شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
من عاطلين إلى محافظين... ما السرّ في تعيين قيس سعيّد

من عاطلين إلى محافظين... ما السرّ في تعيين قيس سعيّد "نخب الاحتجاجات"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الخميس 30 يونيو 202204:22 م

بحماسة كبيرة وفكر حذر، راقبت ما عاشه شباب معتمدية ماجل بلعباس التابعة لمحافظة القصرين (وسط غرب تونس). كان الكل يشعرون بأنّهم معنيّون بشكل أو بآخر بالتعيينات في سلك الولاة والمحافظين والمعتمدين التي يجريها الرئيس قيس سعيّد بشكل متتالٍ منذ بداية العام 2022. كل العاطلين عن العمل من خريجي الجامعات، وبينهم أقرباء انتظروا أن تشملهم هذه التعيينات، منهم من صدق حدسه، وعُيّن فعلاً في مدن بعيدة".

هذه حماسة لم يعشها الشباب حتى خلال الأيام التي أعقبت الثورة، وحتى بعدها بعقد من الزمن، لم يتوقع أي تونسي أن يكون معنياً بشكل مباشر بمناصب رسمية بهذه الأهمية، وهذه مفاجأة أخرى، أحدثها الرئيس قيس سعيّد، بغضّ النظر عن خلفيات هذه التعيينات.

سعيّد الذي لم ينفك، منذ إعلان ترشحه لرئاسيات 2019، يثير المفاجآت في الساحة السياسية، من خلال تعيينات يرى فيها البعض استمراراً لخطابه السياسي منذ سنوات، إذ سلك طريقاً مختلفاً كلياً عن الطبقة السياسية الكلاسيكية التي عهدها التونسيون، وتنقل بين المدن والمناطق النائية، محاضراً ومتواصلاً مع الشباب والفئات التي كانت تتسع الفجوة بينها وبين النخب والزعماء السياسيين، كاسباً ثقة رموز من ساحات الاحتجاج وطلاب جامعيين وجزء من الفئة التي تُعدّ مثقفةً، مبتعداً بذلك بالعملية السياسية عن العاصمة تونس، مركز الحياة السياسية والاقتصادية والإعلامية.

مفاجآت سعيّد لم تتوقف عند حدود نجاحه المنقطع النظير في الانتخابات الرئاسية، وفي خطاباته غير المنتظرة، ولا قراراته الصادمة بإغلاق البرلمان، وتغيير الدستور، والاستحواذ على كل الصلاحيات، بل قام بتعيينات في مناصب مسؤولية أسالت كثيراً من الحبر.

من المفاجآت التي أحدثتها تعيينات سعيّد، اختياره عدداً من رموز التحركات الاحتجاجية في تونس، فضلاً عن مفروزين أمنياً (ممّن كانوا ممنوعين من العمل بسبب تقارير أمنية)، إلى جانب داعمي حملته الانتخابية، وممثلي تنسيقياته الجهوية، وجميعهم شباب عاطلون عن العمل.

شيخ المعطلين... محافظ

مناصر لقضايا المطحونين وضحايا السلطة ومطالب العطشى، مألوف لدى كل ساحات نضال المعطلين عن العمل، ومحسوب على رموز الثورة والحركات الاجتماعية، وهو أيضاً ابن أحد رموز حركة التحرير الوطني ضد الاستعمار الفرنسي.

هذه هي السيرة الذاتية لعبد الحليم حمدي (47 عاماً)، الذي عيّنه الرئيس التونسي قيس سعيّد والياً (محافظاً) على محافظة سيدي بوزيد، ضمن الحركة التي أجراها في سلك الولاة (المحافظين)، التي شملت ثلاثة عشر محافظاً كان قد أعلن عنها الاثنين 6 حزيران/ يونيو.

من المفاجآت التي أحدثتها تعيينات سعيّد، اختياره عدداً من رموز التحركات الاحتجاجية في تونس، فضلاً عن مفروزين أمنياً، إلى جانب داعمي حملته الانتخابية، وممثلي تنسيقياته الجهوية، وجميعهم شباب عاطلون عن العمل

حصل عبد الحليم حمدي، أو "شيخ المعطلين عن العمل" كما يُعرف إعلامياً في تونس، على الإجازة في تخصص التاريخ من جامعة الآداب والعلوم الإنسانية في صفاقس عام 2000، لكن لم يمارس أيّ عمل إداري بعد، ولم يجد وظيفةً في اختصاصه منذ ذلك التاريخ، بل بحث عن سبل للعمل في ورشات البناء، وفي حقول الزيتون لتوفير قوت عيشه.

عدّ عبد الحليم دائماً بطالته قسريةً، لذلك يفضل تسمية "المعطّلين عن العمل"، عوضاً عن "العاطلين عن العمل"، وهو ما جعله في صراع مستمر مع أنظمة الحكم المتتالية. حُسب له نضاله وعدم مهادنته لكل الحكومات التي أعقبت الثورة والتي تجاوزت عشر حكومات، وأيضاً مناصرته لكل التحركات التي زارها جميعها وساندها كلّها.

سياسياً، عُرف عبد الحليم حمدي بتأييده لمسار 25 تموز/ يوليو الذي يخوضه الرئيس سعيّد، وعرفته ساحات "النضال" بمعارضته الشديدة لما يسميها "منظومة حكم حركة النهضة الفاشلة".

لوالي سيدي بوزيد الجديد موقف من قرار رئيس الجمهورية إلغاء القانون عدد 38 المتعلق بتشغيل الذين طالت بطالتهم، عادّا أنه يتوجب عليه تقديم البديل إثر إلغاء القرار لأن كل الشباب الذين هم بلا عمل ينتظرون القليل من الأمل وإشارات إيجابية من رئيس الجمهورية لإرجاع مسار ثورة الحرية والكرامة للتشغيل الذي يمثل أولويةً لأشخاص تقدّموا في العمر وقانون الوظيفة يمنع انتدابهم، وفق تصريحات سابقة لوكالة تونس إفريقيا للأنباء.

صداقة أم كفاءة؟

بعد ساعات قليلة من الإعلان عن التعيينات الجديدة للولاة، تحول اسم عبد الحليم حمدي إلى "تراند" رائج بقوة، فتحدثت العديد من الصفحات والتدوينات عنه، وأشادت بنضالاته الاجتماعية على مدار 21 عاماً من البطالة القسرية، دفاعاً عن قضايا التشغيل والمساواة والتنمية لفائدة الجهات الداخلية المنسية.

ذهب البعض إلى انتقاد تعيين عاطل عن العمل لا يملك ما يكفي من الخبرة، إذ قال أحد الناشطين التونسيين: "أول وظيفة في حياتك أن تصبح والياً... هكذا هو العهد السعيد... لو كنا في وضع مستقر لقلت بأن هذا التعيين منافٍ لكل الضوابط والشروط ويخضع للمحسوبية وهو قرار ساقط. أما ونحن في زمن العبث فهنيئاً لشيخ المعطلين!".

بعد ساعات قليلة من الإعلان عن التعيينات الجديدة للولاة، تحول اسم عبد الحليم حمدي إلى "تراند" رائج بقوة، فتحدثت العديد من الصفحات والتدوينات عنه، وأشادت بنضالاته الاجتماعية على مدار 21 عاماً من البطالة القسرية، دفاعاً عن قضايا التشغيل والمساواة

إن كانت عدّته تدوينات أخرى سفير الفقراء، وعدّت تكليفه أملاً للبسطاء وآمال المفقرين والعاطلين، فإنّ القليل من الحسابات الفيسبوكية تساءلت ساخرةً عن مصير التحركات الاجتماعية مستقبلاً، وكيف سيحتج ضدّه رفاقه في النضال، أو بالأحرى كيف سيواجه تحركاتهم؟ وهناك حتى من تحدّث عن استحياء البعض من الاحتجاج ضدّه خوفاً من إحراجه.


تُعدّ تعيينات المحافظين الجديدة هي العملية الأكبر منذ تولي سعيّد منصب الرئاسة، فقد شملت 13 محافظاً من أصل 24 محافظةً، أغلبهم من المقربين منه والموالين له، وممن ساهموا في حملاته التفسيرية والترويج لمشروعه السياسي بين الناخبين قبل سنوات.

تعيينات أملتها طبيعة المرحلة

يُعدّ منصب المحافظ مهماً فهو ممثل الدولة في كل محافظة، وهو من المناصب العليا إذ يمثل سلطةً إداريةً وسياسيةً في الوقت نفسه، ويتمتع بصلاحيات مهمة، ويعيَّن المحافظ من طرف رئيس البلاد بموجب مرسوم رئاسي نظراً لحساسية المركز.

المحلل السياسي جمعي القاسمي، يعتقد أنّ سعيّد وُضع أمام حتمية سدّ شغور المحافظين الذي تجاوز في بعضها أشهراً متتاليةً عدة، توقفت على إثرها بعض مصالح الدولة في هذه المحافظات، خصوصاً أنّ التاريخ الذي عيّنه لإجراء الاستفتاء على الدستور في 25 تموز/ يوليو قد اقترب كثيراً، ولم يعد أمامه متّسع من الوقت.

ويضيف جمعي القاسمي، في تصريحه لرصيف22، أنّ سعيّد ومن خلال بعض الأسماء التي انتقاها بعناية شديدة، يحاول من إنجاح هذا الاستفتاء عبر عدد من الموالين له القادرين على حشد أكبر عدد ممكن من التونسيين للمشاركة فيه.

ويرى أنّ أغلب تعيينات سعيّد، سواء على رأس الوزارات أو المحافظين، وحتى المعتمدين، بعيدة عن الكفاءة، أملتها طبيعة المرحلة التي تطلّبت إرضاء بعض أنصاره وتهيئة الظروف المناسبة للاستفتاء.

من جانبه، يرى الباحث في علم الاجتماع السياسي، سامي نصر، في تصريحه لرصيف22، أنّ سعيّد أعاد إنتاج أخطاء الماضي نفسها، عبر تعيين الموالين له والمساندين لمشروعه، وهو ما جعل مسألة الموضوعية والكفاءة تفقد قيمتها، فيما خلق لدى فئة من الشعب ما يُعرف بالتزلّف ومحاولة التقرّب من السلطة من أجل تعيينات قد تشملهم.

ويرى نصر أنّ تونس صارت تنقسم إلى فئتين فقط، وهم المعارضة وأقرباء السلطة، في حين تم تغييب المستقلين و"الموضوعيين" من الكفاءات تماماً من المشهد، لافتاً إلى أنّ التغيير الذي أحدثه سعيّد في سلك المحافظين مهم جدّاً من أجل حربه التي أعلنها ضد اللوبيات والفاسدين.

احتواء الحراك الاجتماعي

شيخ المعطلين، أو صديق الصحافيين كما يرى نفسه، وجد اليوم نفسه للمرّة الأولى محرجاً من الإدلاء بتصريح يعلّق فيه على التعيينات الأخيرة التي شملته، بسبب واجب التحفّظ، وهو الذي لم يتردد يوماً في الخوض في المسائل الاجتماعية وأحياناً السياسية من دون حرج، حتى أنّه كثيراً ما يطلب نشر خبر عن احتجاجات يستعدّون لتنظيمها، وهذه أولى مؤشرات احتواء الساحات.

ليس عبد الحليم الأول الذي أحرج عبره سعيّد ساحات النضال الاجتماعي، فقد سبق أن عيّن مفروزين أمنياً في مناصب محافظين ومعتمدين (حكم محلي)، من بينهم نادر حمدوني وهو أيضاً يتحدر من محافظة سيدي بوزيد، مركز التحركات الاحتجاجية وشرارة الثورة، وقبله عيّن سمير عبد اللاوي، الذي شارك في الحملة الانتخابية التي أوصلت سعيّد إلى قصر قرطاج، محافظاً لمحافظة بنزرت، وهو الآخر من محافظة سيدي بوزيد، وقد لاقى تعيينه إجماعاً منقطع النظير.

عبد الحق بسدوري، مفروز أمني وعضو في التنسيقية الوطنية للحركات الاجتماعية، وهو رفيق نضال لعبد الحليم حمدي، يقول لرصيف22، إنّ الرئيس خلق اليوم أزمةً بين مختلف تنسيقيات الحراك الاجتماعي، فالجميع صاروا مختلفين حول نقطة الاحتجاج أو الاعتصام في مقر المحافظة، التي سيتولى تسييرها عبد الحليم الذي عُيّن محافظاً على محافظته، أي محافظاً على رفاق نضاله، وأبناء عشيرته.

بحسب بسدوري، فإنّ أبناء الساحات العامة (المحتجين)، باتوا مترددين بين خيار عدّ عبد الحليم مجرّد ممثل للسلطة التي هم في صراع متواصل معها ويجب رفع مطالبهم في وجهه، أو مساعدته في ممارسة مهمته الجديدة بأريحية من دون إزعاجه أو محاولة إفشاله بملفاتهم الثقيلة، وهذا التردّد تسلل بين ممثلي تنسيقية الاعتصام الذي كان يقوده عبد الحليم نفسه، اعتصام "هرمنا لأصحاب الشهادات المعطلين عن العمل".

وفي آب/ أغسطس من العام الماضي، عيّن سعيّد أربعة ولاة جدد في محافظات بن عروس (شمالاً)، ومدنين وصفاقس وقفصة (جنوباً)، وذلك بعد قرابة 4 أشهر من إقالة الولاة السابقين، تزامناً مع إقالة العديد من المسؤولين في الدولة.

ممثلو السلطة صاروا "أبناء الشعب"

بلال الحرزلي، ممثل لاتحاد المعطلين عن العمل في سيدي بوزيد وأحد رموز اتحاد الطلبة المحظور زمن حكم بن علي، هو "رفيق" آخر لعبد الحليم، ورمز من رموز الاحتجاجات التي جابت شوارع تونس منذ عام 2011، يبارك تعيين صديقه على رأس محافظة سيدي بوزيد، التي لم تشهد الاستقرار اجتماعياً ولا سياسياً منذ الثورة.

يقول الحرزلي، لرصيف22، إنّه استبشر خيراً بتعيين بعض الأسماء التي جمعته مع أصحابها محطات نضال على غرار عبد الحليم حمدي ونادر حمدوني وسمير عبد اللاوي، الذين يصفهم بـ"أبناء الشعب"، وأبناء الطبقات الكادحة، الذين لفظتهم ماكينات الأنظمة المتعاقبة على البلاد.

هذا ولا يستبعد الحرزلي فرضية تعيين بعض الأسماء النوعية المطبوعة في الشارع التونسي، من أجل ضرب الحراك الاجتماعي وتقليص الضغط على الحكومة، بالرغم من ثقته التامة بهم، لافتاً إلى أنّهم سيعطون الحقوق لمستحقيها، وسيبلغون أصواتهم إلى السلطة.

ويرى أغلب العاطلين عن العمل في تونس، أنّ حلم التشغيل صار قريباً منهم، بتعيين بعض الأسماء المدافعة عن قضايا الشغل، على رأس السلطات المحلية.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image