مع دار الهلال والمعارف لعبت دوراً هاماً في تأسيس هذا الدرب الأدبي، فالمشروع الثقافي يجب أن يحظى برعاية ناشر محترم سواء من القطاع العام أو الخاص.
وفي عام 1984، قام الناشر حمدي مصطفى بخطوة هامة قلبت حال الثقافة المصرية لاحقاً، وذلك عبر شركته المؤسسة العربية الحديثة للطباعة والنشر، التي تخصصت في طباعة ونشر الكتب الدراسية سلاح التلميذ والأضواء، وهما كتابان لا يخلو أي بيت مصري منهما.
جمع حمدي مصطفى ثروة طائلة ولكن لأنه لم يكن رجل أعمال عادي صاحب مطبعة ودار نشر فحسب، كان يطمع في مشروع ثقافي ضخم، وفي عام 1984 نشر إعلان يطلب مؤلفين جدد لكتابة روايات للجيب.
العالم أجمع يقدر الأدب البوليسي، فكيف استثمره فنّ البوب (الـpop art) في مصر؟
القطع الصغير، والنصوص البوليسية المثيرة وسهلة القراءة جعلت ألغاز "المغامرون الخمسة" تصبح في كل حقيبة مدرسية في مصر، حيث وصلت مبيعاتها إلى 20 مليون نسخةالمشروع الذي أطلق عليه روايات مصرية للجيب، بدأ بأعمال نبيل فاروق وشريف شوقي، حيث بدأ نبيل فاروق سنواته الذهبية بسلسلة ملف المستقبل ثم رجل المستحيل، ولم يتوقف حمدي مصطفى بشبكة توزيع غطت كافة الدول العربية بلا استثناء، ولكنه فرد مساحات للأدب المصور ذي التكلفة العالية نسبياً ولم يكن متوفراً في البوب آرت المصري بهذه المساحات. هكذا بدأ الفنانان معلوف وفواز ثم خالد الصفتي في إحداث ثورة بالكوميكس المصري عبر البوب آرت. وبعد أن كان قارئ الروايات الصغيرة ينتظر محمود سالم ودار المعارف فحسب، أصبح هنالك 10 سلاسل شهرية تطرح بأسعار زهيدة، لتصبح خير بداية للناشئة من أجل بداية القراءة وتعلم احترام الكتاب واقتنائه. لم يكن مشروعاً ثقافياً فحسب بل تمتع برؤيا تربوية لبث قيم الاحترام والحفاظ على كل ما هو خير وجميل في الحياة، واحترام الآخر والمساواة الجندرية، ومكونات المجتمع، وتمجيد قيمة الفن والآداب والقراءة والسينما والمسرح. نال مشروع روايات مصرية للجيب جائزة سوزان مبارك في أدب الطفل، كما نال نبيل فاروق جائزة الدولة التشجيعية، بعد أن وصل مجمل أعماله من كتب الرواية والقصة والمقال إلى 500 عنوان. [caption id="attachment_146011" align="alignnone" width="700"] د. أحمد خالد توفيق[/caption] ولكن بحلول عام 1992 جرت ثورة داخل المؤسسة العربية الحديثة، حينما وصل د. أحمد خالد توفيق إلى أبوابها، وبدأ في نشر سلسلة ما وراء الطبيعة ثم فانتازيا وسافاري. يمكن القول بلا جدال إن خالد توفيق هو مؤسس أدب الرعب في مصر، سواء الرواية أو القصة القصيرة، وقد تتلمذ على كتابته ويده مع نبيل فاروق أغلب الكتاب الشباب في مصر خاصة موجة الكتابة الجديدة أوائل الألفية الثالثة، ممن أصبحوا لاحقاً من أهم كتاب جريدة الدستور ومجلة بص وطل الالكترونية، واليوم تجدهم من أهم أعمدة الصحافة والإعلام المصري عقب ثورة 25 يناير. وإذا كان الـ"بوب آرت" في مصر هو أدب موجه للشباب وليس صغار السن فحسب فإنه على يد خالد توفيق توسع ليشمل كافة الشرائح العمرية التي كانت تكتظ بها ندواته.
الفرقة الانتحارية ومشروع محمود قاسم السينمائي
شجعت تجربة حمدي مصطفى العديد من دور النشر في تقديم الأدب الشعبي والأدب المصور. مكتبة الغريب سارعت بالتعاقد مع الكاتب الشاب مجدي صابر لإصدار سلسلة "مغامرات بوليسية للأولاد والبنات" ومع هذا النجاح الذي وصل إلى 33 رواية. شركة ميدلايت تعاقدت مع مجدي صابر أوائل التسعينات لتقديم مشروع كامل، سلسلة الفرقة الانتحارية، وكوبرا، ومغامرات جمعة وشركائه، ولكن أغلب المشاريع توقفت نهاية التسعينات بعد أن تحول مجدي صابر للكتابة التلفزيونية وأصبح من أهم كتاب الدراما بعد قرابة 100 رواية في عالم البوب آرت. نهضة مصر اهتمت بالبوب أرت بشكل مختلف، وعبر الناقد السينمائي الشاب محمود قاسم الذي يعد اليوم من أهم كتاب مجاله، قدم قاسم سلاسل "أجمل حكايات الدنيا" والتي تبسط أهم النصوص السينمائية الشهيرة. وقد بدأ أولاً بالنصوص الضاحكة مثل أفلام شارلي شابلن ثم لوريل وهاردي وبالفعل نجح في خلق جمهور جديد مهتم بالاطلاع على النصوص السينمائية والنقدية ومعرفة ما يجرى وراء شاشات السينما. يمكن القول إنّ أدب البوب آرت في مصر ليس للهواة أو الناشئة فحسب، حيث يمكن مع أبسط ندوة لأحد هؤلاء الكتاب أن نجد تنوع في الأعمال والطبقات والثقافة. وعلى المستوي العالمي بعيداً عن تعقيدات المثقف المصري فإن هذا الأدب معترفٌ به، بل وأصبح المنهل الأول للسينما الأمريكية طيلة عقدين من الزمن. كما أنّ بعض المراجع الأدبية تصنف بعض الروايات المصورة مثل V for Vendetta وWatchmen باعتبارها من أهم روايات القرن العشرين، كما أن العالم أجمع يقدّر الأدب البوليسي مثل روايات شارلوك هولمز، أو الخيال العلمي خاصة روايات الأديب الفرنسي جول فيرن. ويعتبر البوب آرت خير بداية لأي شخص يريد الاطلاع وبدء سلك دروب القراءة والآداب، وبالفعل فأن الـ"بوب آرت" هو صاحب الفضل الأول في انتزاع الآلاف من الشباب من المقاهي إلى الندوات الثقافية ومن أمام شاشات التلفزيونية لمتابعة مباريات كرة القدم إلى دفوف الكتب لقراءة أحدث مغامرات وأحداث "المغامرون الخمسة" وأدهم صبري ورفعت إسماعيل.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...