أشاهد أسبوعياً برنامج (المكتبة الكبيرة) على قناة فرانس 5، حيث يستضيف فرانسوا بونيل كتّاباً لمناقشة كتبهم الصادرة حديثاً.
في إحدى الحلقات استضاف بونيل كاتباً شاباً أفغانياً اسمه محمود نسيمي لتقديم كتابه (أفغاني في باريس). جذب الكتاب اهتمامي بحكم محاولتي الدائمة التعرف إلى تراث هائل من أدب المهاجرين الفرنسي، إذ أشعر دوماً أن التعرف إلى تجارب هؤلاء قد يساعدني في فهم تجربتي في المنفى.
تحدث نسيمي عن كتابه بفخر شديد، ورغم أنه تعلم اللغة الفرنسية منذ زمن ليس ببعيد قدرَ على التعبير عن نفسه بحرص وأناة. روى كيف بدأت رحلته في تعلم الفرنسية وكيف خطا خطواته الأولى نحو تأليف الكتاب.
سجلتُ الكتاب في قائمة الكتب التي أرغب بقراءتها وبدأت رحلة البحث عنه. لم أعثر عليه في مكتبة المدينة العامة، ولا في مكتبات مدينتنا الصغيرة. وحين زرت أصدقائي في مدينة كبيرة، بحثت عن الكتاب في كبرى مكتباتها ولم أجده.
"جذبني الكتاب بحكم محاولتي الدائمة التعرف إلى تراث هائل من أدب المهاجرين الفرنسي، إذ أشعر أن التعرف إلى تجارب هؤلاء قد يساعدني في فهم تجربتي في المنفى"
في حلقة لاحقة، استضاف بونيل الممثل جيرار دوبارديو للحديث عن قراءاته وعن فيلمه الجديد "ميغريه" المأخوذ عن رواية. في نهاية الحلقة أهدى بونيل إلى دوبارديو كتاب نسيمي، مشيراً إلى أن الكتاب المؤثر سيعجب النجم الفرنسي كثيراً. ذكّرتني الحلقة بالكتاب، وأصبحت مصرة على أن أحصل عليه. اكتشفت أن بإمكاني طلب الكتاب من موقع المكتبات المستقلة. وبعد انتظار وصل الكتاب إلى مكتبة في مدينتي وبدأتُ بقراءته.
لا يبدو الكاتب معنياً في كتابه برواية الرحلة المضنية التي أوصلته إلى فرنسا، رغم أنه يذكرها عرضاً، إلا أن الكتاب ينطلق من وصول الكاتب إلى فرنسا، والوحدة الشديدة التي عاناها بسبب انعدام قدرته على التواصل. وتمر الأيام في ظل محاولاته تقديم طلب اللجوء. وبما أن طالب اللجوء لا يحصل على سكن قبل تسوية وضعه القانوني، وبما أن الكاتب لا يملك ما يكفي من المال لكي يقضي يومه في المقاهي والمطاعم، فإن الحل الوحيد الذي يجده هو قضاء يومه في الشوارع. يصل في تجواله الحائر إلى مقابر باريس، ويبدأ باكتشاف فرنسا وتراثها من خلال قبور مشاهيرها فيتعرف إلى بلزاك وهوغو وموباسان الذين لا يعرفهم، ويروح يبحث على الإنترنت ليكتشف من هم هؤلاء، ويبدأ بقراءة الأدب وسماع الأغاني الفرنسية. هكذا تعلم اللغة الفرنسية.
بما أن طالب اللجوء لا يحصل على سكن قبل تسوية وضعه القانوني، وبما أن الكاتب لم يملك ما يكفي من المال، فإن الحل الوحيد الذي وجده هو قضاء يومه في الشوارع والمقابر.
