في ليلة عرسي
(1)
في طفولتي، رصصتُ دمى العرائس أمامي، بعدما ألححتُ على أمي أن تصنع لهم فساتين زفاف من بواقي قماش غير مستعمل، أصبح شكلهم بهيجاً وهم جوار بعضهن بالفساتين البيضاء، ينتظرن فتيان أحلامهن، كنت أبني لهن في خيالي حياة كاملة، هذا الخيال لم أكن أعرف إنه سيكبر معي ويرادوني في أحلامي كثيراً.
(2)
في دراستي الجامعية كنت من أوائل القسم، ومن القليلات اللائي أستكملن مباشرة الماجستير فور التخرج، أذكر إنني بدأته بعد تخرجي بثلاثة أشهر، زُينت عيناي بطموح الوصول إلى ما هو أبعد من مجرد شهادة، كنت متعطشة للبحث والدراسة والكتابة العلمية التي تفيد الباحثين وتترك أثراً طيباً لن يزول حتى بزوالي.
صرفت سبع سنوات شاقة بعد التخرج لأنجز الماجستير، تخللتهن عشرات الوظائف المختلفة، بين القاهرة والمنصورة وطنطا، حتى أستقر حالي على الصحافة. كنت فتاة عملية، نشيطة، ممتلئة بالآمال العريضة عن المستقبل، ربما هي براءة الطفولة أو حيوية الشباب، للأسف فقدتهما الآن بعد اصطدامي بالواقع الذي أجاد تحطيم طموحاتي.
من الخارج كنت كإنسان آلي، لا يجيد سوى العمل والدراسة والمشاركات الثقافية والمناقشات العلمية. لا أفكر سوى في السلم الذي رسمته لنفسي؛ كي أصعد عليه، فلا تضيع سنوات عمري هباءً.
ماذا يعني أن تتخيل زفافك؟ كل أنثى فكرت في هذا اليوم، تجلس شاردة الذهن، تهيم في التفاصيل، الفستان، هل سأبدو جميلة، هل سأختار إنساناً لن أندم على زواجي منه، هل سيظل يحبني، هل سأبدو في عينيه جميلة مهما مرضت، أو هرمت، هل سعادة الزفاف تضمن سعادة الحياة فيما بعد؟... مجاز
بدوت لمن حولي الباحثة الشاعرة الصحفية والعديد من الألقاب التي لم أحبها إلى الآن، كنت أرى نفسي دوماً تلك الأنثى الحالمة التي يراودها ذلك الحلم كل فترة مع إنسان لا أستطيع العيش بدونه، يضحى مع الوقت الهواء الذي أتنفسه، قُبلة الحياة التي ترد في جسدي الروح، عندما تثقلني الأعباء والهموم. داخل كل مننا تلك الحالمة التي تشعر بأنوثة تلح عليها كل مدة، تنتظر زوجاً يؤكدها.
(3)
منذ وعيت مبكراً، رفضت فطرتي كل المساحيق التي تتزين بها النساء، كنت أرى نفسي كوردة طبيعية، لا تحتاج إلى مكياج أو زينة ملونة تطلي بها الخدود والشفاه، كنت أنظر لغيري من الفتيات بشفقة، لتحويل أنفسن "عرائس مولد"، كي يحققن الرضا الداخلي عن أنفسهن بأنهن جميلات، حتى لو بالكذب والادعاء والزيف، تداري كل منهن عيوباً في بشرتها بتلك المساحيق، تخفي الحبوب والهالات والبقع وغيرها من العيوب الطبيعية التي تطرأ كل فترة على البشرة طبقاً لظروف كثيرة.
كنت ولا زلت معتزة بنفسي، أشعر إنني مميزة بطبيعتي التي رفضت أن أهينها بتلك المساحيق، هكذا مثلما ولدت أواجه الناس والعالم، يكفيني الماء والصابون حتى أظهر ببشرة صادقة، لا تخفي حقيقتها تحت قناع المساحيق.
آمنت بأن الجمال ينبع من الداخل، لا من الخارج، فما نحن سوى أجساد بالية سواء رضينا أم رفضنا، والجمال الحقيقي سر لا يعرفه سوى صاحب البصيرة. لا تحتاج الوردة للمساحيق لتثبت أنها وردة، كذلك لم أحتاج إليها لأثبت إنني أنثى.
تخيلت كثيراً يوم زفافي سأكون غرائبية بالنسبة للعرائس العادية التي تضع أطناناً من المكياج على وجهها، في حين إنني لن أضع أي مساحيق، ربما كريم ترطيب فقط لنضارة البشرة، هكذا سأبدو صادقة، رقتي نابعة من القلب لا من المظاهر الكاذبة، وأنا لست كاذبة ولن أكون.
(4)
ماذا يعني أن تتخيل زفافك؟ كل أنثى فكرت في هذا اليوم، تجلس شاردة الذهن، تهيم في التفاصيل، الفستان، هل سأبدو جميلة، هل سأختار إنساناً لن أندم على زواجي منه، هل سيظل يحبني، هل سأبدو في عينيه جميلة مهما مرضت، أو هرمت، هل سعادة الزفاف تضمن سعادة الحياة فيما بعد؟
ذات يوم أتخيلني عروساً بهية رقيقة. ألبس ملابس قطنية أو حريرية مريحة، تنضح مني الرغبة في الفهم. وعندما نتحرر أنا وحبيبي من قيود ملابسنا، سنكون آدم وحواء جدد، سنرجع للبكارة الأولى، سنعمر اليوتوبيا بالحب... مجاز
كل تلك الأسئلة دارت برأسي، خوفتني من الإقبال على تلك الخطوة، خاصة مع ما نسمعه تلك الأيام من ازدياد حالات الطلاق والمشاكل التي أعاصرها يومياً مع صديقاتي، كلها أسباب شكلت داخلي رهبة تجاه قرار الزواج، ذلك الذي تختاره في لحظة، لكن آثاره وعواقبه تغير مجرى حياتك، وتدوم لآخر العمر.
وبعيدا عن كل تلك الهواجس والمخاوف، في خيالي سأبدو بفستان أبيض ربما حريري أو دانتيل، هادئ، بسيط، غير مزركش، غير مبهرج، تماماً كملابسي طوال حياتي، أختار الرقص على موسيقى "وأنت معايا يصعب عليا رمشة عنيا لو حتى ثانية"، أتحول فراشة تطير بخفة ورشاقة، أغمض على صدر الشريك، أرمي عليه العقود المحملة بالألم والدروب المعبئة بالشقاء، هنا فقط، سيصبح وطني الجديد، حيث أنتمي وحيث أذهب، وحين أعود، ستتقزم الأحزان في عناقه، وستحل المشاكل من تلقاء نفسها، فسواء اختلفنا أو اتفقنا، سنصير يوماً الملاذ من الدنيا لبعضنا البعض. هكذا سنتواعد في حياتنا، وقتها يصبح الخيال حقيقة، والحلم عين الواقع.
(5)
في الزواج ولادة جديدة، والولادة يُعرى فيها الإنسان ليس من ملابسه فقط، بل من كل المظاهر والشكليات والأقنعة، ليتبقى فقط الإنسان ليس عارياً بل صادقاً.
يكون قادراً على التوغل في أعماق الآخر والسباحة فيها. تصبح ممارسة الحب محاولة للاكتشاف، للوصول إلى الجوهر، إلى العمق، لفهم الآخر واحتياجاته، لمعرفة ماذا يحب وماذا يكره، هنا يتشكل هدف مشترك بيننا "أن نعرف بعضنا البعض".
تلك المعرفة ليست معرفة الصالونات، أو معرفة الخروج سوياً في العطلة، وليست معرفة البحث عن غرفة جلوس مناسبة، أو معرفة العزائم في بيوت الحموات وليست معرفة هدايا عيد الحب أيضاً بل إنها معرفة الذات العميقة الكامنة فينا. المعرفة القائمة على الانكشاف والتعري، التحرر والتحليق، إظهار النفس كما هي دون زيف أو مواربة.
ذات يوم أتخيلني عروساً بهية رقيقة. ألبس ملابس قطنية أو حريرية مريحة، تنضح مني الرغبة في الفهم. وعندما نتحرر أنا وحبيبي من قيود ملابسنا، سنكون آدم وحواء جدد، سنرجع للبكارة الأولى، سنعمر اليوتوبيا بالحب، ونسعى لمزيد من المعرفة عبر سنواتنا، المعرفة التي طردت أبينا وأمنا من الجنة، ليصنعا جنتهما الخاصة على الأرض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...