الحواس النضرة
بعد كل شعور بالفقد لعزيز ما، نلتقط قميصاً مستعملاً له، نحتضنه بقوة حتى تتيبس راحة أيدينا بفعل الضغط الشديد، فلا نقوى على فتحها من جديد. نتأبط رائحته الشهية ونمسد بها أرجاء جسدنا، نرفض غسل ملابسه الأخيرة التي لامست جلده، كما نأبى التبرع بها، هذ هي وسيلة التواصل الروحية والحسية الأخيرة بين الأحياء والأموات.
رائحة الجدة
كانت جدتي من جهة والدي، سمراء محمصة ممشوقة القامة، وعينان فاحمتان كشعرها المدبوغ بالسواد، ورثت الصلابة من الأرض التي كانت تحرثها بيديها المتشققتين ، بينما كان جدي قصير القامة يستلقي على أريكة مصنوعة من الحديد، نال منها الصدأ، مختبأ كأرنب خائف من عيون الإقطاعيين، مرددا عبارته الشهيرة: "رح أتزوج عليكي إذا ما رح تطيبي من السكر". كانت الجدة تستقبلنا مع أخوتي بروائح الخبز والحليب الطازج المحضر منذ تثاوب الفجر. تقسم رغيف الخبز إلى قطع غير متساوية، وتغمسها في بحر من الحليب المغلي الذي تفوح رائحته حدود بيوت الجيران، أنوفنا كانت ماهرة في اصطياد غنائم الطبق على بعد مسافة بيتين من منزل جدتي، في القرية النائمة على كتف البحر.
رائحة الموت الطازج بمذاق الحليب
كنت في العاشرة من عمري من صيف 1997، حين غرس الموت أظافره في جسد جدتي، معلناً انتهاء عهد الحليب والبيض المسلوق والقشطة وصياح الديك ذي المنقار الأحمر المتغطرس، الذي كان يطاردنا عندما كنا نرتدي ملابس حمراء. انجلى عصر الدلال المفرط لي ولأخوتي، حين ماتت لم يكن وجهها يغص بالأخاديد العميقة، لأنها توفيت قبل أن تغزوها التجاعيد، باستثناء تلك الحفرة المدفونة عند الذقن كعلامة فارقة في وجه تلك السمراء، كانت ممددة على السرير بثوب ناصع البياض كلون الحليب. بدت وكأنها في قيلولة عميقة. طلبت مني عمتي توديعها وإلقاء النظرة الأخيرة عليها، قائلة :"رحلت الجدة، لا حليب ساخن بعد اليوم". تناوبت نساء العائلة على غسل جسدها المتيبس كغصن شجرة، كن يتشاركن الأحاديث ويتقاسمن ملابسها المتبقية كغنائم حرب.
لإخفاء آخر دليل لها على وجودها الفيزيولوجي، أذكر أنني ودعتها مع شقيقتي وكانت ملقاة على السرير، بدت وكأنها نائمة بعمق، تنتظر إطلالة وجه الفجر لإيقاظ بقرتها المدللة والبدء بطقوس الحلب على وقع صوتها الدافئ، فجدتي كانت من أنصار مقولة "كلما حنوت على البقرة زادتني لبناً". أخذتني أمي وعمتي بعيداً، فبموتها مات كل أثر للحليب وتحول إلى حبر أسود يوقع شهادة وفاتها.
التورط الشمي
تجمعني علاقة حسية وطيدة مع الروائح وقدرتها العجائبية على استرجاع الذكريات المصلوبة على خشبة الماضي، التي سرعان ما تبدأ بالطوفان والتدفق أمام الحاضر لمجرد نكزها بطرف إصبعك الصغير، منذ سنوات طويلة أصبت بلوثة اختزان الروائح وفرزها بعناية تامة في قاموس شمي متنوع خاص بي. أمتلك أنفاً مرهفاً قادر على التقاط الروائح المنبعثة من بعيد، أسرع من أي أنف مجاور أو متطفل.
طالما كانت الروائح النتنة بمثابة أدوات تعذيب لي، أناصبها العداء، فما زلت أذكر حفيف جسدينا، ملمس جلده الناعم كالرخام ورائحة كالكراميل المتبخر التي تتصاعد إلى أنفاسنا... مجاز الحواس
كذلك ابتليت بعادة خفية ,وهي مقاربة الروائح البشرية التي تكتشفها مستقبلاتي الشمية وألصقها بروائح شبيهة، تكون ممزوجة بشتى أنواع الخضار والفواكه والحمضيات والكبريت والعسل المحروق واللبن المحلى والخل والبيض وغيرها. يتملكني الغضب حين أفشل في إيجاد ضالتي وعدم استحضار الرائحة، إّذ أصر على إيجاد مرادف روائحي لها، فمثلاً، كان لدي صديق اعترف لي في نوبة غباء أنه يحبني، وحين رفضته، سألني عن السبب، كذبت عليه بالقول: "إنني لا أفكر بالحب حالياً"، لكن السبب الحقيقي هو رائحة عرقه التي نفرت منها، وبقيت عالقة في غضاريف أنفي لأيام متواصلة، دفعتني إلى استنشاق فضاء واسع من العطور والشذى في حفلة ماجنة بالروائح، لأجد غريمي "البصل"، فكانت رائحة عرقه كحلقاته الدائرية المقلية على نار هادئة.
الحب من الرائحة الأولى
أستعين دوماً بأنفي العزيز الذي يكون متيقظاً عند كل لقاء عاطفي، أستدل على عشاقي من رائحتهم التي يجب أن تكون مستساغة جداً وطيبة، فالحب عندي يأتي من التنشّق الأول، وليس من النظرة.
من حسن حظي أن حبيبي الأول لم يكن مدخناً، لكانت المهمة صعبة قليلاً، فعبق الدخان يبطش بجميع الروائح الأخرى التي تعشعش فيها ويصعب فصلها على انفراد. في أحد المرات كان متعرقاً إثر إصلاحه لدولاب السيارة، قصدت معانقته لأكتشف كنه عطره البشري الخاص الذي تفرزه مسامات جسده التي تتفتق عند حالات الانفعال والإحماء والغضب والخوف، فلكل إحساس نشعر به رائحته الخاصة.
انتهزت فرصة تعبه الشديد وشددته إلي بقوة لأضمن ارتفاع الأدرينالين، أطبقت شفتيّ الممتلئتين على شفتيه الكرزيتين، مستنشقة خليطه الممزوج بالعرق والشبق. كان يمتلك رائحة حلاوة تشبه الماء الممزوج ببعض رشات السكر المطحون الذي نزع عنه بعض آثار الحرق. بعد ذلك استنجدت بالحليمات الذوقية المزروعة في لساني لتذوق طعم العرق اللزج المخفوق بالرطوبة، فكان خفيف الملوحة، أشبه بعرق طفل رضيع طاهر الخطيئة. بررت الطعم اللذيذ والرائحة الزكية بعدد المرات التي يستحمها في اليوم الواحد، وإنفاقه آلاف الليرات على شراء دزينة من كريمات العناية بالبشرة ومضادات التعرق، خاصة أنني صدعت رأسه بجملتي الشهيرة: "أنا أنثى قادرة على أن أحبك بسبب رحيقك الخاص"، فطالما كانت الروائح النتنة بمثابة أدوات تعذيب لي، أناصبها العداء، فما زلت أذكر حفيف جسدينا، ملمس جلده الناعم كالرخام ورائحة كالكراميل المتبخر التي تتصاعد إلى أنفاسنا.
في كل وداع بيننا، كنت أعود بصيد ثمين برائحته التي دبغت جلدي، وحين افترقنا، صرت أصطحبها معي أينما التصق جسدي بجسد رجل آخر، باحثة عنها بين طبقات جلودهم السميكة، لكن لم يحالفني الحظ بالحصول على مثيلها أو شبيهها... مجاز الحواس
هذا، وابتكرت طريقة جهنمية لاكتشاف مدى إخلاص حبيبي وذلك عبر الرائحة، حرصت على رش ذرات من عطري الشخصي على نقاط النبض الخاصة به لتتفاعل مع رائحة جسده الطبيعية، لينتج عنها مزيح خاص بنا، لا يمكن الحصول عليه مع ذات العطر من شخص غيري، إذ لكل جلد كيمياء خاصة به يستحيل تكرارها، ثم أبدأ بشمه خلسة يومياً بحثاً عن رائحة دخيلة. كررت الأمر ذاته مع حبات عرقي التي جعلتها تتناسل مع جلده، لأحفظ الرائحة المتشكلة وأحفظها عن ظهر قلب، بعدها تصدر حساسات أنفي إشارات إنذار معلنة عن وجود رائحة غريبة.
فخ الرائحة العصية عن التكرار
في كل وداع بيننا، كنت أعود بصيد ثمين برائحته التي دبغت جلدي، وحين افترقنا، صرت أصطحبها معي أينما التصق جسدي بجسد رجل آخر، باحثة عنها بين طبقات جلودهم السميكة، لكن لم يحالفني الحظ بالحصول على مثيلها أو شبيهها. كنت لا أجد صعوبة في استدعاء رائحته كلما انتابتني نوبة شوق مسعورة. هكذا هي طريقتي الناجعة في إطفاء شهوة اللقاء ومقاومة رياح الشوق، وتمديد صلاحية الصبر، فأستطيع عبر هذا المركب اللامرئي أن أملأ جزءاً مفقوداً من خوائي المكثف اللا محسوس، ليخفف من الحمولة الزائدة للألم على روح عرجاء.
أن يستنشقك أحدهم وكأنك عطره المفضل
التقيت بشاب كان يكنّ للرائحة مكانة وأهمية استثنائيتين، ومأخوذاً بالعطور البشرية حد الافتنان، فيستطيع التعرف على شريكة حياته عبر أريجها ، أو على الأقل يميزها من بين عشرات النساء، ويعرف بأنه سيقضي معها وقتاً طويلاً في التحام جسدي. في ثاني لقاء بيننا، طلب مني أن أقترب منه، فتوقعت حينها أنه سيطلب قبلة، لكنه لم يفعل.
أمسك بشعري الطويل وأزاحه ببطء إلى الخلف، مقترباً من عنقي المتعرقة قليلاً، والتي تزينها حروف اسمي الطويلة، استنشقني بشهيق عميق حد امتلاء رئتيه المنتفختين بالتبغ. توغل داخلي وأعاد غبّ رائحتي من جديد بشراهة بدائية حد الدوار ،ثم قال لي: "لديك بشرة برائحة مميزة وفورمون جاذب، لذلك سأدخر منها للمساء". هذا الهرمون الجنسي مسؤول عن تنبيهي بمدى حصول توافق وانسجام مع جينات أي رجل ألتقيه، هو أيضا كان يمتلك أنف الذئب الذي يشتم رائحة طريدته على بعد مئات الفراسخ، يميز النساء اللواتي يعبرن فترة الإباضة والخصوبة، حيث تصدر عنهن رائحة حليبية محلاة تشي برغبة جنسية متقدة تزداد في هذه الفترة خصيصاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه