بعد انتظار طويل وتكهنات وتسريبات متضاربة، نُشر مساء يوم الخميس 30 حزيران/ يونيو 2022، مشروع الدستور الذي سيُعرض على الاستفتاء الشعبي يوم 25 تموز/ يوليو 2022، مثيراً موجةً من الجدل بين التونسيين والتونسيات، بين من يراه قطعاً مع "العشرية السوداء" وما خلفه دستورها من مصاعب ومشكلات بلغت حالة انسداد حادة، ومن يراه نكسةً وخطوةً إلى الوراء عادت بالدولة إلى ما قبل دستور 1959.
الفصل الأول... في بقية الفصول
جاء مشروع الدستور الجديد الذي أعدّته لجنة ترأسها الأستاذ الصادق بلعيد، في توطئة و142 فصلاً موزعةً على 11 باباً نص أولها في فصوله (21 فصلاً)، على أن تونس "دولة حرة مستقلة ذات سيادة" نظامها جمهوري، ونصّ الفصل الخامس على أن "تونس جزء من الأمة الإسلامية وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية"، كما أن تونس "جزء من المغرب العربي" شعارها "حرية، نظام، عدالة".
الملاحظ أنه تم التخلي عن الفصل الأول الذي تمت صياغته في 1959، وتمت المحافظة عليه في دستور 2014، الذي ينص على أن "تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها". لكن تفتت هذه الفقرات لتصبح فصولاً في حد ذاتها، ولئن حذف دين الدولة فإن الفصل الخامس جعلها، أي الدولة، أداةً لتحقيق مقاصد الإسلام مع تعويض مقصد العقل بالحرية.
أما الباب الثاني المخصص للحقوق والحريات (34 فصلاً)، فقد تضمن التنصيص على حقوق الإنسان والحريات الفردية والعامة مثل الحق في التعليم والصحة والثقافة وحرية المعتقد والضمير والحريات الأكاديمية وحقوق المرأة وحقوق الطفل وذوي الإعاقة... إلخ.
من السلطات إلى الوظائف
الملاحظ أن مشروع الدستور انتقل بالمؤسسات الثلاث المعروفة (الرئاسة والحكومة والبرلمان)، من سلطات إلى وظائف. وتضمن الباب الثالث المعنون بـ"الوظيفة التشريعية" التي تنقسم إلى مجلسين: أولهما مجلس نواب الشعب وثانيهما "المجلس الوطني للأقاليم والجهات". ويقطع الدستور الجديد مع ظاهرة ما يسمى بـ"السّياحة الحزبية"، أي تنقل النواب من كتلة برلمانية إلى كتلة أخرى ومن حزب إلى حزب خلال المدة النيابية الواحدة، كما يتيح إمكانية سحب الوكالة من النائب.
أما المجلس الثاني فينتخب من بين المجالس الجهوية نفسها بحساب ثلاثة نواب عن كل جهة، ومهمته الرقابة والمساءلة.
خُصص الباب الرابع، من جهته، للوظيفة التنفيذية التي يمارسها رئيس الجمهورية "بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة". ومن أبرز مستجدات هذا الباب الترفيع في السن الدنيا للترشح إلى 40 عاماً باشتراط الإسلام ديناً للمترشح من دون تسقيف للعمر الأقصى، ومنع مزدوجي الجنسية من الترشح، واشتراط أن يكون المترشح تونسياً إلى الجد الثالث من جهة الأب.
الملاحظ أن مشروع الدستور انتقل بالمؤسسات الثلاث المعروفة (الرئاسة والحكومة والبرلمان)، من سلطات إلى وظائف. ويعزز من سلطات الرئيس منتزعاً من البرلمان قدرته الرقابية على مؤسسة الرئاسة
ويسند هذا الباب إلى رئيس الدولة صلاحيات واسعةً جداً، من ذلك وفقاً للفصل 101، يعيّن رئيس الجمهورية رئيس الحكومة، كما يعيّن بقية أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها. ومن خلال الفصل المئة واثنين، لرئيس الجمهورية أن ينهي مهام الحكومة أو عضو منها تلقائياً أو باقتراح من رئيس الحكومة.
يتعلق القسم الثاني من هذا الباب بالحكومة ومهمتها السهر على تنفيذ السياسة العامة للدولة طبق التوجهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية.
أما الباب الخامس (المضمّن في مشروع الدستور بترقيم "الباب الرابع" وهو خطأ سيتكرر في ترقيم بقية الأبواب)، ونص هذا الباب على أن "القضاء وظيفة مستقلة يباشرها قضاة لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون". وتمّ التأكيد في الفصل المئة وثمانية عشر على أن "تصدر الأحكام باسم الشعب، وتُنفَّذ باسم رئيس الجمهورية".
ونصّ الفصل المئة وتسعة عشر على أن ينقسم القضاء إلى قضاء عدلي وقضاء إداري وقضاء مالي ويشرف على كلّ صنف من هذه الأقضية مجلس أعلى يتولى القانون ضبط تركيبته واختصاصاته. وحدّد الفصل المئة والعشرون أنّ تسمية القضاة تكون بأمر من رئيس الجمهورية بمقتضى ترشيح من مجلس القضاء الأعلى المعني.
المحكمة الدستورية الآلية
خصص مشروع الدستور باباً للمحكمة الدستورية بتغيير طريقة تشكيلها معتمداً طريقةً آلية. فوفقاً للفصل المئة والخامس والعشرين، فإنّ المحكمة الدستورية هيئة قضائية مستقلة تتركب من تسعة أعضاء، ثلثهم الأول من أقدم رؤساء الدوائر في محكمة التعقيب، والثلث الثاني من أقدم رؤساء الدوائر التّعقيبية في المحكمة الإدارية، والثلث الثالث والأخير من أقدم أعضاء محكمة المحاسبات.
تختص المحكمة الدستورية بالنظر في مراقبة دستورية القوانين بناءً على طلب من رئيس الجمهورية أو ثلاثين عضواً من أعضاء مجلس نواب الشعب أو نصف أعضاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم. وتختص أيضاً بمراقبة دستورية، المعاهدات التي يعرضها رئيس الجمهورية قبل ختم قانون الموافقة عليها، ومراقبة دستورية القوانين التي تحيلها عليها المحاكم إذا تم الدفع بعدم دستوريتها في الحالات وطبق الإجراءات التي يقرّها القانون.
رأى أستاذ القانون الصادق شعبان، وزير العدل ووزير التعليم العالي في عهد الرئيس السابق بن علي، أن مشروع هذا الدستور الجديد هو عودة إلى دستور الاستقلال
كما تختص بمراقبة دستورية النّظام الداخلي لمجلس نواب الشعب والنظام الداخلي للمجلس الوطني للجهات والأقاليم اللذين يعرضانهما عليها، رئيسا هذين المجلسين. وتراقب دستورية إجراءات تنقيح الدستور ومشاريع تنقيح الدستور للبتّ في عدم تعارضها مع ما لا يجوز تنقيحه.
وأما بقية الأبواب، فقد خُصصت للجماعات المحلية والهيئات الدستورية (الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري المعروفة اختصاراً بالـ"هايكا")، وطريقة تشكيلها ووظائفها، وتضمن المشروع الجديد إحداث "المجلس الأعلى للتربية"، وهو هيئة استشارية تبدي الرأي في السياسات الوطنية الكبرى في مجال التعليم والبحث العلمي.
عودة إلى دستور 1959
رأى أستاذ القانون الصادق شعبان، وزير العدل ووزير التعليم العالي في عهد الرئيس السابق بن علي، أن مشروع هذا الدستور الجديد هو عودة إلى دستور الاستقلال بعد "عشرية الخراب ودستور 2014 الذي كلّفنا المليارات مباشرةً وآلاف المليارات من جراء الفوضى وتعطل الدولة وانهيار الاقتصاد"، وفق تعبيره.
وعلق الأستاذ شعبان قائلاً: "نظام رئاسي: رئيس يضع السياسة العامة للدولة ويختار حكومةً تساعده ومسؤولة أمامه، وبرلمان يراقب من خلال القوانين (يناقشها وقد يرفض التصويت عليها)، ومن خلال الميزانية وبالأسئلة إلى الحكومة وفي حالات قصوى توجيه لوائح اللوم. دسترة مكاسب المرأة التي حصلت في 2002، أعيدت بحذافيرها، أي كل حقوق مجلة الأحوال الشخصية، والعمل على تطويرها، وكذلك ضمان تكافؤ الفرص بين المرأة والرجل عند التعيينات والسعي إلى المناصفة في المجالس المنتخبة".
يواجه سلطةً رئاسيةً قويةً برلمان ضعيف بالرغم من إضافة غرفة ثانية إليه، هي مجلس الجهات والأقاليم. وما يبعث على الانشغال هو أولاً أن الفصل 60 من المشروع
ورأى أن "الإضافة هي هذه المحكمة الدستورية التي لن تكلف شيئاً للميزانية، ولها اختصاص واسع. وليست محل تجاذبات حزبية. محكمة من تسعة قضاة يجلسون بحكم صفتهم. سوف تباشر عملها فوراً إثر دخول الدستور حيز النفاذ. أين نحن من تلك المحكمة التي يتخاصم الأحزاب على افتكاكها واستعمالها لأغراضهم السياسية؟".
كما لاحظ أن "الإضافة هي أيضاً هذا المجلس الوطني للجهات والأقاليم (من 80 ممثلاً للجهات تقريباً)، له اختصاص في مجال مخططات التنمية والميزانية ولو أني لا أرى له فاعليةً حقيقيةً".
أما بخصوص الجدل الذي أثاره الفصل الخامس الذي ينص على أن الدولة تسعى إلى تطبيق مقاصد الإسلام، فقد رأى شعبان أن "من يقول إن الدستور داعشي فهو إما جاهل بالقانون وإما حقود. ليس للتعبيرات التي خصصت للإسلام في التوطئة وفي المتن أيّ أثر مباشر في التشريعات، والدولة باقية مدنية لا ريب في ذلك".
عودة إلى "مربع الهوية"
ولئن تم التنصيص على مدنية الدولة في الدستور، فإن التنصيص على مسألة الهوية الإسلامية قد وردت في أكثر من موضع سواء في التوطئة أو في المتن، وقد أثار ذلك جدلاً واسعاً حول هذه النقطة.
تقول أستاذة القانون الدستوري والباحثة سلسبيل القليبي، إنه "بعد توطئة مطوّلة أشبه بسردية ملحمية من نص قانوني، نكتشف باباً للمبادئ العامة يعيدنا إلى المربع الأول بخصوص المسألة الهوياتية، وتحديداً علاقة الدين بالدولة، وبشكل خاص علاقته بالسياسة، حيث تمّ التخلي عن الفصل الأول الذي يقرّ بأن "تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة الإسلام دينها"، لكنه يدرج في المقابل فصلاً خامساً يقرّ بأن "تونس جزء من الأمة الإسلامية وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية". وإن كان هذا الفصل في ظاهره يسحب البساط من الأحزاب ذات المرجعية الدينية (وتحديداً حزب حركة النهضة)، بجعله إدارة الشأن الديني حكراً على الدولة، فإنه يفتح الباب على مصراعيه أمام دخول الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع، خاصةً أنه تخلّى عن مفهوم الدولة المدنية وتعريفها في الفصل الثاني من دستور 2013 كدولة قائمة على المواطنة وعلى علو القانون".
غياب ضمانات الحريات.. ونظام "رئاسوي"
أما عن الحقوق والحريات فترى الأستاذة القليبي، في تصريحها لرصيف22: "لم يغيّر المشروع الكثير في ما يتعلق بلائحة الحقوق والحريات القائمة في دستور 2014، لكن الأهم من اللائحة في حدّ ذاتها هو استهداف آليات ضمانها وتحديداً السلطة القضائية التي لم تعُد سلطةً بل مجرّد وظيفة شأنها شأن السلطتين التشريعية والتنفيذية، إذ إن القضاء لم يعد يحظى بضمانات الاستقلال نفسها التي يوفّرها له دستور 2014، إذ إن الضامن لاستقلال القضاء هو رئيس الجمهورية ولم يعد المجلس الأعلى للقضاء، هذا فضلاً عن التخلّي عن هيئة حقوق الإنسان التي يقرّها دستور 2014، والتي من بين أهم اختصاصاتها التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان".
تابعت الأستاذة القليبي، أن "أهم المؤاخذات التي استهدفت الدستور الحالي (دستور 2014)، هي طبيعة النظام السياسي الهجين الذي أسّس له، والذي أدّى إلى صراعات داخل البرلمان أدّت إلى شلّ حركته وخلافات بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة استفحلت بسببها الأزمة السياسية فكانت الدعوة دائماً إلى التخلي عن النظام المختلط الذي يمزج بين النظام البرلماني والنظام الرئاسي للتوجّه نحو النظام الرئاسي".
وأضافت "أن النظام الذي جاء به المشروع أبعد ما يكون عن النظام الرئاسي، بل هو نظام رئاسوي بامتياز يهيمن فيه رئيس الجمهورية على بقية مؤسسات الدولة. بالفعل إن رئيس الجهورية وفق الفصل 87، هو الذي يمارس الوظيفة التنفيذية، ويضبط السياسة العامة للدولة (الفصل 100)، وما الحكومة إلا جهاز يساعده على ذلك، وهو الذي يعين رئيسها ويعين أعضاءها (الفصل 101)، ولا يرجع في هذا الشأن إلى البرلمان. أما على مستوى المسؤولية السياسية، فالحكومة وحدها التي تتحمّلها، وهي الوحيدة التي يمكن أن يستهدفها البرلمان بلائحة لوم تقدم على إثرها استقالتها لرئيس الجمهورية. وجدير بالذكر أن المشروع الحالي تخلّى عن إمكانية تقديم البرلمان لائحة إعفاء ضدّ رئيس الجمهورية لخرق فادح للدستور".
تغوّل الرئيس وبرلمان ضعيف
إذا كانت فلسفة الدساتير والمنظومات العصرية والدول الديمقراطية المحافظة على التوازن بين السلطات (تحوّلت في هذا المشروع إلى وظائف)، فإن الملاحظ أن المشروع الحالي يعطي صلاحيات واسعةً لرئيس الدولة ويجعل من القضاء تابعاً له بشكل من الأشكال كما أنه يعفيه من المساءلة والمسؤولية أمام البرلمان.
هذا ما تذهب إليه الأستاذة القليبي بقولها: "يواجه سلطةً رئاسيةً قويةً برلمان ضعيف بالرغم من إضافة غرفة ثانية إليه، هي مجلس الجهات والأقاليم. وما يبعث على الانشغال هو أولاً أن الفصل 60 من المشروع، وإن كان يقرّ بأنه يتم انتخاب النواب لمدّة خمس سنوات، إلا أنه لا يبيّن أنهم ينتخبون انتخاباً عاماً ومباشراً، كما أكّد ذلك عند تعرّضه لانتخاب رئيس الجمهورية، وثانياً، الفصل 61 أقرّ بأن وكالة النائب قابلة للسحب بالنسبة لأعضاء مجلس نواب الشعب من دون أعضاء مجلس الجهات والأقاليم، وهذا من شأنه أن يضعف المركز القانوني للنواب".
وتنتهي الأستاذة القليبي، إلى التساؤل بشيء من التوجس: "في الحصيلة، بعد مرور متعثّر من نظام دولة الرئيس التي هيمنت على تونس من الاستقلال إلى حدود اندلاع الثورة، إلى عشرية هيمن فيها البرلمان على الحياة السياسية، هل نتّجه نحو الانتكاس إلى نظام محوره، مرّةً أخرى، رئيس الجمهورية كما يريده هذا المشروع للدستور الجديد؟".
يُذكر أن مشروع الدستور سيُعرض على الاستفتاء في الخامس والعشرين من تموز/ يوليو الجاري، في انتظار أن تُصدِر المنظمات الوطنية والأحزاب السياسية مواقفها منه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...