بعد أن يسوي الكاتب وضعه القانوني ويحصل على حق اللجوء، وبعد أن يحصل على سكن، يبقى على إخلاصه لأصدقائه الأوائل، فيظل يزور المقابر ويشكر القابعين في قبورها على تخليصه من وحدته القاتلة. فلولا الأدب لما صمد في صراعه ضد الوحشة التي أكلت قلبه منذ وصوله.
يعود نسيمي بعد المقدمة إلى طفولته في أفغانستان واصفاً حنان أمه ومحبتها واضطراره إلى الانفصال عنها مبكراً بسبب عدم وجود مدرسة في قريته. يرسله أهله طفلاً إلى المدينة بغية الدراسة والإقامة مع جدته وعمه القاسي. يروي تفاصيل مؤلمة عن طفل يحب الحرية وعلاقته بعمه الذي يحاول بلا توقف ترويض هذه الروح التي تكره القيود وترغب بالانعتاق. ويشير على مر الصفحات إلى أن تلك المرحلة القميئة من حياته، جعلته يكره الكتب كراهية شديدة، ونفّرته طوال حياته الأفغانية من القراءة، وأن فرنسا أعادت علاقته بالكتاب، وأنه إن كان مديناً لوطنه الجديد فقط بهذه النعمة فهو مدين بالكثير.
يعود نسيمي في الفصول اللاحقة لرواية مقتطفات من حياته الجديدة. يروي قصص لقاءات وصداقات تتشكل، وينظر بعين المحبة لكل من مر في طريقه. يحكي عن شريكه في السكن الذي يعجز عن إيجاد الأمل ويغرق في الكآبة والحزن بسبب عدم قدرته على التأقلم، وعن راهب التقاه في دير يستضيف اللاجئين وأصبح طوال مدة الاستضافة جد الكاتب. لينهي كتابه بفصل عن الحب المفقود الذي تركه خلفه في بلاد مزقتها الحرب.
ينضح كتاب نسيمي بالتفاصيل والصور التي تبقى في الذاكرة، لعل أكثرها تأثيراً ملاحظته العابرة أنه نسي في أفغانستان صوت العصافير. فلشدة تعرض البلاد للقصف لم تعد تُسمع فيها أصوات الطيور. لذا يلتفت الكاتب كثيراً إلى حضور زقزقة العصافير التي يسمعها في فرنسا. ولكن التفصيل اللافت في الكتاب هو رغبة الكاتب العميقة في التركيز على كل السعادات الصغيرة، وكل أشكال المحبة التي صادفها، وإصراره على تصغير شأن الآلام والأحزان.
يلتفت الكاتب كثيراً إلى حضور زقزقة العصافير التي يسمعها في فرنسا. فقد نسي في أفغانستان صوت العصافير لشدة تعرض البلاد للقصف.
تأملت بعد إنهائي قراءة الكتاب في التشابه بين رحلتينا، بدت الرحلتان متباعدتين جداً في طبيعتيهما، يجمعهما فقط ما يجمع كل قصص المنفيين عن وطن أحبوه واعتادوه على علاته، الحنين وغصة الفراق القسري. ولكن الفرق الأساسي بين الحكايتين هو خروجنا السوري جماعة، مما جنب معظمنا المرور بالتجربة المريرة للوحدة. يصرّ محمود نسيمي على أن الحياة جميلة، وفيها ما يستحق أن نعيش من أجله وإن كان قطعة حلوى رخيصة يحصل عليها في يوم ميلاده.
بدا في كتاب نسيمي أن وجود شخص واحد يتحدث لغة الكاتب الأم عند وصوله كان يمكن أن يخفف عنه جفاف روحه وإحساسه المستمر بالوحشة.
لعل خروج ملايين السوريين والسوريات من بلادهم دفعة واحدة كان نعمة، لم ندركها في ظل انشغالنا بالحنين والحزن على الوطن المفقود وعلى الذين تركناهم وراءنا مثل أم محمود نسيمي وأمهات وآباء وأجداد وجدات كثيرون...
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...