اليتم ثقب كبير حتى بدون الحرب
نشأتُ يتيما، أظن أنّ الجنة كلها ستكون من نصيب جدتي وأعمامي، لم يمر عليّ عيد في طفولتي بدون كسوة؛ أجمل معطف في القرية كان لي، كل بهجة العيد كانت لي، لذا لا أعرف كيف أبكي اليوم بالنيابة عن اليتامى الذين بلا أباء وبلا جدات، وعن الفقراء الذين لا يلتفت إليهم أحد بينما تبكي أمهاتهم حسرة على صغارهن الذين يختبئون من أقرانهم ممن يرتدون ملابس العيد الجديدة.ما معنى أن تكون صغيراً بلا حذاء جديد، وأن تشاهد الصغار يدورون بأكياسهم فرحين بالعيد بينما أنت تكتم دموعك أمامهم، تود أن تقول: سيشتري لي أبي مثلها، لكن أين هو؟ يجيبك: أنا هنا في المقبرة، يقول لصغاره لا تحزنوا، فلكم في الجنة ثياب جميلة وأحذية ومكسرات وعيدية وفيرة.
الصغار لا ينامون قبل العيد، تتحرك في مخيلاتهم روائح الحاجيات الجديدة، يصيبهم الأرق قبله بشهر وهم يتساءلون عمّن سيشتري لهم الهدايا؟تخيلوا الفقراء، ضحايا الحرب، اليتامى في هذا الصباح، تستيقظ الأم وتنادي ولدها، فيرفض الاستحمام، ويرفض الذهاب لصلاة العيد، فتريه كسوته البالية التي رقعتها بصعوبة: "أنظر إنها جديدة لم تتمزق". يرفض الطفل الذي شاهد كل حاجيات أقرانه، يعرف خدعة أمه الفقيرة.
تنزوي الأم الى الجدار وتبكي .
لقطة من العيد قبل الحرب
كنت طفلاً أعيش في ريف خارج مدينة تعز، حيث تبدأ طقوس العيد قبل أيام كثيرة منه، العيد للأطفال، العائلة كلّها تسعى لتوفير الطقس والفرح لهم في عيدين يقدسهما العالم الاسلامي، لكن في اليمن غادرت الرمزية الدينية عن العيد وتحوّل إلى طقس شعبي يمارسه اليمنيون مرتين في السنة بعيداً عن أي ارتباط سماوي.اليهود والأقليات القليلة في اليمن تمارس طقس العيد كما يمارسه المسلمون، وذلك لتجذره في الوعي الشعبي كفرحة عالية تجمع الكل، حيث كل شيء جديد ولامع، الثياب والحلويات وحتى الأضحية. ففي مجتمع كان متوسط الحال قبل الحرب وصار مدمّراً بعدها، تعتبر الأضحية أمراً جللاً، نستطيع القول إن قلة قليلة اليوم من اليمنيين يعرفون اللحم أكثر من مرة في السنة.
تستيقظ الأم وتنادي ولدها، فيرفض الاستحمام، ويرفض الذهاب لصلاة العيد، فتريه كسوته البالية التي رقعتها بصعوبة، يرفض الطفل الذي شاهد كل حاجيات أقرانه، يعرف خدعة أمه الفقيرة
تنزوي الأم الى الجدار وتبكي
في طفولتي كنت أنتظر أخي الأكبر جبران كلما ذهب إلى مدينة تعز في وسط اليمن بين الشمال والجنوب لجلب ملابس العيد الجديدة لي ولإخوتي. في الليل لا أنام وأنا أنتظره، وفي النهار أرقب الأفق بانتظار السيارة التي تقلّه عائداً.
كنت أتحمس كلما ظهرت سيارة جديدة أملاً بأنّ يكون جبران فيها. أتصلب هناك في الأفق وأنا أخمّن لون وشكل ونوعية كسوة العيد الجديدة. وهل تليق بمقامي؟ وهل هي أفضل وأرقى من ملابس أصدقائي؟
العيد وُلد ريفياً، ففي الأرياف يتبارى الصغار ومن ثيابه أجمل، ويدور الطفل بملابسه الجديدة على بيوت الجيران ليبهر الناس، ينام وهي في حضنه، فلا يمكن لطفل أو شاب أو كهل حتى أن يلبس ملابسه قبل العيد بثانية. كلنا ننتظر الصباح.
ثم تكثر الألعاب، أشهر في اليمن هو السلاح، أشكال مختلفة منه، مسدسات، بنادق آلية تطلق الخرز البلاستيكية وغيرها، وهي نتاج طبيعي عن "حربية" المجتمع اليمني لتجسيده صورة طبق الأصل عن الطبيعة القبلية وانتشار السلاح وكرامته لدى الفرد.
وبسبب وجود تبارٍ كبير في اقتناء السلاح الحقيقي من عمر الشباب وما أعلى وفي مهارة استخدامه وفي حمله طيلة الوقت يدخل الطفل حلبة المباراة مبكراً بلعبته.
وطبعا لا ننسى "الطماش" وهي مفرقعات صغيرة على شكل متفجرات تصدر ناراً وصوتاً مفزعاً، وقد تفاقمت أحجامها كثيراً منذ طفولتي حتى صارت تتسبب بضرر كبير وشلل في الأصابع إذا لم ترمها بسرعة من يدك، أما صوتها فقد صار مدوياً يعلو على صوت بندقية الكلاشنكوف الآلية.
طيلة السنة يحسد أطفال القرى أطفال المدن على سكناهم ولكن في الأعياد يحسد أطفال المدينة أقرانهم في القرى، لمعالجة هذا الحسد عند الصغار تغادرالعائلات التي لديها ارتباط ريفي إلى القرى لقضاء العيد، وهذا أحد أهم طقوس العيد في اليمن الذي يجمع العائلة الكبيرة بكل جذورها وفروعها.
بعد الصلاة وزيارة الموتى يعود الأطفال إلى بيوتهم للسلام والمصافحة وأكل الزبيب والفستق والشوكولاتة التي لا يخلو منها بيت، فتصافح أهلك وكأنك تصافحهم لأول مرة بعد غياب طويل ومن ثم يتقافز الأطفال إلى بيوت الأقارب والجيران لحصاد العيدية، فلا تأتي الظهيرة إلا وجيوبهم ممتلئة بالأموال وبطونهم متخمة بمكسرات العيد، والعيدية هي الطقس الأهم في العيد، ويحاذر الناس عدم توفيرها كيلا تنكسر قلوب الصغار.
منذ اندلاع الحرب في اليمن وانقطاع الرواتب والانسحاق التام للمجتمع بانعدام أهم الضروريات تحول العيد إلى فخ كبير يصيب الكبار بالهلع من عدم إمكانية إدخال الفرح إلى قلوب الصغار، وبصورة أوضح: لقد سرقت الحرب العيد من الأطفال.
معظم أطفال اليمن يقضون عيدهم اليوم بلا كسوة، وهل يعتبر العيد عيداً بدون ملابس جديدة؟
كنت أتحمس كلما ظهرت سيارة جديدة أملاً بأنّ يكون جبران فيها. أتصلب هناك في الأفق وأنا أخمّن لون وشكل ونوعية كسوة العيد الجديدة. وهل تليق بمقامي؟ وهل هي أفضل وأرقى من ملابس أصدقائي؟
العيد وُلد ريفياً، ففي الأرياف يتبارى الصغار ومن ثيابه أجمل، ويدور الطفل بملابسه الجديدة على بيوت الجيران ليبهر الناس، ينام وهي في حضنه، فلا يمكن لطفل أو شاب أو كهل حتى أن يلبس ملابسه قبل العيد بثانية. كلنا ننتظر الصباح.
ثم تكثر الألعاب، أشهر في اليمن هو السلاح، أشكال مختلفة منه، مسدسات، بنادق آلية تطلق الخرز البلاستيكية وغيرها، وهي نتاج طبيعي عن "حربية" المجتمع اليمني لتجسيده صورة طبق الأصل عن الطبيعة القبلية وانتشار السلاح وكرامته لدى الفرد.
وبسبب وجود تبارٍ كبير في اقتناء السلاح الحقيقي من عمر الشباب وما أعلى وفي مهارة استخدامه وفي حمله طيلة الوقت يدخل الطفل حلبة المباراة مبكراً بلعبته.
وطبعا لا ننسى "الطماش" وهي مفرقعات صغيرة على شكل متفجرات تصدر ناراً وصوتاً مفزعاً، وقد تفاقمت أحجامها كثيراً منذ طفولتي حتى صارت تتسبب بضرر كبير وشلل في الأصابع إذا لم ترمها بسرعة من يدك، أما صوتها فقد صار مدوياً يعلو على صوت بندقية الكلاشنكوف الآلية.
صبيحة العيد: الفرح والجري بلا توقف
طيلة السنة يحسد أطفال القرى أطفال المدن على سكناهم ولكن في الأعياد يحسد أطفال المدينة أقرانهم في القرى، لمعالجة هذا الحسد عند الصغار تغادرالعائلات التي لديها ارتباط ريفي إلى القرى لقضاء العيد، وهذا أحد أهم طقوس العيد في اليمن الذي يجمع العائلة الكبيرة بكل جذورها وفروعها.
بعد الصلاة وزيارة الموتى يعود الأطفال إلى بيوتهم للسلام والمصافحة وأكل الزبيب والفستق والشوكولاتة التي لا يخلو منها بيت، فتصافح أهلك وكأنك تصافحهم لأول مرة بعد غياب طويل ومن ثم يتقافز الأطفال إلى بيوت الأقارب والجيران لحصاد العيدية، فلا تأتي الظهيرة إلا وجيوبهم ممتلئة بالأموال وبطونهم متخمة بمكسرات العيد، والعيدية هي الطقس الأهم في العيد، ويحاذر الناس عدم توفيرها كيلا تنكسر قلوب الصغار.
تنويع على الموت والشقاء
منذ اندلاع الحرب في اليمن وانقطاع الرواتب والانسحاق التام للمجتمع بانعدام أهم الضروريات تحول العيد إلى فخ كبير يصيب الكبار بالهلع من عدم إمكانية إدخال الفرح إلى قلوب الصغار، وبصورة أوضح: لقد سرقت الحرب العيد من الأطفال.
معظم أطفال اليمن يقضون عيدهم اليوم بلا كسوة، وهل يعتبر العيد عيداً بدون ملابس جديدة؟
أثّرت الحرب بشكل صارخ على سلامة الأطفال النفسية، فتحول صغار السن الى أشقياء يجوبون الشوارع والمحلات لجمع مبالغ ضئيلة لا تكفي لأبسط احتياجات العيد. فمن العيب في اليمن ألا تلبس الجديد وألا تحمل مبلغاً يمنحك السعادة. ولذا أصبح أولئك الذين لا يملكون أي شيء من بهجة العيد يحتجبون في منازلهم، لا يصلون العيد، لا يزورون أحداً.
كذلك سترى انتشارا كبيراً لعمالة الأطفال في الشوارع المخيفة قبل العيد في اليمن.
أحد الذين أعرفهم فقد شقيقته ليلة عيد وهي ترتب ملابسها الجديدة، بعد أن ضربت قذيفة من جماعة الحوثي منزلهم. سقطت القذيفة على حجرة من حجرات البيت، وضاعت مأسأة العائلة في ضوضاء وبهجة العيد، الناس لا يلتفتون لدمعة أحد يبكي صبيحة العيد. دفنت الطفلة دون حضور أحد، ودون عزاء.
هذه الصلات هي المنقذ الوحيد لحالة الأسر الأشد فقراً والتي لا تحصّل قوت يومها، فإذا وجدتهم يلبسون الجديد ويذبحون الأضاحي ويفرحون ويبتهجون فعليك أن تدرك الاستدانة سراً من صديق أو قريب أو "العطية" من أحد الميسورين هي ما منحهم هذه البهجة المؤقتة.
بكى الأطفال طويلاً على ثياب العيد المحتجزة في تعز، فالهدية التي قطعت المسافات من قارة إلى أخرى وتجاوزت اللهجات واللكنات لم تستطع الوصول في يوم العيد.
لكن أهم ما انقطع في اليمن هو الجغرافيا الاجتماعية التي قسمت البلاد الى قمسين بينهما حرب ودم وزنازين ومئات الألاف بل ملايين الناس العاجزين عن منح فرحة العيد لذويهم.
أمهات لم يرين أبناءهن منذ سنوات. أزواج وزوجات تفصلهم مسافات بعيدة. عائلات انقطعت بعضها عن بعض وتمزقت أواصرها. أما حكايتي مع الفراق بسبب الحرب فهي أمي، هذا هو العيد العاشر الذي أقضيه دون أمي.
كذلك سترى انتشارا كبيراً لعمالة الأطفال في الشوارع المخيفة قبل العيد في اليمن.
أحد الذين أعرفهم فقد شقيقته ليلة عيد وهي ترتب ملابسها الجديدة، بعد أن ضربت قذيفة من جماعة الحوثي منزلهم. سقطت القذيفة على حجرة من حجرات البيت، وضاعت مأسأة العائلة في ضوضاء وبهجة العيد، الناس لا يلتفتون لدمعة أحد يبكي صبيحة العيد. دفنت الطفلة دون حضور أحد، ودون عزاء.
معظم أطفال اليمن يقضون عيدهم اليوم بلا كسوة، وهل يعتبر عيداً بدون ملابس جديدة؟
الصلات الاجتماعية هي المنقذ الوحيد
حالة الناس في اليمن كارثية بشكل لا يمكن للعالم تصوره. لا شيء يخفف من اكتمال المأساة سوى الصلات الاجتماعية التي تقلل من معاناة الناس وتعزز العلاقات بين شرائح المجتمع وشد أزر المحتاج، إضافة إلى الهدايا والحضور في الملمات وأعراف الأخذ والعطاء والود بين العائلات.هذه الصلات هي المنقذ الوحيد لحالة الأسر الأشد فقراً والتي لا تحصّل قوت يومها، فإذا وجدتهم يلبسون الجديد ويذبحون الأضاحي ويفرحون ويبتهجون فعليك أن تدرك الاستدانة سراً من صديق أو قريب أو "العطية" من أحد الميسورين هي ما منحهم هذه البهجة المؤقتة.
بكى الأطفال طويلاً على ثياب العيد المحتجزة في تعز، فالهدية التي قطعت المسافات من قارة إلى أخرى وتجاوزت اللهجات واللكنات لم تستطع الوصول في يوم العيد.
لكن أهم ما انقطع في اليمن هو الجغرافيا الاجتماعية التي قسمت البلاد الى قمسين بينهما حرب ودم وزنازين ومئات الألاف بل ملايين الناس العاجزين عن منح فرحة العيد لذويهم.
أمهات لم يرين أبناءهن منذ سنوات. أزواج وزوجات تفصلهم مسافات بعيدة. عائلات انقطعت بعضها عن بعض وتمزقت أواصرها. أما حكايتي مع الفراق بسبب الحرب فهي أمي، هذا هو العيد العاشر الذي أقضيه دون أمي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...