شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
شمسُ منتصفِ اللّيل... دعوةٌ لحياةٍ أكثر حياة

شمسُ منتصفِ اللّيل... دعوةٌ لحياةٍ أكثر حياة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 7 يوليو 202204:22 م

تم نشر هذا الموضوع بالإتفاق مع موقع "الرواية"

صدر حديثاً وخلال الشهر الماضي؛ حزيران 2022 عن دار كلمات في الكويت رواية "شمس منتصف الليل" للكاتبة دلع المفتي؛ روايةٌ برغم توسط حجمها (172 صفحة من القطع المتوسط) إلا أنها تضيقُ لحدّ الفيضِ بما فيها. فهي تمزجُ في موضوعها ما بين الوجوديّ والاجتماعيّ والنفسيّ، وما بين الذاتيّ والموضوعيّ لتقديم تجربتها الفكريّة والجمالية؛ كما تزاوج بين الواقعية والواقعية السحرية، كأداة جمالية لتقديم أفكارها ورؤاها.

وإذا كان من أهم تعريفات الأدب أنّه موقفٌ من الحياة وخلاصةُ تجارِب وذكرياتٍ مكانيّة وزمانيّة، فإن رواية "شمس منتصف الليل" هي من أصدقِ الأمثلة التي تؤكد صحة هذا التعريف.

تتناول حكايةَ امرأتين (شمس وقدرية) بينهما الكثيرُ من الفروق التربويّة والاجتماعيّة والثقافية ولكن يوحّد بينهما المرضُ؛ فتجمعهما غرفة العلاج الكيماوي لأمراض سرطان الثدي، ويحفر الألم والقدرُ طريقاً مشتركاً وصداقة حميمة لما تبقى من حياتيهما، ويظهر جلياً تأثير شخصية شمس بصديقتها وهي الأكثر إيغالاً في تجربة المرض؛ والتي وصل أملها بالشفاء إلى طريق مسدود، لكنها لم تستسلم فقد قررت أن تعيش ما تبقى لها من أنفاسٍ بكلّ حواسّها، وأن تمشي بما بقي لها من خطوات قدْرَ استطاعتها لتستكشف سطح هذه الأرض قبل أن يغيّبها ترابُها.

"كأنها شعرت بأنه لم يعد لديها الوقت الكافي للمجاملة أو الانتظار فقطار العمر ينحدر نحو محطاته الأخيرة، لا بد من فتح كلّ نوافذه التي أغلقتها على نفسها، يجب أن ترى كلّ مشهد يمر به ذاك القطار الذي لا يرحم ولا يتوقف ولا ينتظر ولا يعود إلى الوراء".

فتقرر مع صديقتها وشريكتها في المرض القيام برحلة إلى إيطاليا للاستجمام والتعرّف إلى عوالمَ جديدة؛ بل تقرر هناك أن تتعلم طرقَ الطبخِ الإيطالي، وأن تتزوج -وهي المطلقة والجدّةـ من الشخص الذي أحبته برغم اعتراض ابنتها وبرغم وصول التقارير التي تؤكد لها أن أيامَها معدودة.

تقرر مع صديقتها وشريكتها في المرض القيام برحلة إلى إيطاليا للاستجمام والتعرّف إلى عوالمَ جديدة؛ بل تقرر هناك أن تتعلم طرقَ الطبخِ الإيطالي، وأن تتزوج -وهي المطلقة والجدّةـ من الشخص الذي أحبته برغم اعتراض ابنتها وبرغم وصول التقارير التي تؤكد لها أن أيامَها معدودة

تبدأ الرحلة مع بداية الرواية، وبطريقة التداعي يتم استعادة الحلقات المفقودة من الماضي، ومع انتهاء الرحلة والعودة تكون نهاية شمس الحتميّة وتُختم الرواية بتنفيذ وصية شمس وهي إقامة حفل فَرحٍ وغناء لا مأتم حزن وعزاء.

وسأحاول في هذه العجالة أن أقف نقدياً عند بعض النقاط التي رأيت أنها تميز هذا العمل عن الكم الكبير للأعمال الروائية التي تقذف بها دور النشر العربية صباح مساء.

العتبات النصيّة ومضمون النص:

تحاول الرواية أسر القارئ بدءاً من عنوانها اللافت للفكر بما يتضمنه من ثنائية ضديّة؛ حيث اعتمد العنوان نحويّاً التركيب الإضافي وذلك بإضافة متناقضين (شمس / منتصف الليل) وليكون هذا عنوان عتبةً نصيّة مُوفقة لدخول شبكةٍ متداخلة من الثنائيات الضدية التي اعتمدتها الرواية كآليّة بناء سردي لتقديم رؤاها، وليجد القارئ ذاته أسير سحر تلك الغابة الشائقة من الأضداد بدءاً من الحياة والموت، والوجود والعدم، الصحة والمرض، الوفاء والخيانة، الفرح والحزن، الحب والكره، العلم والخرافة، الإنجاب والعقم، الوئام الأُسَريّ وفشل العلاقات الأسَريّة والزوجيّة، صراع الأجيال (الجدة والأب والأم والأولاد والأحفاد) العادات والتقاليد والتمرد عليها، العلاقات الجنسية الطبيعية والعلاقات المثلية الشاذة وثنائيات أخرى وكلها طرحت بحامل حكائي بعيداً عن المباشرة والسرد التقريري والإخباري. ومن هنا يمكن القول أنّ عنوان النص كان ممهداً صادقاً لدخول المحتوى الذي يتضمنه العمل.

البداية المُتمدّدة:

"على حجارة روما العتيقة، والمستسلمة لقدرها منذ آلاف السنين، كانت الحياة تمور بكل صخبها. افترشت طاولاتُ المطاعم كلَّ المساحات المتاحة. صخب الناس، ضحكات الأطفال، صراخ الكبار، موسيقى الشارع، أصوات قرع الكؤوس ورنين الملاعق والشوكات على صحون الباستا جعلت المشهد وكأنه حفلة موسيقية عامة". 

بهذه السطور تبدأ الراوية قدريّة الرواية. لتكون بوابةً لدخول النصّ وحَداً فاصلاً بين عالم الواقع الموجود خارج النص والعالم التخييلي الذي يتكون عبر صفحات الرواية. وقد وقف النقد قديماً وحديثاً عند أهمية البدايات في الأعمال الأدبية وهو ما عُرف في نقدنا القديم ببراعة الاستهلال وأهمية المَطلَع وقد أجمع الكثيرُ من النقاد حديثاً على أن البداية الجيدة هي التي تستطيع أن تتمدد في ثنايا النص وتكون ذات فاعلية في بقية أجزائه؛ بل وتلعب دوراً في تحديده وتوجيهه.

ونحن في هذا المطلع أمام رصيف صامت مستسلمٍ لقدره منذ آلاف السنين، وحياة صاخبة تمور فوقه، أي أننا أمام ثنائية أوّلُ طرفيها ثابتٌ والثاني متحرك، وبرغم أنّ مصير الثاني هو الجمود والثبات إلا أنه غيرُ آبهٍ ولا فَطِنٍ لهذا المصير، ولو أسقطنا هذه المعادلة على الشخصيّة الرئيسة "شمس" التي تسير نحو حتفها بخطاً راقصة غير آبهة لموتها الحتميّ. لوجدنا أن لوحة البداية هي انعكاس حقيقي لحياة تلك الشخصية. ولو تابعنا كل الثنائيات المتصارعة في النص لوجدناها نهاياتها الحتمية لا تختلف عن معادلة الحجارة الصمّاء والحياة التي تضج فوقها ماضيةً نحو نهايتها

فهذا الوصف التأملي في البداية والموظف لتبئير الرؤية السرديّة سنرى تمدّده ومقصديّته في الكثير من حوارات النص المتضمنة تأملات فلسفية ووجودية؛ وخاصة لثنائية الحياة والموت واختلاف النظرة إليهما عبر الأزمنة والشعوب ومنه قول شمس:

"الحياة هي طريق إجباري بين نقطتين إجباريتين هما الولادة والموت. ولكن هل تعلمين أنه بالرغم من أن الموت هو الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة وأنها تسري على كل المخلوقات لكن مفهوم الموت يختلف من شعب إلى شعب ومن بلد إلى بلد ومن دين إلى دين".

"الحياة هي طريق إجباري بين نقطتين إجباريتين هما الولادة والموت. ولكن هل تعلمين أنه بالرغم من أن الموت هو الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة وأنها تسري على كل المخلوقات لكن مفهوم الموت يختلف من شعب إلى شعب ومن بلد إلى بلد ومن دين إلى دين"

وكذلك هناك الكثير من المقولات الخاصة بشخصيات الرواية حول في علاقة الحب والزواج وما يترتب عليهما من تداعيات زمنية أو عاطفية، مما لا مجال للاستشهاد به في هذه الدراسة السريعة.

الفضاء المكاني والزماني:

ينظر إلى الزمان والمكان في الرواية على أنهما أشبه بخطي الإحداثيّات العمودي والأفقي لتحديد الأشياء في العمل القصصي وخاصة الحوادث والشخصيات، والذي يبدو غريباً للوهلة الأولى غياب الزمان والمكان المحددين في هذه الرواية، ولكن بالرغم من عدم وجود هذا التحديد إلا أننا نستشف عصراً عاماً فيه تقدمٌ تقني فهو عصر الطائرة والهاتف الجوال والأنترنت وغوغل.. وفيه أيضاً تقدم طبي ينجح حيناً ويفشل حيناً لكنه متطور لدرجة محاولة علاج السرطان بالجرعات الكيماوية، أما الشخصيات فليس معروفاً لأي بلد تنتمي كجغرافيا محددة. فهل من مقصِديّة محددة أرادتها الرواية من ذلك؟

من خلال إدراكنا للمقولات الوجودية وخاصة الحياة والموت التي أرادت الرواية طرحها ندرك أن غياب هذا التحديد كان متعمّداً لأنها أرادت التحدث عن قضايا إنسانية عامة وقواسم مشتركة بين البشر جميعاً؛ البشر الشركاء في هذا المكان الأرضي، وما يعتريه من نواميس الطبيعة والحياة، البشر الشركاء في كل مكان في مواجهة الحياة والموت، وانفعالات الحب والحزن والسعادة والألم وغير ذلك من الثنائيات المطروحة ومنه فتحديد زمان ومكان لن يجدي نفعاً ولن يقدم أيّ مدلول جديد للعمل بل على العكس غيابهما يساعد على تعميم القضايا الإنسانية على كل زمان ومكان ويدفع بالرواية لتصنف ضمن الأدب الإنساني.

بطولة المكان الغائب:

مع غياب المكان الموسوم جغرافياً تظهر في الرواية أمكنة عامة يشترك فيها جميع البشر وتوجد في كل البلاد؛ كالمشفى والمنزل والحديقة والشارع والأماكن السياحية وهذه الأماكن لم يكن الهدف منها احتضان العناصر الروائية فحسب، أي أنها لم تكن حياديةً مطلقاً بل كانت فاعلة أدت وظائف دلالية ونفسية وساهمت في حوادث الرواية وتناميها. فهذه الأماكن الصغيرة هي الأقدر على جمع الناس على اختلافات ثقافاتهم كالمشفى (جمع شمس والدكتور أحمد؛ أي ما بين الصحة والمرض، واليأس والحلم) أو على اختلاف أعراقهم وميولهم كالمطبخ الإيطالي (جمع أبناء الشرق والغرب، إضافة الى الطبيعي والمِثلي، والطفل والعجوز) وكذلك غرفة العلاج الكيماوي هي التي جمعت بين شمس وقدرية برغم التباين الكبير في شخصيتيهما، وكانت بظلمتها ورائحة العقاقير القاسية فيها سبباً للبحث عن المنتجع وهوائه النقي في إيطاليا وهناك يظهر لنا حقل عباد الشمس بطلاً فاعلاً في التأثير على الحالة النفسية للمريضتين وحافزاً دافعاً نحو الحياة جعل شمس التي قطع عنها كلّ أمل بالحياة تفكر بتعلم الطبخ وتحلم بالزواج من حبيبها أحمد فور عودتها، ولا تخفى هنا ثنائية المكان الثابت وهو المنزل والمكان الجديد وهو المنتجع الذي يعكس جِدّته وجمالية على زائرية وباختصار رغم غياب تسمية المكان العام عن الرواية والذي لم يكن أكثر من حاضن في الرواية القديمة إلا أن الأماكن الجزئية والخاصة هنا كانت أكثر عمومية وأثراً وبطولة من ذاك المكان العام التقليدي. وكل ما سبق يعبر عنه ببطولة المكان وفاعليته في النص الروائي.

ومن الأمثلة الجميلة التي توضح أثر الأماكن حتى في معتقدات البشر قول قدرية:

"قد يجد الإنسان نفسه في لحظة عجز ما يلجأ إلى مزار وليّ أو شيخ دجال أو فاتحة ودع.

صدقيني الإنسان هو الإنسان قديما وحديثا، في الشرق أو الغرب، أمام شعوره بالعجز والضعف قد يلجأ لأية وسيلة، فما زال هناك رغم التقدم العلمي المذهل مزار ولي في الشرق تستجديه امرأة لتحبل، وبركة ماء في الغرب يلقي فيها الإنسان قطعة نقدية لتجمعه مع حبيبته وكهف في جبل ما، يصعد إليه الملايين كي يشفوا من أمراضهم." 

ولا يخفى هنا إضافة إلى أثر الأمكنة في ذهنية الشعوب، ثنائية الصراع بين العلم وما يسمى بالخرافة في أعماق الإنسان.

خلاصة القول إنّ "شمس منتصف الليل" تسطع في عالم الرواية العربية ممتلكة الكثير من السمات التي تستحق الدراسة والوقوف عليها والتي تؤهلها لتجد مكاناً خاصاً ومميزاً لها على رف الرواية وذلك بموضوعها الإنساني وتقنياتها السرديّة إضافة إلى بساطة طرح مقولاتها المحلق على أجنحة شائقة من السرد القصصي الذي يمسك بعيني القارئ.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image