"صلوات العذراء حالت الحديد"، الكتاب الذي يتذكره بهاء، شاب مصري قبطي يسكن في الجيزة. كيف لا وقد كانت والدته تحظر عليه، هو وإخوته، لمسه أو حتى الاقتراب منه.
"هذا الكتاب يضاهي الكتاب المقدس في أهميته، في منزلنا ومنازل من نعرفهم، كانت أمي تحفظه في مكان مغلق، وكانت حين نسألها ترد أنه يحمي بيتنا من الشياطين والأرواح الشريرة"، يقول بهاء (اسم مستعار) الذي يعمل بالمحاسبة وتعود أصوله للمنيا جنوب مصر.
"ظللت خائفاً من سر هذا الكتاب".
يتوقف الشاب هنيهة عن الكلام، ثم يستأنف: "ظللت خائفاً من سر هذا الكتاب ولم أجرؤ على تصفحه طوال عمري".
تتفق معه ناهد، سيدة سبعينية تسكن حي شبرا في القاهرة، طلبت هي الأخرى عدم الكشف عن هويتها للحساسية الدينية، وتقول كأنها تستأنف حديث بهاء، بعد أن أطلقت تنهيدة طويلة: "هذا الكتاب البركة، منذ 40 عاماً أتى به زوجي إلى منزلنا بعد أن استعاره من صديق قديم، بعدما سمع عن كرامات الكتاب ومفعوله السحري في الحماية من الشرور والأمراض".
"ظل الكتاب إلى هذا اليوم في المنزل، صلينا منه من فترات بعيدة، وكنا نعيره لأصدقائنا وجيراننا للتبرّك به، شفاء الأمراض وطرد الأرواح الشريرة من البيوت؛ فهو يضم صلوات بركة".
صلوات غريبة
كتاب "صلوات العذراء حالت الحديد"، 254 صفحة، لا نعرف أصولها أبداً أو من يكون مؤلفها الأول، لكنها مجموعة صلوات استندت أشهر صلاة فيها على معجزة انصهار الحديد، وتخليص متياس الرسول من السجن على يد العذراء مريم.
ظهرت نسخ الكتاب بشكل مكثف في ستينيات القرن الماضي، وكتب مقدمتها شخص يُدعى باسيليوس ميخائيل، وهو شمّاس (رتبة كنسية) كما يبين التوقيع، وفيها أنه قد جمع هذه الصلوات النادرة حتى لا تندثر، وهي صلوات للحماية والغلبة على الشيطان.
تبدأ الصفحات الأولى من الكتاب باسم الله، ثم "هذه صلاة السيدة العذراء التي خلصت متياس"، وبالتوالي تبدأ الصلوات بطريقة معينة غريبة لا تتماشى مع المعتقدات أو الصلوات المسيحية كما ألفناها في مصر، فمثلاً تقول العذراء في هذه الصلاة: "أستحلفكم أيها الملائكة العلوية والشمس والقمر والنجوم والكواكب"، ثم تستحلف الملائكة باسم الشياطين قبل سقوطها، وهكذا حتى نهاية الكتاب، وهو غير مألوف في المسيحية، التي تنهي عن القسم بكل أشكاله، ويتنافى مع طبيعة ومكانة العذراء مريم التي تجعل شفاعتها وحدها قادرة على صنع المعجزات، دون الاستعانة بأي أحد حتى الملائكة أنفسهم (طبقاً للعقيدة المسيحية الأرثوذكسية).
تتقسم الصلوات في الكتاب وتتنوع، فهناك صلاة من أجل الحماية، وصلاة لأجل إخراج الأرواح الشريرة، وصلاة تسمى صلاة النظرة والعين، وكلمات هذه الصلوات تشبه التمائم والتعاويذ المرتبة بشكل معين، ففي صفحات الكتاب تغلب الرموز والحروف والأرقام المرتبة داخل أشكال مربعة، وتحتها يقال اسم الشخص (فلان سامع هذه الصلاة)، ثم جداول مختلفة الأحجام بها مجموعة من الخواتم والكلمات الغريبة.
انتشر هذا الكتاب بين الأسر المسيحية في مصر، وتحديداً في الصعيد (جنوب مصر) وقد آمنت هذه الأسر بأنه كتاب للتبرك والحماية من سيطرة الأرواح الشريرة؛ فالكتاب يحمل اسم العذراء مريم.
آمن البعض بالكتاب على الرغم من كل المحاولات المبررة عقائدياً لشرح مدى اختلاف الصلوات في الكتاب، وغربتها/ غرابتها عن التعاليم المسيحية، التي تنص على تحريم السحر والسحرة: "لا تدع ساحرة تعيش" (خروج 18:22)... "لا تلتفتوا إِلى الجانّ ولا تطلبوا التوابع" (لاويين31:19) "وأما الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون، والزناة والسحرة، وعبدة الأوثان، وجميع الكذبة، فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت، الذي هو الموت الثاني" (رؤيا 8:21).
إلا أن الأسر اعتبرتها محاولات لمنع وصول هذه القوة الحامية إلى الناس، فازداد تعلقهم به، وكانوا يتداولونه بينهم سراً أو يحفظونه في منازلهم كي يحمي الأولاد والمنزل من هجمات الأرواح، وإذا عرف واحد بمرض جاره أو صديقه يبعث له بالكتاب كي يقرأ منه فيتعافى، وهو على يقين إنها صلوات روحية قوية وليست تعاويذ أو نوع من أنواع الأسحار.
"ظللت خائفاً من سر هذا الكتاب ولم أجرؤ على تصفحه طوال عمري"، ""هذا الكتاب يضاهي الكتاب المقدس في أهميته، في منزلنا ومنازل من نعرفهم، كانت أمي تحفظه في مكان مغلق"
استمر الوضع على ما هو عليه حتى منتصف التسعينيات في محاضرة شهيرة للبابا شنودة الثالث، إذ تكلم عن الكتاب بشكل عقلاني، يشرح أن ما فيه أولاً يتنافى مع العقيدة المسيحية، وبالتالي تتبرأ منه الكنيسة، وثانياً أن الصلوات ماهي إلا صلوات شيطانية وتعاويذ وخرافات، وأكد وقتها "لو لاقيته في أي دير هقطعه".
والحقيقة في وقت كتابة هذا المقال ظننت أن الكتاب قد اختفى، وفهم الناس حقيقته، ولكن في بحثي فوجئت بعدد كبير من الأقباط يحاولون التوصل إلى نسخة من الكتاب، باعتباره كتاباً يسلسل قيد العدو "الشيطان"، وكتبت صفحة باسم الكتاب أن لديهم نسخ، وروجت له كونه الكتاب الذي يطرد الكآبة والخصام من المنزل، ويشفي الأمراض ويطرد الشياطين ويرزق العواقر بالأطفال، وأن الشيطان يحاول إخفاء الكتاب، والغريب أن عدداً كبيراً من التعليقات تتفاعل، وتسارع بحجز نسخة، وكذلك السؤال عن الطقوس المحددة التي لابد من توافرها لقراءة الصلوات، والكتاب يذكرها بالفعل، وهي الزيت والشموع والقربان.
طقوس مصرية قديمة
يعلّق ماركو الأمين، الباحث في التراث القبطي، ومؤسس مبادرة "هيستوريا" لباحثي التاريخ الكنسي الشباب، في حديثه لنا، أن "ارتباط بعض الأقباط بالسحر والماورائيات يرجع إلى الطقوس المصرية القديمة، التي كان فيها السحر مرادفاً للدين، وليس عدواً له، وتوارث الموضوع في اليهودية مع موسى النبي، والتمائم التي قالها وقت الخروج من مصر، وكذلك الرماد الذي نثره في وجه فرعون ورجاله، فأصابهم بالدمامل، كل ذلك كان نوعاً من الطقوس السحرية آنذاك".
"ارتباط بعض الأقباط بالسحر والماورائيات يرجع إلى الطقوس المصرية القديمة، التي كان فيها السحر مرادفاً للدين، وليس عدواً له، وتوارث الموضوع في اليهودية مع موسى النبي، والتمائم التي قالها وقت الخروج من مصر، وكذلك الرماد الذي نثره في وجه فرعون ورجاله"
ويضيف ماركو : "الكثير من كتب السحر استخدمت أسماء المسيح والعذراء والملائكة بشكل معين يجعلها تمائم للحماية أو الإيذاء، حتى مزامير داوود النبي كانت تُستخدم في السحر، فحتى السبعينيات كان هناك مايسمى بـ(دلال المزامير)، الذي كان يقلب قراءة المزامير بشكل معين، بحيث يصبح تميمة سحرية".
"ويرجع ذلك أيضاً لفكرة الدين الشعبي عند الناس، بغض النظر عن معتقداتهم، فالإيمان بالغيبيات محط اهتمام من السواد الأعم، وتحديداً في الأماكن التي ينتشر فيها الجهل والفقر".
"بالنسبة للأقباط، يعتبر كتاب "العدرا حالت الحديد" حلقة من سلسة طويلة ضمن الاعتقادات الشعبية بالقوة الخارقة لطرق بعض الصلوات الغريبة".
يا مردوك، يا أوزوريس
على مر العصور، وفي كل الحضارات والأديان، كانت الصلاة هي بمثابة تواصل سحري بين الإنسان المريض والخاطئ/ المذنب وبين عالم الألوهية الغاضب، الذي لابد من التذلل له لكي يرضى، فهو أشبه بسحر الكلمة التى يستخدمها الساحر، ولكن هنا يتم في مضمار من التذلل الواضح للقوى التي تحكم الكون، وهناك سلسة من الصلوات النموذجية التي تشكل مدخلاً لفهم أهمية الصلاة في الشفاء، كما يعتقدون، ومنها "صلاة الى مردوك"، جاء فيها:
"يا مردوك الشجاع الذي غضبه مثل غضب العاصفة
ولكن نعمته هي نعمة أب رؤف
ضدك ارتکبت جرماً... لقد تجاوزت، وخالفت حدود حماية الإله، اغفرلي ذنوبي، وطهرني من أمراضي".
كانت هذه الصلوات وغيرها في بابل ومصر القديمة وبقية الحضارات الأخرى، تمثل صورة نموذجية لتضرّع الإنسان إلى القوى العليا التي تحكم الكون، فقد حاول البشر التقرب من هذه القوى الروحية، وأبسط شكل لذلك كان تقديم الهدايا والقرابين، والتذلّل لهم.
أيقن الانسان وقتها أن كل ما لايفهمه هو من فعل هذه القوى، وبالتالي لا بد من استرضائها حتى لا تؤذيه، وكان يعتقد تمام الاعتقاد أنه إذا قام بترديد الكلمات الخاصة به فإنه سيصل إلى غاياته.
و يُذكر في كتاب "الإنسان الحائر والخرافة"، أنه كما نعرف، إذا بزغ نور العقل ولّى زمن المعجزات، لأن المعجزة بشكلها العلمي هي الفعل الذي لم يستطع الانسان معرفة سببه المنطقي، وبالتالي كلما زاد جهل الإنسان كلما لجأ إلى الأولياء والقساوسة والشيوخ والكتب، اعتقاداً منه بالكرامات.
ونفسياً يكون مؤهلاً للشفاء على أيديهم؛ فالثقة بين الاعتقاد القائم بين المريض ووليه تنعكس على نفسيته، فيتوهم أنه تعافى، لكن لن يُشفى في الحقيقة إذا كان مرضه فيزيائياً، يحتاج حينها إلى طبيب وعلاج.
ويشير الكتاب إلى أن كل تمائم البشر والكتب ماهي إلا تراكمات معرفية من قديم الأزل، كلها تشبه بعضها، ولكنها مختلفة الإطار فقط، ويذكرنا بصلاة المصريين القدماء إلى حورس: "السلام عليك يا حورس، يا أيها الموجود في بلد المئات، يا حاد القرنين، يا بالغ الهدف، إني قصدتك لأمدح جمالك ألا فلتقض على الشيطان الذي يتملك جسدي".
وهكذا، فإن الإيمان بالماورائيات ماهي إلا نتائج نفسية لاتزال مجتمعاتنا العربية تحديداً تعاني منها، سواء في تبعيتها لكتب السحر ذات الطابع المسيحي، مثل "العدرا حالت الحديد" أو ذات الطابع الإسلامي كالكتاب الشهير"شمس المعارف".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه