شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
تشريح الخوف المعشش في خلايا الدماغ

تشريح الخوف المعشش في خلايا الدماغ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 20 يوليو 202210:00 ص


لا أظن أنني الوحيدة التي لم تسمع باسم هيرتا موللر قبل فوزها بنوبل للآداب، فهذه الكاتبة التي يبدو أنها اختارت العيش بعيداً عن الأضواء، فاجأتنا بحضورها الطاغي وقامتها الإبداعية العظيمة بعد فوزها بنوبل وبعد صدور بعض الترجمات لأعمالها، وهي تكتب الشعر أيضاً إضافة إلى الرواية.

في روايتها متوسطة الحجم ذات العنوان المُزلزل "الملك ينحني ليقتُل" والذي يترجمه عقلنا للتو: الحكام ينحنون ليقتلوا شعوبهم، تزجنا هيرتا موللر ببساطة آسرة وشديدة العمق في روح الديكتاتورية، إن أمكنني استعمال هذا التعبير، وهي المواطنة الرومانية التي عانت وشعبها من حكم ديكتاتور سفاح هو تشاوسيسكو، وأعترف دون ذرة مبالغة أن روايتها "الملك ينحني ليقتُل" هزتني من العمق أكثر من أطنان الروايات العظيمة التي قرأتها لكتاب عظماء حكوا عن ديكتاتوريات بلدانهم، ليس لأن موللر أضافت حوادث ووقائع لم يذكرها هؤلاء الكتاب، بل على العكس يكاد كتابها يكون بلا موضوع، بل هو مجرد تحليل عميق لشعور فتاك مُعادي للحياة وهو الخوف.

الخوف المستمر

ليس الموت عدواً للحياة بنظر موللر بل الخوف هو عدوها، وعلى الخوف تعيش الديكتاتوريات. تقول في إحدى الصفحات: "وصلتُ إلى حالة من القرف من أشكال التعذيب لدى المُخابرات وتلذذهم بها لدرجة خطرت لي فيها فكرة وضع حد لحياتي الخرائية ، كان انتحاري وحده انتصاراً عليهم، لأنني بذلك أنتزع نفسي من بين أيديهم، فقد صار الانتقام منهم منطقياً لدرجة غاب فيها شعوري بأنني أخطط لقتلي".

أي وصف أعمق من وصف موللر لإحساسها ببؤس وظلم الحياة في ظل ديكتاتورية أجهزة مخابرات تشاوشيسكو، حين يتحول فعل الحياة إلى مجرد اختيار شكل للموت، حين تصبح إمكانية ممارسة الحياة الوحيدة هي حرية الانتحار كيلا يقتلنا الديكتاتور! لقد عاشت موللر طفولة مُروعة وهي تشهد الظلم والاستبداد، ورأت والدها متعتعاً من السكر طوال الوقت كي ينسى واقعه، أما والدتها التي رُحِّلت إلى مُعسكرات العمل القسري في الاتحاد السوفياتي وهي في التاسعة عشرة من عمرها، حليقة الرأس، للإمعان في إهانتها، نصف ميتة من الجوع وهيكلاً عظمياً، حتى أنها تقول بأن شعرها لم يعد ينمو على حساب لحمها، لأنها هيكل عظمي.

ليس الموت عدواً للحياة بنظر هيرتا موللر بل الخوف هو عدوها... وعلى الخوف تعيش الديكتاتوريات

تبدو عظمة الروائية حين تمزج الكاتبة بين اللغة ونظام الحكم الديكتاتوري ، كما لو أن اللغة ذاتها كائن مُستقل وضحية للنظام الاستبدادي. تقول: "كنا نتعلم نسيان الكلام، وكأننا خبأنا أنفسنا خلف صمتنا، وكنا نستمع بأعيننا أكثر مما نستمع بآذاننا. كان كلامنا ناقصاً، فالجملة التالية لا تأتي إلا بعد الجملة الأولى، أما في الصمت فيخرج كل شيء دفعة واحدة، ويعلق في ذهن الآخر دفعة واحدة أيضاً".

الكلمة القاتلة

يمكن لكلمة أو عبارة أن تتسبب بقتلك في ظل النظم الاستبدادية، لذا يحل الصمت ولغة العيون بدل الكلام. لكن موللر تنتبه بطريقة بارعة الذكاء لدور النكتة كتنفيس عن الضغط النفسي والانهيار العصبي والخوف الذي يتجاوز حد الذعر من الديكتاتور والمخابرات، فتصف الحيل اللغوية والدعابات الكلامية المُبطنة بالسخرية والنكات الساخرة من المخابرات. كان الشعب يحتقر الديكتاتور بالنكت، وموللر تؤمن أن اللغة هي وطنها، ليس لأنها تعتبر اللغة الرومانية هي الأجمل، بل لأنها اللغة التي تعطيها الثقة بنفسها، لكن حين تضطرب الحياة ويختلّ كل شيء فيها فإن الكلمات تنهار أيضاً، مجرد كلمات تزج فينا بالسجن وتقتلنا.

لم أقرأ لكاتب وصف لغة الخوف مثل هيرتا موللر، تقول: "لكل لغة عيونها. الخوف يجعلنا ننسى اللغة. الخوف الخالي من المخ، لأنه يعشش في الرأس ويأكله كسرطان. خوف بلا مخ، تعجز عن معالجته ولا تعرف سببه الدفين".

تشريح الخوف المعشش في خلايا الدماغ... رواية "الملك ينحني ليقتُل" لهيرتا موللر الفائزة بجائزة نوبل للآداب

موللر كانت قد قررت الموت كخيار وحيد لحريتها لو بقيت في رومانيا، كانت تدرك مزاجها السوداوي وبؤس أمها وشعبها ووالدها المتعتع من السكر كما لو أنه عاجز عن استيعاب واقع وحشي القسوة، وكانت تدرك انهيارها النفسي الداخلي وانعدام تأقلمها مع حياة متوجة بالموت. في أكثر من فصل في الرواية تتساءل: "كيف يمكن التأقلم مع حياة مُتوجة بالموت؟". وكانت تعي حاجتها الماسة للتماسك الداخلي، لكنها لم تعرف كيف تنجزه في هذا الجو الكابوسي، حيث يشعر المواطن أن برغش الغرفة يتنصّت عليه. وصل بها الأمر والمعاناة إلى نوع من الخبل الذهني والتساؤل عن قيمة الحياة!

"وصلتُ إلى حالة من القرف من أشكال التعذيب لدى المُخابرات وتلذذهم بها لدرجة خطرت لي فيها فكرة وضع حد لحياتي الخرائية، كان انتحاري وحده انتصاراً عليهم، لأنني بذلك أنتزع نفسي من بين أيديهم، فقد صار الانتقام منهم منطقياً لدرجة غاب فيها شعوري بأنني أخطط لقتلي"

كانت تعاني ليس من انهيار الحياة بل من انهيار الكلمات أيضاً، وهنا يأتي الحس العميق لهذه الكاتبة الوجدانية التي ربطت بشكل مذهل بين اللغة والاستبداد، فتقول: "كثيراً ما كنتُ أفكر بدون كلمات، لأنني لا أجد الكلمات المناسبة لمشاعري".

كما لو أن الديكتاتور يحول محتويات اللغة إلى أسلحة مُضادة للحياة، لأن اللغة تتحول لشعار تمجيد القائد، ونظم قصائد لتعظيمه، وإدخال أقواله التافهة في المناهج المدرسية، ويجعر التلاميذ بكلمات تأليه القائد والحزب. تصير اللغة أداه تعذيب وغربة واضطهاد، حتى أنها تصف فرح الناس بأنه نوع من الهبل، لأنهم وصلوا إلى مرحلة عدم التحمل، فانهارت أعصابهم في عمقها.

لكن هيرتا موللر تترك نافذة للنجاة، هي نافذة حب الحياة والحرية التي يعجز أي نظام ديكتاتوري عن إغلاقها مهما أوغل في الإجرام، فهي تنجو بنفسها مع العديد من أبناء جيلها، وتهجّ إلى ألمانيا وهناك تكتب رائعتها "الملك ينحني ليقتُل"، و أخجل من البوح أنها أبكتني حين قالت إن أكثر من دعمها في غربتها في ألمانيا هي لغتها الأم (الرومانية). تقول:

"كانت اللغة الرومانية لهؤلاء اللاجئين والهاربين خارج رومانيا وطناً. كانت لغة معافاة في رؤوسهم التي نخرها الخوف. اللغة هي الوطن وهي الأم. وسوف تُعوضهم عن كل شيء فقدوه".

رواية هيرتا موللر "الملك ينحني ليقتل" رواية بلا أحداث، ولا تتحدث إطلاقاً عن طرق التعذيب، وليس فيها اسم لبطل أو بطله. إنها رواية الحياة الكريمة لبشر وقعوا ضحايا نظام ظالم يعادي الحرية والكرامة وحق الشعوب في الفرح والحياة. إنها رواية نفسية بامتياز في تشريح الخوف المعشش في خلايا الدماغ وفي دي إن إي الخلايا.

نُشرت نسخة أولى من هذا المقال في صحيفة السفير عام 2015

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard