أبتسم ابتسامة خفيفة لا تُظهر أسناني، لسنا في إعلان سيجنال، لتكن بسمة هادئة، لا تنم عن خجل ولا استعراض.
يداي، ماذا أفعل بهما؟ واحدة على خاصرتي وأخرى مرتخية.
لا هذا استعراضي، مشتبكتان؟ لا... يبدو طفولياً وبائساً.
لا داعي للوقوف، لأجلس هكذا أريّح يديّ على ركبتي.
لتلتقط الصورة،
لا، لست أنا هذي ولا تلك...
لنغير وضع الجسد، بروفايل الوجه، اتجاه الضوء...
مشهد بأمكنة وأزمنة مختلفة يتكرر.
بتُّ أتجنب المناسبات حتى لا أُطالب بالانضمام إلى جمع لالتقاط صورة. الكاميرا التي يتجول بها المصوّر ترعبني، أشعر بها بندقية يُمكن أن يصوبها تجاهي، ويقتنص صورة.
تُصبح صورتي في أيدي آخرين. يُزعجني الأمر.
أشعر بالغربة تجاه صوري، لست متيقنة هل لأنها لا تُمثلني أم لأنها تكشف ما لا أعرفه عن نفسي، وما تكشفه لا يُرضيني.
أريد أن أبدو فتاة واثقة، بينما أظهر متجمدة مرتبكة، وربما ساذجة.
لا أعرف كيف أقف بثبات أمام الكاميرا، أثبت جسدي وابتسامتي ريثما تُلتقط الصورة.
يقول "رولان بارت" في كتاب "الغرفة المضيئة": "كل مرة أقف أمام العدسة يمسني شعور بانعدام الصدق وأحياناً بالخداع".
لا أعرف كيف مع شعور كهذا يمكن أن أكون على طبيعتي؟
اعتادت أن تُخبرني صديقتي أنني لا أمنح حقيقتي بسهولة، لهذا يصعب أن أتوافق مع حبيب. لنصل لمعرفة بدواخلنا تمنحنا الأمان والثقة.
لم أتعمد هذا، لكن فتاة برج العقرب لا تثق بسهولة والحذر من سماتها الرئيسية.
الحذر ما أمارسه تجاه الكاميرا، هناك تحفّز أشعر بمسافة نفسية معها.
"كل مرة أقف أمام العدسة يمسني شعور بانعدام الصدق وأحياناً بالخداع"
الكاميرا التي تحب وتكره
سمعت مراراً عن محبة الكاميرا لفنانة دون أخرى، أن سعاد حسني تعشقها الكاميرا.
واقتنعت طالما الكاميرا تحب فهي تكره، ويبدو أني واحدة ممن نالتهم كراهيتها.
عبارات من هذا النوع صنعت حاجزاً بيني والكاميرا، كما لو أنها بكراهيتها تتعمد تشويهي.
أحيانا أشعر أن الكاميرا تتطلع داخلي، ترصد ما لا أعرف وتفضحني.
تكشف كم أنا ساذجة وأدعي الذكاء والخبرة، أو كم باردة وقاسية والسمات الطفولية قشرة خارجية.
واجه رولان بارت ذات الأزمة وهو يبحث عن أمه في صورها بعد وفاتها.
يقول: "تعرفت على مقاطع من وجهها، على علاقة ما بين أنفها وجبهتها ، لم أدركها إلا أجزاء. بما يعني أني أفتقدها. لم تكن هي ولم تكن شخصاً آخر. تجبرني الفوتوغرافيا على بذل جهد مؤلم لتقصّي هويتها".
هنا يوقن رولان أن الكاميرا لا تملك عيناً سحرية يمكنها أن تكشف المخبّأ، يعتبرها آلة معدنية تفشل في إدراك الجوهر الإنساني.
"لا أريد للصورة أن تُزيف الجوهر الثمين لتفرّدي، ما أنا عليه خارج كل صورة. الصورة تبدو ثقيلة ساكنة عنيدة، وأنا خفيف ومنقسم. لا أبقى ساكناً، ولكن مهتاجاً في أنائي".
الصورة الفوتوغرافية لا يُمكنها أن تحيط بالجوانب المختلفة لذواتنا التي يصعب على من يعاشرونا من المقربين إدراكها مجتمعة، الصورة هي لحظة عمرية مثبتة أمام زمن طويل متغير.
مطالبة الصور بتجسيدنا كما الواقع يبدو مبالغاً فيه.
"لا أريد للصورة أن تُزيف الجوهر الثمين لتفرّدي، ما أنا عليه خارج كل صورة. الصورة تبدو ثقيلة ساكنة عنيدة، وأنا خفيف ومنقسم. لا أبقى ساكناً، ولكن مهتاجاً في أنائي"
يُمكننا مثلاً في السينما أن نكره شرير الفيلم، ومع المتابعة نتفهم الدوافع ونتعاطف، فننفي صفة مقابل أخرى، ونضيف صفة لصفة، ونكوّن عالماً من السمات لتلك الشخصية تجعلها من لحم ودم.
أما عن عجزنا عن معرفة أشخاص مع وجود صورهم في أيدينا، يقول بارت: "الصورة لا تخفي شيئاً لكنها لا تتكلم، لا تعرف كيف تحكي ما نراه".
يُمكننا أنسنة الكاميرا من خلال المصور، تتردد مقولة أننا نبدو أجمل في الصور التي تلتقطها أعين من يُحبنا.
أعتدت أن أمزح بهذا الشأن مع أخواتي، كيف أن الصور التي يلتقطنها لي تنبئ عن حقد دفين من بشاعتها.
صوري كانت تُقام عليها حفلات تنمّر جماعية في بيتنا.
لهذا لا أقبل أن يلتقط صوري غير المقربين، لن تُشكل صوري مرجعية عندهم لمعرفتي. فلا أهتم بشكلي في الصور، وأنا أمام أعينهم يُمكنهم ملامستي، احتوائي والاشتباك معي.
يرى رولان أن معرفتنا لمن في الصور تتم من خلال إغماض أعيننا لجعل الصورة تنطق في صمت يقول: "يحدث أنني أستطيع معرفة صورة أتذكرها أكثر من صورة أنظر إليها. كما لو أن الرؤية المباشرة توجه اللغة توجيهاً مزيفاً، تجعلها تنخرط في مجهود للوصف تضيع معه نقطة التأثير".
يحدث هذا مع المقربين من يملكون خلفية واقعية عنك، لهذا لا أخجل من التقاطهم صوري. حتى لو اختلفت آراؤهم.
أتسامح مع الغريب. لا يعرف اسماً ولا عنواناً ولا مهنة لي، فتاة شبحية بالنسبة له، سيلتقط صورتها دون النظر للنتيجة.
في رحلاتي كنت أدع عابرين يلتقطون لي صور، ليس ثمة وداع لأنه لم يحدث لقاء.
أما من يقع بين نطاق المقربين جداً والغرباء، فلا أحبذ أن يحتفظوا بصور لي.
الأم في الصور
نعود لحديث رولان عن أمه يقول : "تركت أمي نفسها للعدسة خوفاً من أن ينقلب رفضها إلى موقف، لقد نجحت في هدوء في اختبار الوقوف أمام الكاميرا، بدون المبالغة المسرحية للتواضع أو العبوس، انتصرت لقيمة اللباقة، لم تصارع صورتها كما أفعل أنا لم تفرض نفسها".
ببساطة، تركت الكاميرا تراها كما تشاء، فما هي سوى صورة ورقية.
كان رولان يبحث في صور أمه عن أشياء كانت تضعها على طاولة زينتها، علبة بودرة يحب صوت غطائها، قنينة كريستال، كرسي منخفض، وحقائب كبيرة كانت تحبها.
أظن هذه الأشياء يمكنها أن إستحضار ذكرى الأم أفضل من الصور، يمكن من خلال روائح الأشياء وملمسها وأصواتها استحضار عوالم الغائبين.
أتخيله جالساً على كرسيها، يقرب أنفه من البودرة، يعيد فتح وغلق العلبة ليأتنس بصوتها، يبعثر شنطها أمامه ويتخيلها خارجة لمشاويرها. ينظر إلى صورها ويُغلق عينه لينبعث عالمها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...