حين وُجدَت الأرض وتكونت، تشكّلت الخيرات فيها وكَثُرَت، لكنها لم تُوزَّع بالتساوي، فكانت حصص الأفراد متفاوتةً في كل شيء؛ حتى من الخير الجسدي، إذ كثيراً ما نرى أناساً لم يحصلوا على حصصهم الكاملة من الصفات الخَلقية، أو فقدوا بعضها مع مرور الوقت، سواء بسبب الحوادث أو الحرب أو لعامل وراثي معيّن في العائلة. وإن كنتُ لن أخوضَ في موضوع العدلِ الإلهي، أو في فكرة الحكمة الإلهية من كل هذا، فإنه لا بدّ أن أفكر قليلاً في موضوع العدلِ الأرضي.
بصفتي مدرّسةً في المدارس السورية، كُلِّفتُ (كما هو معتاد كل عام)، بعملية المراقبة في امتحانات الشهادات الثانوية، وكانت مدرستي (للمصادفة) تضمُّ الطلاب من ذوي الاحتياجات الخاصة ممن يواجهون صعوبات في الدراسة لأسباب صحية مختلفة.
حين اطّلعتُ على أسئلة الامتحان، وجدتُ أن المنهاج الدراسي المقرر الذي يدرسه هؤلاء الطلاب هو ذاته المنهاج المقرر للطلاب الآخرين الذين لا يملكون أيَّ عارضٍ صحي يمنعهم من الدراسة، استهجنتُ هذا الأمر كثيراً، لا سيما حين وجدتُ طلاباً لم يتمكنوا من الإجابة عن سؤال واحد حتى، لا بل لا يستطيعون صياغة جمل مترابطة ذات معنى مفيد.
فكّرت: أليس الأجدر بهم أن يخصصوا منهاجاً خاصاً لهم يتناسب أكثر مع المهام التي يستطيعون تأديتها في حياتهم مستقبلاً؟ وكيف يطلبون منهم دراسة منهاجٍ بهذه الضخامة، بينما غالبيتهم يحتاجون إلى منهاج أبسط كما اتّضح بجلاء في أثناء الامتحان؟ كما أن الغاية المرجوّة من هذا المقرر يصعبُ تحقيقها لدى نسبة غير قليلة منهم، بالإضافة إلى أن المجتمع لن يطالبهم بالمهام ذاتها المطلوبة من الطلاب الذين يتمتعون بجسدٍ صحيٍّ تماماً. إذاً لمَ يرهقونهم، ويضعونهم أمام تحدٍّ سيحبطهم أكثر إن لم يحققوه؟
المعاناة وأبعادها
في غالبية الأيام، كانت مهمّتي أن أساعد الطلاب المكفوفين في الكتابة؛ هم يُملُون عليَّ الأجوبة وأنا أكتبها. كنت أتحدث إلى الطالب قبل البدء بأي شيء والاطمئنان إلى حاله واستعداده وأهوّن المادة عليه، حتى يشعر بأن الأمرَ بسيط ويخفّ ارتباكه وقلقه ثم نبدأ، وفي نهاية الامتحان استمعتُ إلى قصص بعضهم حين حدثوني عن حياتهم.
روى لي الطالب إبراهيم (20 عاماً من دير الزور): "حينَ كنتُ صغيراً كنتُ أقود الدراجة الهوائية بشكل جيد، إذ كان نظري يساعدني قليلاً، وكنتُ أبصر بعض الشيء، لكن مع الوقت ذهب بصري تماماً، ولم أعد أرى شيئاً، وصارت أمي تتولى شؤوني كلها، وتساعدها أختي قليلاً؛ أختي التي تعاني من فقد البصر ولكن ليس بشكل كامل، بل ترى إلى درجة تمكّنها من التحرك والتنقل والقيام بأمورها التي تحتاجها".
أحبُّ أن أدرسَ أدبَ اللغة العربية إن تسنّى لي ذلك، على الرغم من أن معلّمي اللغة العربية قال لي حين حاول تدريسي العَروض في الشعر: هذا الأمر صعبٌ عليك، لأنه يحتاج إلى البصر؛ إنه خاص بالمبصرين. أحزنني كلامه.
نتيجةً للحرب، هرب إبراهيم مع عائلته إلى دمشق، ولكن والده تزوّج وعاد إلى دير الزور، وتركهم وحدهم غير مهتمٍّ لأمرهم. يقول: "لا ينفقُ علينا حتى، فصار أخي الذي سافر إلى الخارج هو المعيل لنا والمسؤول عن احتياجاتنا كلها، وحتى عن دراستي أيضاً!".
قبل سنوات، حاول شقيقه بمساعدة والدته إقناع إبراهيم بأن يتعلم ويدرس، لكنه رفض بشدةٍ، ولم يتحمّس للأمر، إلا أنه نادمٌ الآن كثيراً، فهو يؤمن أنه لو فعل واستمع إلى نصيحتهما لكان حقق أموراً أفضل، وتقدّم أكثر.
في عام 2018، حصل إبراهيم على الشهادة الابتدائية وكان عمره حينها ستة عشر عاماً، ومن ثم أكمل دراسته وحصل على الشهادة الإعدادية والآن يسعى إلى الحصول على الشهادة الثانوية بمساعدة مدرّسه الخاص، لأن أمه لا تستطيع مساعدته دراسياً.
تزوّج ولكن
يقول إبراهيم: "في حالتي هذه -كما أسمع- يُصاب كثيرون بالإحباط والاكتئاب، وكنت أنا ممن أُصيبَ بهما أيضاً، وحينها رأت أمي وأخي أن الحلّ المناسب لمعالجة هذا الاكتئاب هو تزويجي من فتاة تصبح رفيقتي ومؤنستي في وحدتي، وتزوجت في عام 2019 من فتاة تكبرني بثلاثة أعوام، غير متعلمة ولا تعرف شيئاً ولا تجيدُ القراءة حتى، مع أنها دخلت المدرسة لكن لديها مشكلة في... (بدا وهو يروي، متردداً في اختيار الكلمة المناسبة لحالتها، ولكنه أراد الإشارة إلى مشكلة عقلية لديها، فتداركتُ خشيةَ إحراجه، وقلت: الاستيعاب؟)، فأجاب: نعم، لديها مشكلة في الاستيعاب!".
رُزق إبراهيم منها بولدٍ خُلقَ مكفوفاً أيضاً. أخبرهم الطبيب بأن حالة فقدان البصر هي مرضٌ وراثيٌّ في العائلة، ويجب أن يكون حذراً في موضوع الإنجاب. سألته: هل أنت منسجمٌ مع زوجتك؟ لم يجب بشكل واضح. همهمَ قليلاً ثم قال: "الحمد لله، والدتي هي من تعتني بأموري كلها، وترعانا جميعاً، جزاها الله كلّ خير". ثم علّقَ بعد صمت: "الحقيقة لو قال لي الطبيب أن أطلّق زوجتي من أجل ألا يأتينا طفلٌ مكفوفٌ آخر، لا مشكلة لدي، أطلّق!".
كان واضحاً في نبرة صوت إبراهيم وحركاتِه، داخله الطفولي، الذي لا علاقة له بأمور الزواج والمسؤولية، وميله إلى تلك المرحلة أيضاً. أعرب عن أمله بالمستقبل قائلاً: "أحبُّ أن أدرسَ أدبَ اللغة العربية إن تسنّى لي ذلك، وسمحَ لي معدلي النهائي في الشهادة الثانوية بهذا، على الرغم من أن معلّمي اللغة العربية قال لي حين حاول تدريسي العَروض في الشعر: هذا الأمر صعبٌ عليك، لأنه يحتاج إلى البصر؛ إنه خاص بالمبصرين!".
يضيف إبراهيم: "أحزنني كلامه هذا، وجعلني أقبل بالواقع وأستغني عن درجات هذا السؤال الذي يُدرَج بين أسئلة اللغة العربية كلَّ عام. لكنّ كلامه لم يبعدني عن حلمي بدراسة اللغة العربية".
"رأيت دمشق في رائحتها"
إن كان يرى البعض أن الاكتئاب يُعالَج بالزواج، فإن آخرين لديهم أساليب أخرى أكثر نجاحاً لمعالجة الاكتئاب، وتحدّي أي صعوبة خلقية تواجههم.
الطالب غسان (18 عاماً من دمشق)، يروي قائلاً: "تربيت في أحياء دمشق التي أحبها وأعشق رائحتها وضجيجها، إنهما صلة الوصل بيني وبين هذه المدينة، فقد رأيت دمشق من خلال روائح شوارعها وصخبها".
لا أنكر أن الأمرَ ليس بسيطاً؛ أن ندرس ونتعلم العزف ونحن مكفوفون، ولكن هذا في البداية فقط، ومن ثم مع الممارسة والتكرار نعتاد على هذا النمط فنمارس حياتنا وكأن الرؤية البصرية لم توجد للإنسان أصلاً
منذ صغره، كانت والدته الداعمَ الدائم له، فهي من شجعته حتى استمر ووصل إلى هنا. ساعدتنه في دراسته، فكانت تسجل له الدروس بصوتها ليسمعها مراراً حتى يحفظها بينما هي في عملها. يقول: "أخذتني في نزهات كثيرة، ولم أشعر بالحرمان بالقرب منها، وهي من شجعتني على تعلّم الموسيقى فتدربت طويلاً حتى أتقنت العزف على الأورغ ومن ثم البيانو بدرجة جيدة، حتى أنني ألّفتُ بعض المقطوعات الموسيقية بنفسي. لقد أصبحت الموسيقى جزءاً أساسياً مني لا أستطيع الاستغناء عنه ولا التوقف عن العزف، فهي صديقتي التي تملأ حياتي، كما صار لدي بعض الطلاب الذين أدرّبهم على العزف أحياناً".
يعزف ليحيا
برأي غسان، "لا أنكر أن الأمرَ ليس بسيطاً؛ أن ندرس ونتعلم العزف ونحن مكفوفون، ولكن هذا في البداية فقط، ومن ثم مع الممارسة والتكرار نعتاد على هذا النمط فلا نعتمد على البصر في حياتنا بل نمارس حياتنا وكأن الرؤية البصرية لم توجد للإنسان أصلاً".
بعد حصوله على الشهادة الثانوية، يطمح إلى التخصص في دراسة الموسيقى في الخارج، لذا تسعى أمه إلى الحصول على منحة دراسية خارجية له من أجل هذا، وهو يأمل بأن يحصل عليها. يروي: "قد تصيبني حالات ضعفٍ أحياناً وإحباط من الحياة ولكن أمي تكون كفيلةً دائماً بالأخذ بيدي كي أجتازها، ولم تتركني يوماً أقف مستسلماً أو يائساً عند أمرٍ ما".
شارك غسان في العديد من الحفلات الموسيقية داخل دمشق، وكثيراً ما وقف أمام جمهور لا يراه، لكنه يشعر بوجوده، ويعزف له. اشترك أيضاً في برنامج (Syrian Talents)، واجتاز مراحل جيدةً منه، يقول: "كنت سعيداً جداً بهذه المشاركة التي فتحت لي مجالات أوسع، ومنحتني ثقةً بنفسي أكثر، وتعلمت أشياءً جديدةً منها. بالنسبة إلي كانت تجربةً جديدةً ناجحةً نفسياً وفنياً".
إذاً، كما أن لدينا أفراداً من ذوي الاحتياجات الخاصة مستعدين لخوض تجربة الدراسة في منهاج موسّع وضخم، كذلك لدينا أفراد لا يستطيعون فعل ذلك، وعليه لا بد من التحليل والبحث للتعرف على مدى تأثير هذا الأمر على شخصيتهم ونفسيتهم، ومعرفة ما إذا كان لديهم ذكاء وقدرات عقلية تساعدهم على دراسة المنهاج المقرر العام والقيام بمهام مختلفة ونشاطات متنوعة أو لا، وبناءً على نتيجة هذه الدراسات يمكننا أن نكلّف كل فرد من ذوي الاحتياجات الخاصة بالمهام التي ينجح فيها فقط، لنحميه من الإحباط ومن التأثير السلبي للفشل عليه، إن وُجد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...