بعيد سويعات بالكاد استطاع أن يغفو فيها، ينهض وليام شيكسبير من فراشه قلقاً مشغول البال، يبحث عن الجوال. بجفنين نصف مسدلين ينظر من حوله: عساه مركوناً على ناصية السرير، لا يجده، يهرع إلى الغرفة المجاورة، فقد تذكّر للتو عهداً قطعه بالأمس على نفسه، بأن يبعده عنه علّه يستطيع النوم... هاهو ذا على الطاولة قرب المدفأة، حيث الشمعة المطفأة والأوراق المبعثرة، ينتزعه من مأخذ يشحنه طوال الليل، ينقر عليه بإبهامه فتضيء شاشته، يلج صفحته على تويتر، يبدأ بعدِّ اللايكات وإحصاء المتابعين والمتابعات، يقرأ التعليقات الواردة على تغريدته الأخيرة، ليجد ما يثلج الصدر ويستوجب التحية والشكر، وما يثير الغضب ويستدعي الرد السريع المقتضب.
وراء تلك الدعابة حقيقة مفادها أن الشاعر والكاتب المسرحي الأشهر وليام شكسبير، يملك بالفعل ومنذ عام ألفين وثمانية، حساباً على موقع تويتر؛ حاله كأحوال الانتحال الساخر لشخصيات تاريخية وتمثيلها في حسابات وهمية تعجّ بها مواقع التواصل الاجتماعي. أمام تلك الدعابة نافذة تفتح، ليسلط الضوء من خلالها على حقل أدبي يعتمد المنصات الإلكترونية منابر له، وينشط فيها منذ حلول الألفية الحالية، مئات الألوف من الكتّاب، يشاركهم الملايين من القرّاء والمتابعين. وهذا ما بحثه مقال الغارديان البريطانية، "أدب تويتر" الذي يتابع 21 كاتباً وكاتبة، حاولن/حاولوا كتابة رواية في 140 حرفاً، وهو أقصى حد للتغريدات قبل أن يغيرها تويتر إلى 280.
هنا مثال منها، للكاتب Geoff Dyer:
I know I said that if I lived to 100 I'd not regret what happened last night. But I woke up this morning and a century had passed. Sorry.” link"
نروي القصص لنطمئن إزاء غموض الحياة وحتمية الموت
رواية القصص نشاط تتأهب له، عند المتلقي والراوي، مجمل أقسام الدماغ، هي إحدى مساعي المرء في تفهّم الوجود من حوله، وإحدى مثبّتات الأنا ومطمئناتها النفسية إزاء حال الغموض التي تكتنف الحياة، إنها وسيلة لتوكيد الذات والتعبير عنها والتأكيد عليها بين الذوات، وتمرّد على سيرورة الوقت وحتمية الموت، كما أنها وسيط تواصل بين الناس، وصلة وصل بين لحظاتهم الغابرة والعابرة والمقبلة؛ طريقهم إلى استعادة مايظنونه ماضياً، ومعاينة ما يواجهونه حاضراً، واستشراف مستقبل، إما يخافونه أو يتوسمون فيه الخير.
تلقفت شركات السوشال الميديا الحاجة البشرية لرواية القصص، ومنحت منصّاتها منابر للعموم، حتى تلك التي اختصت بداية بالمادة البصرية الثابتة والمتحركة، "كسناب شات" و"إنستغرام"، أتاحت لمستخدميها حيّزاً يكتبون فيه، فيما لا يزال الفيسبوك إلى اليوم يسأل، بُعيد ولوج الحساب في أعلى الصفحة: ما قصّتك؟ أما موقع تويتر، منبر شيكسبير المفضّل، فقد زاد من عدد الحروف الممكنة في تغريداته من مئة وأربعين، غداة انطلاقته، إلى مئتين وثمانين، بغية توسيع المجال أمام السرد وإتمام المواضيع والأفكار.
السوشال ميديا تستثمر رغبتنا في رواية القصص وقراءتها، وفتحت مجالاً لفنّ سردي مينيمالي، تصغيري ومكثف نثرياً.
بين وسيلة استعراض آني للأنا ووسيط مباشر للتعبير اللغوي، تميّز أدب فيسبوك، أو تويتر، ملامح يستمدها من كتّابه وقرّائه، إضافة إلى خصوصيات أجوائه وأدواته. "جنريشن - إم"، أو جيل الميديا، بات ينتظر من الكاتب الفيسبوكي أن يتعاطى فورياً، واقعياً أو مجازياً، مع قضايا راهنة، أخبار عاجلة وأحداث تجري للتو، له ومن حوله. في المقابل، وبتأهب انفعالي، يتخذ الكاتب وضعية ردّ الفعل والاستجابة استعداداً للمواكبة والمتابعة، إثر إشارات عاطفية ترده من دارات الردود الاجتماعية المؤكِدة للذات، من "لايكات" وتعليقات، أو صور وجوه تضحك، تغضب أو تدمع، وأفئدة تشعّ وتلمع، تزهر وتتطاير.
من اللافت في هذا الصدد، ألا توفّر المنصات المختلفة أي أداة لإبداء عدم الإعجاب، الغاية لعلها، التحكم في صعود وهبوط الدوبامين المنشّط للدورة الدموية والجهاز العصبي، عبر توليد لذّة الاستحسان والقبول اضطراداً، فلتحقيق المزيد، ينبغي التحريض جهة التزام الحضور والتفاعل مع الجمهور، ذلك من شأنه أن يرسم شكل النص التويتري أو الفيسبوكي، ويؤثر في مضمونه، جاعلاً من اللايك أشبه بعملة شعورية تحدد القيمة المعنوية، وربما قريباً المادية، وتنعكس على أطوار الكاتب النفسية وغايات الثقة بالنفس عنده.
"أدب السوشال ميديا"... متحرر من وصاية المحرر مكبّل بقيود الاختزال
في غمرة النوافذ التنبيهية المتفتحة كل هنيهة، الرسائل الواردة كل ثانية والعلامات التجارية المضيئة في هوامش الصفحات، أمست الاستثارة الحسية المستمرة والانتباه الذهني المفرط، من مميزات سلوكيات جيل الميديا حيال استقباله ومعالجته المعلومات، بيد أن ذلك بحسب الدراسات، لا يجعل منه أقل تركيزاً وتفاعلاً بل أكثر، وإن بنمط متفرّع يعمل على عدة مستويات وبآن معاً، الأمر الذي يستدعي لدى الكاتب الفيسبوكي إبداء الأولوية، ليس للسرد، وإنما لموضع الأثر، ما يدعى "بالكيريجي" في قصيدة الهايكو اليابانية، أو استعارة: "اللكمة الشعورية"، وذلك من أجل قنص الانتباه قبل فواته وإفلاته صوب صورة هنا، أو مشهد هناك.
لذا، تستأثر بالنص الفيسبوكي السردية المينيمالية، التصغيرية والتكثيف النثري، بغية القبض على الأدمغة السابحة في بحور المعلومات المائجة، وقنص العيون الهائمة في سماوات الإنترنت البارقة. لغته متحررة من وصاية المحرر، ومرات من عنايته من جهة، ومن جهة أخرى مكبّلة بقيود الاختزال، داخل حصن الوقت وخلف متراس الشاشة، تحاول محاكاة الطرح العفوي والنبرة التلقائية، تسعى إلى استدرار اللكمات الشعورية، واستدراج التماهي الجماهيري بقصد المبادلة العاطفية، واستمالة القارئ العابر نحو فردوس من التنميطات المريحة.
السوشال ميديا في إطار رؤيتها، من حيث التصميم والوظيفة، كمرآة عاكسة، أو مصفاة للأنا، من شأنها أن تموضع الكاتب الفيسبوكي، شاء أم أبى، أمام نصه وليس خلفه، أو فيه في أحسن الأحوال؛ فالوسيط لم يعد كتاباً في يد القارئ، وإنما حساب باسم الكاتب، مما يؤدي بالأخير لأن يتقمّص نصّه، أن يشخصنه، حتى لو روى عن الآخرين، أو تطرّق لمواضيع تهمّ عموم المشاهدين، تبقى القصة قصّته والحكاية حكايته، الرواية روايته، والمقولة مقولته، هو الراوي والبطل في آن، ولعل ذلك ما حدا بالشاعر اللبناني عقل العويط، خلال مقالة شيّقة له، مطبوعة في صحيفة النهار، عن نجم الفيسبوك السوري عبود سعيد، أن يتساءل :
"إنها (أي، نصوص سعيد) تكتب نفسها بنفسها، وكأن لا كاتب يدبّج السرد وراءها، من فرط بداهتها الذكية، ومن حيت أنها تنجم عن طبع السرد السيَري أكثر من أعباء التكلّف الأدبي. ألهذا السبب، يا ترى، يصير العنوان هو اسم المؤلف، أو العكس، بحيث لا يسع القارئ أن يفصل بينهما فصلاً بيّناً؟!".
في الماضي، كان نشر الكتب يقود إلى الشهرة، أما اليوم، قد تقود الشهرة، أونلاين، إلى نشر الكتب
في الماضي، كان نشر الكتب يقود إلى الشهرة، أما اليوم، قد تقود الشهرة، أونلاين، إلى نشر الكتب. فالعديد من اليوتيوبر والفيسبوكيين وكتاب تويتر، استفادوا من صلتهم المباشرة بالناس، وظّفوا طاقاتهم الإبداعية واستغلوا غياب الرقابة وقنوات التحرير، وبشيء من محاسن الصدف ومشيئة القدر، حققوا جماهيرية واسعة عبرت الحدود، في عصر بات يشهد انخفاضاً في معدّلات القراءة التقليدية، مقابل تزايد في الإقبال على السوشال ميديا، بحسب دراسة تحت عنوان "القراءة في خطر" أعدتها المنحة القومية للفنون في الولايات المتحدة، خلال كل من عامي 2004 و2007.
تحولت جدران السوشال ميديا إلى مشهد ثقافي تكوّنت بفعله أدوات جديدة، أثمرت لغة خاصة، برقيّة، خاطفة وكثيفة، مختزلة ومكتملة، ومتمحورة حول ذات الكاتب/ة ومعايشاته/ها اليومية، سوف تنعكس حكماً على الذائقة الأدبية داخل الإنترنت وخارجه
لابد لطبيعة وسائل الكتابة والنشر وسياقات القراءة المحيطة بها، من أن تؤثر في النص، إلا أنها في الأخير ليست ما يُنتجه. لقد شكّلت جدران السوشال ميديا مشهداً ثقافياً تكوّنت بفعله أدوات جديدة، وتمخّضت عنه لغة خاصة، برقيّة، خاطفة وكثيفة، مختزلة ومكتملة، ومتمحورة حول ذات الكاتب/ة ومعايشاته/ها اليومية، سوف تنعكس حكماً على الذائقة الأدبية داخل الإنترنت وخارجه، فيما تؤثر للتو على الخطاب السياسي والاجتماعي في الفضاء العام. لو أن وليام شكسبير يعيش اليوم، والحساب حسابه بالفعل، لربما كان ينظم الآن قصائده "السونيتات" على جوّاله، ويهمّ بتغريدها تباعاً على تويتر، أما أن تحصد له مئات اللايكات، فذلك من غياهب الغيب، فيما يبقى اليقين أنها منجزات إبداعية رفيعة، وتحف أدبية قيّمة، سواء طبعت على ورق أم رفعت في غيمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 8 ساعاترائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 19 ساعةحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يوممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين