استدعى موت الفنان المسرحي محمد يوسف أكونداي، الذي وُجد مقتولاً في بيته في مدينة الجنينة (غرب)، هذا الشهر، إلى الذاكرة السودانية، رحيل عددٍ من المبدعين السودانيين ممن قُتلوا غيلةً وغدراً، لا سيما المغني المرهف خوجلي عثمان، الذي تلقّى طعنةً نجلاء أدت إلى مقتله في ردهات اتحاد الفنانين السودانيين في مدينة أم درمان، في العام 1994، وسط ذهول زملائه من الفنانين والعازفين. تسلل القاتل بثقة وهدوء، وغرس سكيناً في قلب الفنان، أردته صريعاً. يومها، لم ينَم الناس من شدة الفاجعة.
يبشر الفنان أندوكاي، في مشروعه الإبداعي، بالسلام والتسامح والمحبة في إقليم مزّقته الحرب، وأنهكه النزوح والتشرد والتفلت الأمني، وقدّم عشرات الأعمال المسرحية التي تروّج للتعايش السلمي، وهو مؤسس منظمة "فنون للتنوع والثقافة". عُثر عليه مقتولاً على يد مجهولين، حاولوا سرقته، واعتدوا عليه طعناً بالسكين داخل منزله في حي الجبل، ونعاه أصدقاؤه المسرحيون في البلاد كافّةً، وبكته المدينة المفجوعة، وباتت ظاهرة اغتيال الفنانين والمبدعين، لأسباب اجتماعية وسياسية وأيديولوجية، تؤرق الوسط الاجتماعي والثقافي السوداني من دون أن تتوقف.
"انتهى كل شيء في السودان"
في العام الذي قُتل فيه الفنان فضل المولى زنقار، 1951، بسكين شقيقه، دفاعاً عن التقاليد، وُلد الغزال الأسمر، وليام أندريا، الفنان المتعدد المواهب، والمغنّي ولاعب كرة السلة الحرّيف، الذي سيرميه جنود جعفر النميري بالرصاص داخل منزله، بعد 25 عاماً، خلال حملة تفتيش للبيوت فى الخرطوم، في أثناء ما سُمي بـ"محاولة انقلاب المرتزقة"، عام 1976، واعترف نظام النميري لاحقاً بأن أندريا قُتل بسبب "سوء تصرف أحد الجنود".
استدعى موت الفنان المسرحي محمد يوسف أكونداي، الذي وُجد مقتولاً في بيته في مدينة الجنينة (غرب)، هذا الشهر، إلى الذاكرة السودانية، رحيل عددٍ من المبدعين السودانيين ممن قُتلوا غيلةً وغدراً، لا سيما المغني المرهف خوجلي عثمان
قيل: "منذ اغتيل وليام أندريا، انتهى كل شيء في السودان".
وساهم زنقار في تطوير أغنيات "التُم تُم"، والارتقاء بها، بطريقة مختلفة، من أغنيات ترددها النساء فحسب، أو تقدَّم في حفلات المجون الخاصة، إلى أغنيات حديثة لقيَت اعترافاً ضمن فن "الحقيبة" الشهير، وقدّمها بصوته الرخيم بطريقة "جواب القرار"، متأثراً بأداء معلمته "رابحة"، التي أثّرت على إبداعه بصوتها النسائي وتقليده أغنياتها، ولمشاركته في أدوار نسائية في مسرحيات شعرية لتعذُّر مشاركة النساء في عروض مسرحية في ذلك الوقت، ولكن يبدو أن طريقته في التعبير عن فنه قوبلت بمعارضة عنيفة من قبل أسرته إلى الدرجة التي فقد معها حياته.
يذهب الكاتب والناقد المسرحي السر السيد، إلى أن ظاهرة اغتيال الفنانين تحدث في معظم المجتمعات لأسباب مختلفة، منها السياسي كاغتيال المغني العالمي بوب مارلي، كما جاء في اعترافات أحد المنتسبين إلى الـ"CIA"، ومنها الشخصي الذي ينهض غالباً على أسباب تتعلق بتقديرات أخلاقية، أو بسبب الغيرة، كما في حالة الفنانة "ذكرى"، أو بسبب الإعجاب الشديد، أو بسبب السرقة، أو بأي سبب ذي طابع جنائي، كما في حالة الممثل أندوكاي، أو لأسباب عقدية ذات سمت تطرفي، كما في حالة الفنان خوجلي عثمان، فهناك رواية تقول إن من اغتاله مهووس دينياً يرى أن الغناء مُنكر وحرام وأيضاً هناك رواية أخرى -بحسب السيد- تحيل الاغتيال إلى سبب سياسي على صلة بحادثة محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك.
بينما يحمّل المخرج ربيع يوسف الحسن، ظاهرة اغتيال المبدعين، لمنظومة ثقافية واجتماعية عامة، ويتساءل: كيف ينظر المجتمع إلى المبدع ويُقيّمه؟ وما هي مطالب هذا المجتمع من المبدع؟ وما نعوته ووصفاته له؟ ويرى ربيع أن المبدع يعيش مُنمَّطاً في وصفاتٍ ونعوتٍ جاهزة بدءاً بالصعلوك والماجن والمُنفلِت والمهرّج والمُنكِّتاتي الظريف، وليس انتهاءً بقليل الحياء والأدب.
ويطالب الحسن بإجراء حوار معمّق بين المبدع والمجتمع من جهة، والمبدع والدولة من جهة ثانية. ويرى أن المبدع هدف لعنف الدولة المباشر وغير المباشر، الذي يبدأ بإهماله صحياً واقتصادياً، ولا ينتهي باعتقاله وتعنيفه وتصفيته جسدياً، تصفيةً، أحياناً، عبر تهيئة مناخ الإدمان ودفع المبدع دفعاً ليصير مدمناً.
ويقول أستاذ الموسيقى في جامعة السودان، الدكتور كمال يوسف: أياً كان السبب وراء موت الفنان مغدوراً، سواء أكان اجتماعياً أو ذا صبغة سياسية، فهو لا زال يمثل فاجعةً اجتماعيةً قد تنتشر على نحو عالمي، كما حدث في حالة مقتل مغنّي فرقة "البيتلز"، جون لينون، على يد معتوهٍ رمياً بالرصاص في 1980، أو على نحوٍ إقليمي كما حدث في حالة مغنّي الثورة السورية إبراهيم قاشوش، على أيدي شبيحة نظام الأسد في 2011. ويؤكد يوسف أن رحيل الفنان يظلّ أمراً مؤثراً على المجتمع، وخاصةً إذا ما كان هذا الفنان مغنّياً، إذ تتسع دائرة هذا التأثير لتتجاوز أسرته ومعارفه إلى قطاعاتٍ أكبر.
إسكات البلبل
يوصف الشاعر الشعبي، عوض جبريل، بأنه عاش بقلب طفل بريء وروح مبدعة وشفافة، يُصدر شعره من فم بلبل حزين، وكان بسيطاً مثل الفراشة. أيقونة الشعر الشعبي بلا منازع، شغلت قصائده المغنّين والعشاق، سواء بسواء. فقد الشاعر حياته إثر حادثة اغتيال غامضة، وتم إسكاته إلى الأبد وكان جبريل دائم الحضور في طرقات أم درمان وأسواقها ومنتدياتها، يجمّل الأمكنة التي يصل إليها.
يرى السر السيد، أن ظاهرة قتل المبدعين تشير إلى عدم تقدير الفن والفنانين في مجتمعاتنا. يضيف لرصيف22: "هذا الغياب للتقدير يبدأ من الفنان نفسه، ففنانونا في معظمهم لا يعتنون بحماية أنفسهم في الشارع أو في منازلهم، وليس لمعظمهم حراس، كما أن بيوتهم ليس مؤمّنةً التأمين الكافي". ويذهب السيد إلى أن الفنان لا يقدّر صورته عند الآخرين بما أنه نجم. ويتابع: "هناك من يظنّ أن الفنان صاحب ثروة كبيرة، وهناك من يظن أنه مروّج للمفاسد، وهناك من يحسده وهناك من يُعجب به حتى الجنون".
نزيف الأورغ
في كانون الثاني/ يناير 2008، فُجعت الخرطوم مرةً أخرى، وقالت الشرطة السودانية إن عازف الأورغ السوداني المعروف ببدر الدين عجاج، اغتيل في منزله في الخرطوم، وإن الجناة سرقوا سيارته وهاتفه الجوال وآلة الأورغ.
"ظاهرة اغتيال المبدعين والفنانين في البلاد تواصلت، ويعزو ذلك إلى رفض الفنون التوعوية والمثقفة من قبل البعض"
والموسيقار بدر الدين عجاج، مجدد موسيقي، من أوائل السودانيين المتخصصين في العزف على آلة الأورغ، اشتهر بها وألّف ألحانه ومقطوعاته الموسيقية عليها، وخلَّف مغنّيتين، نُهى ونانسي عجاج. هاجر فترةً طويلةً، وعاد ليقيم وحده ويكمل مشواره الإبداعي واللحني، لكن بدلاً من ذلك وُجد مقتولاً في بيته.
يقول المغنّي وليد يوسف، لرصيف22، بحسرة، إن ظاهرة اغتيال المبدعين والفنانين في البلاد تواصلت، ويعزو ذلك إلى رفض الفنون التوعوية والمثقفة من قبل البعض. وطالب يوسف بتعزيز حماية واسعة للمبدعين من جهتَي الدولة والمجتمع، بينما يطالب المخرج ربيع الحسن، باكتساب المبدع هُويةً تنظيمية (فرقة، جماعة، منظمة، نقابة، حزب)، تحميه وتوفر له حاضنةً وحمايةً اقتصاديةً وسياسيةً، والأهم تُكسبُهُ هويةً أنثروبولوجية. يضيف لرصيف22: "ظل المبدع منفرداً يفكر خارج الصندوق"، محمّلاً، مرةً أخرى، ما أسماه "التحالف الطبقي"، مسؤولية اغتيال المبدعين "خوفاً منهم". كما يرى.
ويتحسر الدكتور كمال يوسف، على اغتيال الفنانين في السودان، خاصةً فاجعة موت الفنان الشاب محمد يوسف أندوكاي، ويرى أنها تركت أثراً بالغاً في نفوس السودانيين، لكونه فناناً شاملاً بزغ نجمه وهو يدعو للسلام الاجتماعي في وقتٍ عزّ فيه هذا السلام، وفي منطقةٍ من السودان أحوج ما تكون إلى رفع صوت من هم على شاكلته. يقول، لرصيف22: "على الرغم من قصر عمر انتشار تجربته، إلا أنها لم تعجز عن الوصول إلى المتلقي السوداني عبر وسائط التواصل الاجتماعي، فتفاعل معها ومع ما حمّلها من خصوصية ثقافية من حيث اللغة واللهجة الموسيقية والإيقاع والأزياء ومتممات العرض المسرحي، الأمر الذي يدعو إلى الحسرة على انطفاء مشروعٍ مبشّر في وقتٍ وجيز. وتبقى أسئلةٌ من قبيل: هل هو حادث اجتماعي ساقه القدر إلى المرحوم أندوكاوي؟ أم أن للأمر صلةً بمشروعه الذي ربما سار على عكس التيار الذي يسود على أرض الواقع؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com