انتهت يوم الأربعاء الماضي في فرنسا أكبر محاكمات العصر الحديث، بصدور أحكام بحق المتهمين في عملية 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 الإرهابية في باريس، وتراوحت الأحكام على المتهمين الأربعة عشر الحاضرين والستة الذين يحاكمون غيابياً بين السجن مدى الحياة وأربع سنوات.
استمرت المحاكمة في باريس عشرة أشهر متواصلة، أدلى فيها الناجون من الهجمات الإرهابية في المطاعم والبارات ومسرح الباتكلان بشهاداتهم، وكان الشهود أيضاً صوت الغائبين الذين غيبتهم الجريمة الوحشية، فقد تحدث الشهود أيضاً باسم الضحايا المئة واثنين وثلاثين الذين غيبهم الموت في ذلك اليوم، كما استمع القاضي إلى شهادات مختصين في شؤون الإرهاب، وإلى شهادات المتهمين وإلى محامي الطرف المدعي المدني بعدد مدعين تاريخي وبملف قضائي للدعوى وصل إلى مليون صفحة.
أعادتني المحاكمة إلى كتاب قرأته قبل مدة، هو "لن تنالوا حقدي" لأنطوان ليريس، وهو شهادة مطولة ليومياته منذ لحظة فقدان زوجته هيلين في مسرح الباتكلان. يروي "أنطوان" في كتابه بداية تفاصيل تلك الليلة التي تذهب فيها زوجته لحضور حفل موسيقي في مسرح الباتكلان فيما يبقى هو في المنزل مع طفلهما الرضيع (ميلفيل).
استمرت المحاكمة في باريس عشرة أشهر متواصلة، أدلى فيها الناجون من الهجمات في المطاعم والبارات ومسرح الباتكلان بشهاداتهم، وكان الشهود أيضاً صوت الغائبين الذين غيبتهم الجريمة الوحشية
يروي أنطوان لحظات القلق والانتظار التي تسبق وصول الخبر الصاعق، لقد قتلت هيلين في الباتكلان. تبدأ رحلة أنطوان في العيش مع طفل ينتظر عودة أمه، غير قادر على فهم ما جرى، فيما يكابد الأب آلام الفقدان الفظيعة.
يقوم الكتاب على رواية التفاصيل الصغيرة، التي تسير تلك اليوميات الثقيلة الكئيبة، ولأن المصادفات شاءت أن يكون أنطوان صحافياً فإن كلماته وقدرته على الوصف أعطت الكتاب طعماً مراً قاسياً ولكنه في الوقت نفسه مؤلف أدبي رفيع المستوى.
ولعل أكثر لحظات الكتاب تأثيراً هي تلك التي يصرخ فيها أنطوان رعباً بعد أن يفشل في قص أظافر ابنه لأول مرة، إذ يقضم المقص جلد الصغير ويشعر أنطوان بعجزه الدائم.
تتحول حياة الأب لإحساس مستمر في الفشل الأبوي عن تعويض "ميلفيل" عن غياب أمه، وفي الوقت نفسه، إلى شراكة لا تنفصم بين الأب وابنه، شراكة مبنية على فهمهما المشترك أنهما كل ما تبقى من العائلة الجميلة السعيدة، وأنهما مضطران للاستمرار من أجل هيلين وذكراها.
تبدو بعض اللحظات التي يصفها الكتاب غير قابلة للتخيل، كأن يخبر الأب طفله أن أمه لن تعود، وأن يفهم الصغير ذلك ويعاني من الحزن الأول في حياته.
ويستشعر أنطوان دعم صغيره وتشجيعه له على الاستمرار وإن كانت الحياة الجديدة لا تشبه القديمة في شيء.
يدهشنا الكتاب بتفاصيل متعلقة بكيفية فهم الصغير للفقد، وبتعلقه بوالده، وبقدرته على مواساته رغم صغر سنه. تبدو بعض اللحظات التي يصفها الكتاب غير قابلة للتخيل، كأن يخبر الأب طفله أن أمه لن تعود، وأن يفهم الصغير ذلك ويعاني من الحزن الأول في حياته. يجاهد أنطوان ليغالب حزنه ويخلق لطفله عالماً صغيراً من لحظات مسترقة تعيد لميلفيل ابتسامته رغم الحزن المخيم المستمر.
يكتب أنطوان بعد أيام من الهجوم على حسابه على فيسبوك: "لن تنالوا حقدي"، ويتم تداول جملته بشكل كبير، ومن خلال الجملة كما من خلال التفاصيل الصغيرة التي يودع بها أنطوان حبيبته، نستشعر كقراء الحزن العميق والنبيل الذي يشعر به كما نفهم لم لا يرغب بأن تتحول حياته مع ابنه إلى حقد دائم وغضب مسعور، فهو يحاول بترفعه عن الكراهية ألا ينجر إلى مستنقع الجهل، ألا يقع في الخوف الدائم، ألا يفضل الأمان على الحرية، ألا ينظر بعين الشك إلى مواطني دولته.
يعيش أنطوان وطفله ميلفيل حزنهما وحيدين، رغم محاولات المحيط رعايتهما والاهتمام بهما، ولكن حاجتهما العاطفية لا يمكن أن تسدها أطباق تعدها أمهات مشفقات على ميلفيل، يضعنها في علب بلاستيكية ويناولنها لأنطوان يومياً أمام الحضانة.
يفهم أنطوان باكراً أن هذا الحزن سيبقى له وحده ولابنه اليتيم، وأن تعاطف الآخرين لن يخفف منه شيئاً. يقدّر أنطوان الرغبة العميقة بالمساعدة التي تجتاح المحيط في ظروف كهذه ولكنه يشرح أن المشكلة تكمن في عدم قدرة الآخرين على تقدير حاجته للحزن على طريقته، بالإضافة إلى الزمن الذي يحتاجه التعامل مع فقدان مفاجئ كهذا، فحتى سؤال: كيف حالك؟ البسيط يتحول إلى عقدة لا بد لها من إجابة مناسبة.
ينجح كتاب "لن تنالوا حقدي" في نقل التجربة المروعة للفقد المفاجئ، وفي شرح الأدوات التي يمكن أن تساعد أهل الضحية على الاستمرار، وينجح أيضاً في تقديم كتاب عن الأبوة وعن ذلك الرابط السحري الذي يجمع الأب بابنه
يروي لنا أنطوان في كتابه كيف كتب رسالة لزوجته على لسان ابنهما ليقرأها في الجنازة، وكيف قام بتوضيب اغراض هيلين التي ما زالت رائحتها عالقة بها، وكيف تسير أيامه الثقيلة القاسية في فهم ما يجري حوله، ويبدو للقارئ وكأن أنطوان غارق في كابوس طويل لا آخر له، وأنه يستوعب خلال سير الكتاب أن هذا هو واقعه الجديد.
ينجح كتاب "لن تنالوا حقدي" في نقل التجربة الإنسانية المروعة للفقد المفاجئ، في شرح آليات التعاطي التي يمكن لأهل الضحية أن يمروا بها والأدوات التي يمكن أن تساعدهم على الاستمرار، وينجح أيضاً في تقديم كتاب عن الأبوة وعن ذلك الرابط السحري الذي يجمع الأب بابنه ويغيّر علاقتهما للأبد من خلال الحزن العميق الذي يعيشانه.
"أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله". غسان كنفاني
نشرت الكثير من الكتب التي تتضمن شهادات عن ذلك اليوم الرهيب الذي سيذكره الفرنسيون دوماً، ولكن يبقى لكتاب ليريس أثر خاص، ربما بسبب صغر سن ابنه عند وقوع الكارثة أو لمقدرة ليريس الأدبية العالية، أو ربما لأنه استطاع أن ينقل للقارئ الشحنة العاطفية القوية التي ترافق هذا الفقد. ورغم أن المحاكمة شهدت حضور شهادات مؤثرة وحية أيضاً، فإن تلك الشهادة هي التي حضرت في ذهني وأنا أتابع مجريات النطق بالحكم على المتهمين، أفكر بأنطوان وميلفيل وبما تعنيه لهما هذه المحاكمة، وبمعنى العدالة الذي يتحقق في محاكمات مماثلة.أتساءل عن المعنى الرمزي الذي يرافقها كما أعلم بكل تأكيد أن لا عدالة يمكن أن تعيد لهما هيلين. يعود سؤال العدالة في سوريا ليلاحقني، أفكر بكل أولئك الضحايا، وأتساءل عن جدوى الملاحقة القضائية، وأفكر: هل من عدالة تكفي لدمل الجراح؟ هل من عدالة تعيد لأهل الضحايا حق الذين فقدوهم؟ لا تحضرني أجابة سوى الجملة التي يقولها سعيد لزوجته في رواية "عائد إلى حيفا" للأديب الشهيد غسان كنفاني: "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع