يعيش الرأس السياسي العربي أزمة خيال، فالرأس الذي دفع بالرئيس التونسي قيس سعيد أن يعلن انقلابه يوم 25 تموز 2021، لم يتخيل بقية السيناريو لشعب يرزح تحت خط الفقر ويبحث عن القروض والإعانات للنجاة من أزماته الاقتصادية المتتالية، ولم يتخيل أبداً مصير الحريات الفردية والعامة، وحرية التعبير في ظل الانقلاب، في المقابل لم يفكر الإعلامي الذي طبّل فرحاً مسروراً بإسقاط الإسلام السياسي بمستقبل حرية التعبير والإعلام، وظلّ يطبّل حتى بعد أن بدأت ماكينة نظام الانقلاب بالتهام بعض الإعلاميين، الزجّ بهم في السجون أو دفعهم إلى المنافي.
لم ينتبه الإعلام التونسي إلى تورّطه في نحت مستقبل مظلم له، حتى بدأ الانقلاب يلتهم أطرافه التي لا علاقة لها بالإسلام السياسي. ولم ينتبه بعض المبدعين المصطفين وراء الانقلاب بذات الذريعة، التخلص من الإسلام السياسي، إلا بعد أن قاموا على خبر منع فيلم للصور المتحركة، وتوقيف مخرج شاب.
انتبهوا أن الإسلام السياسي مجرد شمّاعة لالتهام كل مكاسب الثورة، وغرق الشعب والدولة برمتها في جوٍّ عام من الانحطاط الأخلاقي والسياسي والاقتصادي، دون أن تحقق سلطة الانقلاب إنجازاً واحداً، بل حرمت الشعب المهلّل نفسه والأحزاب التي اصطفت وراءه دون تفكير حتى من حقه في تقرير مصيره عبر انتخاب حر أو عبر كتابة دستور بلاده، فكُلّف عجوز خرف بكتابته في بيته، ليخرج الشعب بعد ذلك لمبايعته.
ما يحصل في تونس من فقر خيال في المشهد السياسي والثقافي هو ذات المشكل الذي تعاني منه السياسات في العالم العربي برمته، بعضها معلن وبعضها مستور بالتقية. ولو نظّمت بطولة العالم للخيال بين الرؤساء والملوك لرأينا في ساستنا العجب العجاب، واكتشفنا عبقرية العدم. لكننا فزنا بتنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم ،وسيكون امتحاناً لنا في أمور كثيرة، منها التنظيمي، الأمني واللوجستي، وهذا نكاد لا نشك من نجاحه في مجتمعات الرقابة الميكرو فيزيائية، ولكن التنظيم على مستوى إنتاج المعنى، وما ترفعه هذه الرياضة من شعارات إنسانية للتعايش والسلام، هل سننجح فيها؟ قبل ذلك كله ماذا لو لعبنا لعبة ماذا لو؟
لم تترشح إسرائيل لنهائيات كأس العالم، ويبدو أن دورة 2022 نجت من أكبر مشكل قد يعترضها. لكن ماذا لو ترشحت إسرائيل لنهائيات كأس العالم؟ هل ستستمر قطر في إقامة الدورة بوجودها أم ستتخلى عنها؟
ماذا لو ترشّحت إسرائيل؟
لم تترشح إسرائيل لنهائيات كأس العالم، ويبدو أن الدورة نجت من أكبر مشكل قد يعترضها، لكن ماذا لو ترشحت إسرائيل؟ هل ستستمر قطر في إقامة الدورة بوجودها أم ستتخلى عنها وما سيحدث من آثار ضمن سابقة عالمية؟ أم أنها ستمنع إسرائيل من المشاركة رغم ترشحها؟ وماذا سيكون رد فعل المجتمع الدولي والفيفا؟ وإذا ما ترشحت اسرائيل وقبلت قطر بمشاركتها، كيف ستكون المشاركة وماذا سيحدث مع الفرق العربية؟
هل ستقيم "قرعة" مزوّرة لكي تضمن ألا يكون مع المجموعة التي فيها إسرائيل أي فريق عربي؟ ماذا لو تقدمت الفرق العربية إلى الأدوار المتقدمة كل مرة، وكانت إسرائيل كل مرة معها في مواجهة؟ هل ستنسحب كلها مذكّرة بتصفيات عام 1958؟ هل ستلعب تلك الفرق وتتجاهل الجماهير كما فعلت يوماً لاعبة التنس التونسية أنس جابر، والتي لعبت مع اللاعبة الإسرائيلية وهزمتها، ورغم ذلك أخرجت الخارجية التونسية بياناً تتبرّأ فيه من سلوك اللاعبة؟ نفس اللاعبة التي تحقق اليوم كل هذه النجاحات والتي يهنئها رئيس الدولة صاحب مقولة "التطبيع خيانة عظمى". أليست تلك المقابلة واحدة من مسار اللاعبة لكي تصل إلى هذا الوضع التي وصلته؟
صحيح أن الجزيرة الاخبارية لطالما استضافت محللين سياسيين ومفكرين إسرائيليين في السلم والحرب لتحليل الوضع السياسي في المنطقة، لكن المشكلة في هذه الفرضية الجديدة أن العلاقة بين قطر وإسرائيل في أحلك أيامها إعلامياً على الأقل، خاصة بعد اغتيال مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة، والجزيرة عبر قنواتها الرياضية ومعلقيها هي من ستنقل فعاليات كأس العالم.
قريباً من هذه العوالم، كتب الروائي والصحافي المصري أحمد الصاوي روايته الديستوبية إصابة ملاعب، رواية من شوطين (2016) مستوحاة من أحداث 1958، وهو مأزق متخيل يضع مصير مصر في الترشح إلى كأس العالم رهين لقاء مع إسرائيل.
"إلى سيد غنام في أبديته: أتسلق فوق جدار الفكرة... أسقط... أرتطم بأرض صلبة... تتحطم رأسي. لكني لا أرحم نفسي... وأعيد الكرة"
ظلت هذه الرواية أقل حظا في المراجعات منذ ظهورها سنة 2015، على الأرجح بسبب موضوعها المحرج، فهي رواية ديستوبية تدور في العالم الأكثر شعبية وهو عالم كرة القدم، لكنها رواية سياسية بامتياز، لأنها تثبت أن مباراة كرة القدم هي الاستعارة السلمية للحرب. وكأن بالنقد العربي استبعدها حتى لا يفكّر، وليس غريباً أن يصدّر الكاتب روايته بعبارة: "إلى سيد غنام في أبديته: أتسلق فوق جدار الفكرة... أسقط... أرتطم بأرض صلبة... تتحطم رأسي. لكني لا أرحم نفسي... وأعيد الكرة".
هكذا تنطلق الرواية من فكرة التحرش باللامفكر فيه عربياً، لتبدأ من كابوس أن يصبح الملاذ الذي استنجدت بها الجماهير من الهزائم السياسية والديكتاتوريات المتتالية والبؤس والفقر؛ كرة القدم، كابوساً يهدد بأن يكون مسرحاً لهزائم ونكسات جديدة.
ماذا لو كان الشرط لعبور مصر لكأس العالم مقابلتين بينها وبين إسرائيل؟ كيف سيتعامل المصريون؟ هل هو الانسحاب أو اللعب والفوز؟ ماذا لو هزمت مصر، ماذا سيحدث للجماهير المنهزمة سياسياً والتي تعيش نكسة نفسية منذ أكثر من نصف قرن بسبب هزيمة 1967؟
فـ"كل الهزائم كوارث... حتى لو في مستطيل أخضر". يقول الراوي: "إنك لا تتمنّى أبداً أن تجد نفسك محاصراً بين تفاصيل كابوس، واقعاً فى عمق دواماته، غارقاً فى أحداثه التى تبدو غريبة ومأساوية، رغم كونها عادية وغير مباغتة. لكن ذلك كله لا يعني أن الكوابيس لا تتمنّى الإيقاع بك، ولا تسعى إليك بهمّة لتجرح خيالك، وتحطم أسواراً كنت تراها مأمونة الجانب، وتدشّن واقعاً كنت تنكر احتمالاته، وتتجاهل وجوده.
فارق كبير بين التمني والارتكان له والتخندق فيه كحل دفاعى يوفر عناء تحفيز الذهن للتفكر فى إدارة المواجهة، وبين الجهوزية لو حبل الأمنيات انقطع واصطدمت يوماً بهذا الواقع شديد الترجيح. تحمل على ظهرك تاريخاً زاخراً بالمآسي والأخطاء، مطلوب منك أن تدفع نصيبك من فاتورة هذه الأخطاء، وأن تتصدى لفك تعقيدات متراكمة، غيرت كل شيء على الأرض، عدا القناعات والأساليب القديمة فى تحقيق تلك القناعات. تقبض بيديك على جمر لا تعرف متى ينتهي لهيبه، ولا كيف، يتوقف وجعه، تتوارث أمانته جيلاً وراء جيل".
ماذا لو كان الشرط لعبور مصر لكأس العالم مقابلتين بينها وبين إسرائيل؟ كيف سيتعامل المصريون؟ هل هو الانسحاب أو اللعب والفوز؟ ماذا لو هزمت مصر، ماذا سيحدث للجماهير المنهزمة سياسياً والتي تعيش نكسة نفسية منذ أكثر من نصف قرن بسبب هزيمة 1967؟
نتساءل ونحن ننهي قراءة هذه الرواية التي طرحت الأفكار ولم تعط حلولاً ولا أجوبة ككل رواية تحترم نفسها، هل تجاهلها، حتى لا تكاد تعثر على مراجعة وحيدة لها رغم أن صاحبها صحافي معروف، يدخل في باب الرد على الدعوة إلى التفكير في المحظور التفكير فيه؟ وهل يعني هذا أن الموضوع محسوم في أذهان الناس، أم لأنهم يخشون التفكير ويستكينون إلى الطمأنينة التي يفضحها الكاتب في العبارة الأولى التي نوّه بها قبل بداية الرواية، بأنها مجرد "افتراضات كاتب، لا تعبر عن أحداث حقيقية، أو أشخاص لهم أي صلة بالواقع".
فما لم يحدث لا يحتاج منا التفكير، وتعودنا أن "نسبّق الخير" وألا نفكر في المصائب قبل حدوثها، وأن التفكير في الغيب كفر، لكننا مغرومون بالبكاء على الأطلال وإقامة الحداد بعد الهزائم، قبل أن نجترح مصطلحات أخرى لهزائمنا، فنسميها "نكبة" ونكسة"، كما ننحرف باسم الانقلابات العسكرية ونسميها "ثورة الضباط الأحرار".
يبدو أن الرواية وقع تصفيتها نقدياً بسبب خطابها الشكي، حيث لا تطمئن إلى الراهن السياسي وتشير إلى صيرورة الهزيمة المتكررة إلى جانب موقفها من التطبيع مع إسرائيل عبر لعبة الجماهير "كرة القدم"، لأن الحديث عن أن المقابلة لم تجر بعد وأن الرواية انتهت قبل ساعتين من بداية المقابلة، لا يرجح أبداً إمكانية إلغائها. كما أن الرواية تشير بوضوح إلى بؤس الماضي والديكتاتورية التي سقطت فيها مصر، في قول الراوي:
"عشت أياماً صعبة. سنوات من الحرب. وسنوات من الفساد. وسنوات من محاولات الثورة التي غرقت في الفوضى. أو خطفها الماضي بدلاً من أن يمضي بها إلى المستقبل. تداولها الإرهاب والاستبداد ككرة حائرة في منتصف الملعب، تنتظر من يسددها في الشباك، وكلما سجل أحدهم هدفاً، عادل الثاني الكفة، هكذا بينما أنت مطرود في المدرجات، لا تلعب ولا تشجع أي ممن يلعبون".
ماذا لو أضافت جائزة البوكر العربية شرطاً من شروطها الكثيرة يقول: لا يحق للكاتب المشارك الاعتراض عن ترجمة روايته إلى أي لغة؟
جائزة البوكر ماذا لو اشترطت الترجمة العبرية؟
ثار الكتاب أيام أعلنت دولة الإمارات العربية ودول عربية أخرى تطبيعها مع إسرائيل، وأغرقونا بتدويناتهم على فيسبوك وتويتر وكل وسائل التواصل الاجتماعي ، ولاحقوا بعنف بعض من ثبت أنه ترجم للعبرية (وكنت واحداً منهم) لكن سرعان ما خفتت أصواتهم مع عودة معارض الكتاب للنشاط، فكل تلك الحماسة كانت في "تخميرة كورونا". تلك الأيام التي لا يوجد فيها سفر ولا دعوات ولا معارض كتب، وكان الناشرون طبعاً أول السباقين إلى الفصل بين موقف الدولة ومواقفهم، وكانوا يندّدون سرّاً ويلوذون بالصمت علناً.
انفعل البعض من الكتاب وأعلنوا أنهم لن يشاركوا في جائزة البوكر بعد ذلك التاريخ، وبعد أشهر رأينا أعمالهم ترفرف في سماءات الخليج عبر البريد السريع لإدراك المشاركة قبل انتهاء الموعد، وفي ظل هذا النفاق الثقافي العربي، نطرح السؤال التالي:
ماذا لو أضافت جائزة البوكر العربية شرطاً من شروطها الكثيرة يقول: لا يحق للكاتب المشارك الاعتراض عن ترجمة روايته إلى أي لغة؟ عندها سنتخلص من الكثير من النفاق الثقافي والتصريحات البطولية التي يبديها بعض الكتاب لمنابر عربية، ولا يجرؤون على قولها بلغات أخرى. إن الدعوة إلى هذه اللعبة/السؤال ليس فيها مسّاً بقيمة الجائزة، بل هو امتحان حقيقي للكاتب العربي ليأخذ موقفاً واضحاً ويعفينا من الأكاذيب، مع العلم أن أغلب كبار الكتاب العرب مترجمون إلى العبرية، لكنهم لا يجرؤون على نشر أغلفة رواياتهم على صفحاتهم ومواقعهم، وكل ذلك داخل ضمن النفاق الثقافي العربي والمحلي.
ماذا ستفعل السلطة في قطر مثلاً إذا ما تواطأت الجماهير في كل مباراة، وغمرت بعضها بما سمي بالقبلات الآثمة؟ ماذا لو قبلوا بعضهم وبلا استثناء حتى، على سبيل التضامن مع الحريات الشخصيات، ماذا ستفعل السلطة؟ هل يستوقف المباريات وبالتالي ستوقف المونديال؟
المثلية بين كأس العالم ومؤسسة شومان وبيانها
منذ أشهر، مثّل حضور المثليين/ات إلى قطر ومتابعة مباريات كأس العالم أكثر الأخبار تداولاً، وكان السؤال حول الخطر الذي يتهدد المجتمعات العربية وتقاليدها بوصول أفكار ستدمر شبابنا الطيب والخلوق الذي "يشرّ" تربية وأخلاقاً واحتراماً. تداولت مواقع كثيرة أن السلطة وصلت إلى قرار بمنع رفع علم قوس القزح في الملاعب، ومنع تقبيل الرجل للرجل والمرأة للمرأة.
في لبنان، لاحق الكثيرون في الشوارع أعلام قوس قزح في هذا الشهر الذي يحتفلون فيه بأعيادهم/نّ. يبقى السؤال: ماذا ستفعل السلطة في قطر مثلاً إذا ما تواطأت الجماهير في كل مباراة، وغمرت بعضها بما سمي بالقبلات الآثمة؟ ماذا لو قبلوا بعضهم وبلا استثناء حتى، على سبيل التضامن مع الحريات الشخصيات، ماذا ستفعل السلطة؟ هل يستوقف المباريات وبالتالي ستوقف المونديال؟
هل ستعتقل كل الجماهير بتهمة التقبيل؟ هل لها ما يكفي من السجون لاستضافتهم حتى تخرج سلطات دولهم وتطالب باطلاق سراحهم، وبالتدخل السلمي أو غير السلمي؟ هل ستلجأ قطر مثلاً لاستئجار سجون من دول مجاورة مثل فعلت أمريكا في سجن غونتانامو؟ أم ستضع في الاعتبار من الآن حاجة المونديال وضمن الجاهزية في مستوى البنية التحتية سجون ومعتقلات التهم العاطفية، وتسرع في إنشائها وبنائها، مستفيدة من الثورة العالمية في عالم البناء المتحرك والفضاءات المتغيرة والتي يمكن توزيعها كهبات إلى الدول الفقيرة بعد ذلك، كمدارس في الأرياف؟
هل يقبل أحدكم أن يأتيه رجلاً ليخطبه في ابنه؟ يسأل قيس سعيد
المشكل، أي قانون سيطبق على المثليين/ات هناك؟ هل استناداً للشريعة الإسلامية أم للقوانين المدنية؟ هل هناك بنود في الدستور تشير إلى ذلك، وهل هناك أصلاً دساتير عربية بعد وأد الدستور التونسي؟
صرح أمير دولة قطرة تميم في ألمانيا: "نتوقع ونريد أن يحترم الناس ثقافتنا"، لكنه لم يقل لنا كيف ستتصرف السلطة القطرية إذا مارس مجتمع الميم-عين ثقافتهم/نّ، واعتبروا/ن قمع ثقافتهم/نّ في أي مكان من العالم يعتبر تعدياً عليهم/نّ؟
يربي الغرب أطفالهم على ألعاب التركيب "الليغو " والكلمات المتقاطعة في كتب تباع في كل مكان، بينما نربي أطفالنا على التطيّر، فنقمع حتى خيالهم أن يتوقع مآزق ليبحثوا فيها عن حلول.
لذلك وقعت مؤسسة شومان في مأزق عندما أخرجت بيانها لحجب كتاب أطفال هوجم بدعوى أنه يشجّع على المثلية. أنكر البيان أن يكون للكتاب أي صلة بالتشجيع على المثلية، ولكن مع ذلك واحتراماً للجماهير قررت المؤسسة سحب الكتاب.
ورد في البيان: "رغم أن محتوى الكتاب لا يظهر ما اتهم به، إلا أن مؤسسة عبد الحميد شومان ارتأت سحبه من العرض والإعارة، فنحن وقبل كل شيء لا نريد أي تعارض مع رسالتنا التي نحملها على مدار أكثر من أربعين عاماً، حتى لو كان ذلك التعارض عن طريق الشبهة والتأويل.
إن بناء الإنسان؛ علمياً وثقافياً ومعرفياً، والتشديد على الفطرة الإنسانية السليمة، هي أولويات عمل مؤسسة عبد الحميد شومان، ونحن لن نفرط في هذه الأولويات".
بقطع النظر عما بالكتاب، فإن الرضوخ لسلطة الجماهير من مؤسسات الدولة أو مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الثقافية دليل على هشاشتها وتورّطها في ثقافة الجمود، فهي حريصة على سلامة مشاعر الجماهير حتى لو كانت على خطأ، وغير معنية بتثقيفهم ولا تطويرهم ولا تطوير منسوب الوعي عندها.
دستور قيس سعيد المنتظر المثلية
عندما سُئل قيس سعيد عن المثلية الجنسية في حملته الانتخابية في برنامج "كرسي قرطاج" علـى الوطنيّة الأولـى، أجاب: "الفضاء الخاص لا دخل لي فيه ولا دخل للسلطة فيه، هو حرّ في ذلك، أما بالنسبة للفضاء العام هنالك مجموعة من القيم التي يجب ان نحافظ عليها داخل المجتمع. هم أحرار ولكن يجب أن نحفظ القيم، هل يقبل أحدكم أن يأتيه رجلاً ليخطبه في ابنه؟ هم يشكون الفقر والبؤس ونحن نتحدث عن هذه الحرية".
هكذا حسم قيس سعيد وهو بعد مترشح للرئاسة في قضية المثلية، بينما بدأت بوادر موقفه تظهر من خلال منع عرض فيلم الكرتون "Lightyear" بسبب قبلة بين فتاتين، عبر سلطة الوالي، والذي برّر الأمر بأن العارض لم يطلب رخصة للنظر فيها، وهي عودة لقوانين الرقابة التي قضت نحبها في زمن الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
وهكذا عادت السلطة تسير اختيارات الناس وتقرر ما يشاهدون وما يقرؤون، كأي دولة استبدادية في العالم، في مشهد يتعاظم ليذكرنا برواية "نحن" للروسي يفغيني زامياتين، حيث تسيطر السلطة على الفرد وتستبدل الأسماء بالأرقام والحروف، وتتدخل حتى في علاقات الرعايا العاطفية والجنسية، تلك الرواية التي ألهمت جورج أروويل رائعته "1984".
ويبدو أن تونس التي أعدم رئيسها كل المؤسسات الوطنية، وتكفّل وحده بوضع الدستور الجديد مقبل شعبها على ديستوبيا شاملة، خاصة أن قيس سعيد قد مهّد لها بوضع نفسه وأفكاره موضع المسيح الذي سيتكفل طلبته بتفسير كلامه للعامة ونشر ديانته الجديدة. فهل وضع قيس سعيد ولو افتراضاً واحداً لسقوط انقلابه واحتمال أن يحاكم يوماً؟ لا يبدو ذلك قائماً، لافتقار الرئيس للخيال، كما وصفه أحدهم، والذي يبدو متخبطاً منذ بداية عهده في البحث عن ذات سياسية عبر المشاهد التراثية والكتب التراثية والتي لا يحسن قراءتها، وفي البحث عن لغة لخطابه، أنهكته وأنهكت المستمعين، بعد أن تخلى عن تلقائيته التي عرف بها ما قبل الترشح للانتخابات.
المأزق الذي يعيشه المشهد الثقافي والإبداعي التونسي: ماذا سيفعل نظام قيس سعيد إذا ما انتصر في الاستفتاء المزعوم ورسّخ نفسه وقد نصب نفسها عدواً للإعلام والإبداع والفنون؟ هل يعلم قيس سعيد أن الكثير من الروايات التونسية كـ"مأزق تشايكوفسكي" لشوقي البرنوصي أو "طرشقانه" لمسعودة أبو بكر، تناولت موضوع المثلية، فهل سيمنع تداولها بين الناس ويطلق محاكم التفتيش للبحث عنها المكتبات واحراقها؟
هل يعلم نظام قيس سعيد أن الكثير من الأفلام السينمائية التونسية الوثائقية منها والتخييلية، كفيلم "خشخاش" لسلمى بكار، أو "عزيز روحو" لسنية الشامخي، و"أطياف" لمهدي هميلي، والمسرحيات التونسية كـ"لاغارنتي" لآسيا الجعايبي مثلاً، تطرقت لموضوع المثلية؟ فماذا سيفعل بها؟ هل سيمنع عرضها أو إعادة عرضها أم سيعدمها؟
وفي وقت كانت جمعية شمس تناضل ضد الانتهاكات والمحاكمات التي يتعرض لها مجتمع الميم-عين في تونس، كما يقول رئيسها، ومن أجل إلغاء المادة 230 من القانون الجزائي التونسي، والذي ينص حرفياً على أن "اللواط أو المساحقة إذا لم يكن داخلاً في أي صورة من الصور المقرّرة بالفصول المتقدّمة يعاقب مرتكبه بالسجن مدة ثلاثة أعوام". جاء الانقلاب الذي يتزعمه رئيس لا يعترف بالمثلي في الفضاء، فهل على المثلي أن يتقنع بشخصية أخرى ليعبر الشارع مثلاً أو يتحدث مع الناس؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت