يبدو أن للمبدع السوداني في بلاد المهجر مهمةً أخرى: ألا ينسى الوطن، ومهمة أخرى أكثر شقاءً، أن يحمل "الوطن" معه أينما ذهب من دون جدوى.
في تسعينيات القرن الماضي، بدأت مناقشات محتدمة بين المثقفين السودانيين حول مسألة الهجرة أو البقاء في البلد الذي حوله نظام الإخوان إلى سجن كبير، بعد أن صادروا الفضاء العام ولاحقوا المبدعين حتى في أماكنهم الخاصة القليلة، وكان على المبدع أن يختار بين "حلم الهجرة" وبين "المقاومة الثقافية". بدأت هجرات خجولة، لكنها سريعاً توسعت وباتت ظاهرةً شاملةً بعد التضييق السياسي والاجتماعي الشامل، بالإضافة إلى الحرب، وطار المثقفون والمبدعون والكتاب السودانيون إلى أوروبا وأمريكا وأستراليا طلباً للجوء والتوطين هناك.
الكتابة ليست عملاً
يرى الروائي عبد العزير بركة ساكن، أن كل كاتب أو كاتبة في المهاجر الشاسعة، له/ ا تجربة تخصه وحده/ ا، بالنسبة له، بعد عشر سنوات من الهجرة، بدأت بالنمسا و"يبدو أنها ستنتهي في فرنسا، التي أقيم بها في صورة شبه دائمة"، يقول لرصيف22.
ويضيف ساكن: "لم تكن لديَّ أحلام كبيرة وأنا أحضر إلى أوروبا. كان حضوري الأخير وبقائي في النمسا في 2013، بلا هدف أدبي من ورائه. كنت أبحث عن ملجأ آمن، بعد إشكاليات منع كتبي وحظرها في الخرطوم وتعرضي لمضايقات من رجال الأمن، إذاً لم أحضر وفي ذهني فكرة أمل، ولو قليلة".
ويصف "سالفلدن" المدينة التي بقي فيها أولاً بأنها مدينة صغيرة غرب النمسا، أبدى المثقفون فيها اهتماماً بما يكتب، وترجموا له بعض النصوص وهيّأوا له قراءات وندوات متعددةً في قصر الثقافة، "نيكسوس"، كما أن المعهد العالي في المدينة عمل على تدريس رواية "الخندريس" للطلاب بالألمانية.
يبدو أن للمبدع السوداني في بلاد المهجر مهمةً أخرى: ألا ينسى الوطن، ومهمة أخرى أكثر شقاءً، أن يحمل "الوطن" معه أينما ذهب من دون جدوى
يقول ساكن لرصيف22: "كان عليّ أن أعمل أيضاً، وتلك مسألة لا اختيار فيها بعد تعلم اللغة الألمانية". ويضيف: "جربت العمل مع الأطفال اللاجئين الذين من دون صحبة أسرهم، وكذلك العمل مع كبار السن، والعمل ليومين في "ماكدونالد". وهنا يتخذ الكاتب قراره النهائي بالتفرغ للكتابة، لشعوره بضياع وقته في مهمة لا فائدة ترجى منها سوى الإرهاق التام، وهي لا تقدم معرفةً أو مالاً".
ويتابع: "لم يكن الوضع صعباً بالنسبة لي وحدي ككاتب لاجئ، بل إن الكثير من الكتاب والفنانين من الأصدقاء النمساويين الذين أعرفهم، يواجهون صعوبات في التوفيق بين سبل كسب العيش والأداء الفني الذي هو مشروع حياتهم، كما قالت لي موظفة مكتب العمل: "الكتابة ليست عملاً".
الطريق الصعب
يجد الكاتب بركة ساكن، بعد السنوات الأولى لهجرته، أنه في مفترق طرق ويسائل نفسه: "ماذا يحدث إذا لم أعمل؟". ويفكر: "سوف لا يكون هناك دعم للأسرة، وسأفقد التأمين الصحي والضمان الاجتماعي ودعم السكن، وكل المساعدات التي تقدم للاجئين". يقول إنه اختار الطريق الصعب: "أن أتخلى عن كل المساعدات التي هي حق لكل لاجئ، واعتمد في حياتي على دخلي الخاص الذي يصلني من الكتب".
ويشتكي صاحب "الجنقو مسامير الأرض"، من الناشرين الوطنيين فهم "لا يرسلون شيئاً للكاتب". يضيف: "يبدؤون بصورة راقية، يتحدثون باحترام، ثم ينشرون الكتب، ثم يبيعونها، ثم لا يردون على الرسائل ولا المهاتفة المباشرة".
في خضم ذلك، تحقق روايته "مسيح دارفور" التي نقلها إلى الفرنسية البلجيكي أجزافيه لوفان، مبيعات معقولةً، وحصلتْ على ثلاث جوائز أدبية: جائزة الأدب الإفريقي 2016 من سويسرا، وجائزة أدب عالمي 2017، وجائزة أدب المقاومة في العام نفسه. وفي فرنسا التي يذهب إليها الكاتب هذه المرة بآمال كبيرة بالنشر الأدبي حصلت "رواية الجنقو" في نسختها الفرنسية على جائزة الأدب العربي، المقدمة من معهد العالم العربي في باريس في العام 2021، وجائزة الترجمة الكبرى للعام نفسه. يقول ساكن: "في 2021، حصلت على منحة المؤسسة الوطنية للكتاب، من أجل إكمال روايتي "سجين البرزخ". يضيف: "ساعدني ذلك في التفرغ للكتابة".
كلفة عالية
ويلاحظ ساكن، في ما يخص أحوال الكاتب العربي، أو الإفريقي، حيال الانتشار والتوزيع والمقروئية في المهاجر أنه يختلف من كاتب إلى آخر، وفقاً للَّغة التي ينجز بها نصوصه. يقول: "بالنسبة لي ككاتب يكتب بالعربية، تصنَّف أعمالي في فرنسا أو أوروبا عموماً، من ضمن فئة الروايات المترجمة إلى لغة المهجر، وتلك لا تستحوذ إلا على سوق ضيقة جداً في ما يُعرض من كتب، إذ لا يزيد عدد القرّاء عن 20 في المئة من إجمالي المهتمين والمهتمات". ويتابع: "هذا يختلف بالنسبة إلى الكتاب المهاجرين الذين يكتبون بلغات المهجر، كالإنكليزية والفرنسية أو الألمانية، إذ يميل القرّاء والناشرون إلى الكتب المكتوبة باللغات التي في بلادهم، تجنباً لتكلفة الترجمة، وضيق سُوق الكتاب المنقول، بالنسبة إلى الناشرين. وينطبق هذا الأمر على الجوائز ومنح الكتابة وكل الأمور التي تتعلق بحاجات الكاتب، وفي غالب الأحيان على الكاتب أن يعمل لكي يعيل أسرته أو نفسه، والحياة في المهجر عالية التكاليف، مادياً ونفسياً".
التلاشي في العالمية
وبخلاف بركة ساكن، يرى الوليد يوسف محمد عثمان، الموسيقي والعضو المؤسس لمجموعة "ساورا الموسيقية"، أن مفهوم الهجرة تغير بصورة هائلة وأن عمليات تشكيل مفاهيم ومنظومات الحياة "للمثقف المهجري" تتبع لهذا التغيير. يقول لرصيف22: "يجب القول إن المكان تطبّع مع التطور الضخم في وسائل الاتصال وتلاشت المسافات وحل الحضور الافتراضي شبه الكامل محل الغياب التام والاغتراب، بل صار الاقتراب قاب قوسين أو أدنى من التعافي من أعراض الصدمات الحضارية وشكاوى البعاد والشوق المتوهّج بالحنين". يضيف: "التصور للمواطن أصبح يحمل ملامح الشخصية ‘الغلوبالية’، العالمية، إلى درجة أننا لن نبالغ إن قلنا إن المثقف في الداخل التقليدي هو الأقرب إلى أقطار العزلة أو الهجرة الداخلية في عالم توسعت فيه المسافات وتلاشت الحدود لتسع الكوكب برمته".
"بالنسبة لي ككاتب يكتب بالعربية، تصنَّف أعمالي في فرنسا أو أوروبا عموماً، من ضمن فئة الروايات المترجمة إلى لغة المهجر، وتلك لا تستحوذ إلا على سوق ضيقة جداً في ما يُعرض من كتب، إذ لا يزيد عدد القرّاء عن 20 في المئة من إجمالي المهتمين والمهتمات"
ويرى الوليد أن مفهوم الاندماج وموضوع الوطن البديل يشيران إلى معانٍ اقتصادية في الواقع الحقيقي البديل. "ما يترتب على ذلك اندماج ثقافي يأتي كبنية فوقية مثل اكتساب اللغة، وتالياً تعدد مصادر المعرفة ومنابرها وطرق التعبير عنها بشتى الطرق والوسائل وحسب أجناس التعبير الثقافي وأنواعه". ويرى أنه مع بروز دور العوالم الافتراضية سيجد المهتم بالشأن العام أو المثقف نفسه منجذباً بشدة نحو قضايا واقعه القديم، المعلقة على حبال السايبر وآليافه الزجاجية. ويسوق مثلاً تجربة ثورة كانون الأول/ ديسمبر 2019، ومساهمة المثقفين السودانيين المهجريين في محاولة إدارة العامل الذاتي لدفع التغيير إلى خانة التحول الديمقراطي عبر الأسافير التي أتاحت -بحسب الوليد- دواءً لأعراض (الحنين إلى الوطن) والانجراف نحو الوطن المكاني في أرض الواقع.
بين واقعين
يؤكد يوسف تأثر انتاج المبدع السوداني في بداية مشوار الانتقال إلى واقع اجتماعي جديد، وبالنسبة له كموسيقي حدث انقطاع لتجربته الفنية، نتيجة البعد عن الجمهور وعن المجال الأكثر نشاطاً في تحفيز عملية الإنتاج الموسيقي والتواصل مع المستفيدين منه. يقول: "واقع جمهورية ألمانيا الاتحادية وتطورها الهائل في جميع المجالات يضعان أمامك مجموعةً من العوائق والصعوبات". يضيف: "هذا غير عامل اللغة وشروط اكتسابها وصعوبة العثور على الموسيقيين الأكثر قرباً إلى الثقافة الموسيقية من أجل تكوين اتحادات معهم". ويقارن بين المستوى العالي والرفيع في دراسة الموسيقى في دولة ألمانيا مع مستوى دراسة الموسيقى وممارستها في دولة السودان الذي يصفه بالضعيف: "تقريباً سيتم تصنيفك في مستوى الأطفال من النواحي العملية والنظرية وعليك عمل الكثير". يقول مختتماً: "أستطيع القول إن الهجرة أثرت بشكل كبير على الإنتاج الأدبي والفكري المنظم".
الوطن كمنفى
يقول الصحافي والشاعر الصادق الرضي، لرصيف22: "حينما كنت في الخرطوم قبل أكثر من عقدين من الزمان، كنت أبتدر مراسلاتي الإلكترونية مع الأصدقاء المبدعين في المهاجر والمغتربات بـ’أكتب إليك من المنفى الخرطومي’. ويوضح أن المسافة بين المنفى ‘الخرطومي’ والمنفى ‘اللندني’ الذي يعيش فيه الآن مشتبكة. يضيف: "بالضرورة بين هنا وهناك صيرورة جدلية، لا أزال أحاول تلمّس خيوطها. ويرى الرضي أن الاندماج في المجتمعات الجديدة بكل تنوعها وزخمها وثرائها ضروري لتنفُّس بهاء الصباحات في كل نافذة تطلُّ عبرها على يوم جديد. يقول بشاعرية: "ربما تكون نافذة قطار تطلُّ على حقول مكتنزة بحياة لا تملك مفاتيح أسرارها أو نافذة طائرة لا تعرف في أي المطارات ستلقي بك مجاهلها، أو ربما زورق تتأرجحُ أقدارُكَ في تلاطم الأمواج، تتراقص من محيطٍ إلى محيطْ". يتابع: "قطعاً لا يعني النزوع الضروري إلى الاندماج في المجتمعات الجديدة قطع خيط الحلم الرهيف واللطيف بالعودة إلى الوطن". ويتساءل: "لكن ما هو الوطن فعلاً؟: هل الوطن المُشتهى في المنفى أم الوطن الذي يسكِّنُ المنفى في حلمك وصحوك قبل أن تغادره طائعاً أو مرغماً؟!".
لا وطن بديلاً ولا جنة فارهة
ينفي الرضي أن هناك "وطناً بديلاً" أو "إعادة توطين". يقول: "هناك مكان ما، يصلح للحياة مؤقتاً، أي مكان، مثل ‘أم درمان’ محل دفن صُرَّتك ولغتك الأمّ؛ مكان يؤثِّثُك أو تؤثّثه لتتلاسن مع العالم، العالم الذي لم يعد مؤثَّثاً للحياة المؤقتة نفسها في أيّ مكان، وبالطبع ليست هناك جنَّة، ناهيك عن ‘جنّة فارهة’، وقبل قليل قال صديقنا ‘كافافي الإسكندرية’، ما معناه: ‘إذا خربت حياتك في هذا الجزء الصغير من العالم، هذا يعني أنها خربت في كل العالم’؛ وأنا أقول: الإنسان جُبل على حب الحياة في موطنه بالفطرة، لكن أي وطنٍ وأي حياة؟".
ويؤكد الرضي أنه ليس في مقدوره الانقطاع عن الوطن والعمل المنهك يومياً للتواصل الإيجابي مع همومه وقضاياه، ويرى أن وسائل التواصل الاجتماعي ليست كافيةً لتأسيس علاقة فاعلة في الوسط الثقافي والإعلامي في الداخل. يقول: "بالأحرى ليست مُنْتجةً بالقدر المعقول ولا بدّ من النحت في الصخر لتأسيس هذه الفاعلية؛ تمثّلُ بالنسبة لي سِرَّ وجودْ".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com