"الدين"، "الجنس"، "السياسة"؛ ثلاثة تابوهات يحرُم على أي مبدع عربي الاقتراب منها تصريحاً أو تلميحاً، وإلا عوقب مُنتَجه بالمصادرة والمنع، وأحياناً يُعاقَب المبدع نفسه بالحبس.
بدأ العقاب بقوة من بيده السلطة، وانتهى على يد أي مواطن عادي، يتقدم ببلاغ للنائب العام، ويؤخذ بلاغه على نحوٍ من الجدية والسرعة، بدرجة تفوق أموراً أكثر أهمية من مجرد سطور من وحي الخيال بين دفتي كتاب، مثل الفقر والاختفاء القسري وتكميم الأفواه!
كيف نشأت فكرة الرقابة؟
تشير "مؤسسة حرية الفكر والتعبير" في دراسة أصدرتها عام 2009، بعنوان: "حرية الفكر والإبداع في مصر" إلى أن "كلمة رقابة نشأت في روما القديمة، حيث عيّنت الحكومة مسؤولين رسميين للقيام بإجراءات التعداد والإشراف على الآداب العامة."
وتُضيف الدراسة: "أيام الرومان، كان الرقباء مكلّفين بالإشراف على المعنويات العامة، وكذلك الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في عهدها الأوسط، تحولت إلى مُراقب مُنتقم، حيث حظرت "الهرطقة" (كلمة يونانية من ضمن معانيها الاختيار)، وكانت الكنيسة تعاقب الذين اختاروا الهرطقة بجميع ألوان العقاب من الحرمان إلى الإعدام."
العرب... 100 عام من مصادرة الكتب وترويع كُتّابها
تراجعت الرقابة بشكل تدريجي، وتكاد تكون اندثرت في العالم أجمع، لكنها استفحلت عند العرب، وصار الرقيب لديهم بمخالب وأنياب، يغرس مقصه في قلب الكتب، وتطال سلطته التنفيذية الكُتّاب، وتُخضعهم للتحقيق أمام النيابات، وهناك يضطرون للدفاع عن أنفسهم، كمن فعل جُرمًا لا يُغتفر!
مجرد ذكر القرن العشرين فقط، وما نُشر به من كتب عربية في كلّ المجالات، سنجد أن مقص الرقيب، ولغة المصادرة يسيران جنباً إلى جنب آلة الطباعة، فحفل تاريخنا بعشرات الكتب التي تسببت في تكفير أصحابها وتخوينهم، بل إن بعض هذه الكتب تسببت في محاولات لاغتيال كُتابها!
دارت رحى الحرب المستعرة بين الفكر والإبداع من جهة، والرقابة والمصادرة من جهة أخرى، بشكل مبكر، بل حتى قبل أشهر قليلة من بدء القرن العشرين، إذ قوبل كتاب "تحرير المرأة" لقاسم أمين، الصادر عام 1899، بالكثير من التشكيك في نواياه و"الارتماء في أحضان الغرب"، وهو الرأي الذي تبناه الزعيم مصطفى كامل، ورجل الاقتصاد "طلعت حرب"، وفي مطلع القرن العشرين أصدر أمين كتابه "المرأة الجديدة"، ولم ينجُ هو الآخر من سهام الاتهامات.
وفور تَمامِ الرّبع الأول من القرن العشرين كان العالم العربي على وعد بحجر يحرك الماء الراكد، بعد سنوات قليلة من سقوط الخلافة العثمانية، حين أصدر القاضي الشرعي الأزهري، علي عبد الرازق، كتابه "الإسلام وأصول الحكم" عام 1925، وأنكر فيه فكرة الخلافة الإسلامية، مُعتبراً أن الحكم والقضاء وغيرها من المناصب، ما هي إلا "خطط سياسية صرفة لا شأن للدّين بها، فهو لم يعرفها، ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى إحكام العقل، وتجارب الأمم". فخضع عبد الرازق لمحاكمة من قِبل هيئة كبار العلماء في الأزهر، وجردوه من شهادة العالمية، وإبعاده عن تولي أي منصب ديني، وصدّق الملك فؤاد آنذاك على القرار.
على عكس ما قد يتوقع الحالمون بأن تقدم الزمن نحو التحضر منذ القرن العشرين قد يقلص محاولات تكميم أفواه الإبداع، فإن ما حدث كان أكثر شراسة، وزادت حدة المنع بحجة كسر التابوهات الجنسية والسياسية والدينية
وبعد عام واحد من واقعة كتاب علي عبد الرازق، شهد الوسط الثقافي العربي أزمة أشدّ وطأة، حين نشر الدكتور طه حسين كتابه "في الشعر الجاهلي"، الذي يصفه الناقد الأدبي إيهاب الملاح بأنه "لم يُثِر كتاب في تاريخ الثقافة العربية الحديثة ما أثاره كتاب (في الشعر الجاهلي) الذي أصدره طه حسين في مارس من العام 1926، إذ قامت الدنيا ولم تقعد بسبب هذا الكتاب، وتمّ الزج بالديني والسياسي في التفسيرات التي قدمت له، واندلع طوفان من الهجوم الدّعائي الجارف ضد طه حسين، وحملة غير مسبوقة على الكتاب وصاحبه لم ينلهما كتاب مثله في تاريخ الفكر العربي الحديث حتى يومنا هذا."
وكان طه حسين يرى في كتابه "إنّ الكثرة المطلقة ممّا نسميه شعراً جاهلياً ليس من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين (...) ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي."، مما كان سبباً في تقديمه للمحاكمة أمام النيابة العامة، إلى أن تمت تبرئته من تهمة الزندقة!
الأمر ذاته تكرر مع الكاتب التونسي الطاهر حداد، عند صدور كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" عام 1935، إذ اتهمته القوى السلفية بالزندقة والإلحاد، وتمّ تجريده من شهاداته العلمية، ومنعه من العمل.
الضجيج زادت حدته، وتكفير الأقلام الإبداعية أخذ أبعاداً تصل إلى محاولة قتل الكاتب ذاته، ففي عام 1959 انقلب الوسط الثقافي رأساً على عقب بعد صدور رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ مسلسلة في جريدة الأهرام، حسبما ذكر محمد شعير في كتابه "أولاد حارتنا... سيرة الرواية المحرمة"، فبين محاولات لجعلها رواية سياسية تودي بصاحبها إلى السجن، وفقاً لما أورده الكاتب والسياسي محمد أبو الغار في مقال له: "فالظاهرة اللافتة أن ضباط 23 يوليو اعترضوا وحرضوا أتباعهم الصحفيين. فعبد الحكيم عامر أطلق حلمي سلام، وأنور السادات أطلق صحفيي الجمهورية"، وبين من يُجزم بأنها عمل يحضّ على الكفر والزندقة، وهؤلاء هم صوت المؤسسة الأزهرية التي عقدت لجنة أقرت بـ"حرمانية الرواية"!
مرّت السنوات، وكانت الرواية ذاتها سبباً في محاولة اغتيال نجيب محفوظ عام 1994، على يد مجموعة من المتطرفين ارتأوا أن المؤلف يريد أن "يعيش الناس بدون دين أو إله"، وفقاً لنصّ التحقيقات التي أوردها محمد شعير في كتابه سالف الذكر.
وعلى عكس ما قد يتوقع الحالمون بأن تقدم الزمن نحو التحضر منذ القرن العشرين قد يقلص محاولات تكميم أفواه الإبداع، فإن ما حدث كان أكثر شراسة، وزادت حدة المنع بحجة كسر التابوهات الجنسية والسياسية والدينية، فمُنِعت رواية "وليمة لأعشاب البحر" للأديب السوري حيدر حيدر وقت صدورها عام 1983، وعندما أعيد طبعها في مصر عام 2000، حدثت أزمة تبناها الأزهر والإسلاميون، وانتهى الأمر بسحبها من الأسواق، وتلتها رواية "آيات شيطانية" لسلمان رشدي الصادرة عام 1988، الذي أهدَر مؤسس الجمهورية الإسلامية بإيران روح الله الخميني دمه، معتبراً إياه "مسيئاً للإسلام"، وحدّد مكافأة قدرها 2,8 مليون دولار لمن يقتل الكاتب.
القرن الحادي والعشرين يسير في نفس الظُلمة!
لم يهنأ كتُاب الألفية الجديدة بأفق أكثر اتساعاً، فالقبضة ذاتها لا زالت مُحكمة، ومشهد الوقوع بين مطرقة الإسلاميين وسندان الدولة بات تكراره مألوفاً، وبدأت بوادر انغلاقه في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بمنع أكثر من عمل روائي من النشر، مثل رواية "بنات الرياض" للكاتبة رجاء الصانع، التي اتُّهمت بأنها "تشوّه صورة النساء في السعودية"، وهي الدولة ذاتها التي تمنع حتى الآن تداول رواية "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف، المترجمة لأكثر من لغة منها الألمانية، و"حكاية وهابية" لعبد الله المفلح، و"ترمي بشرَر" للكاتب نفسه، و"هذه هي الأغلال" لعبد الله القصيمي.
لم يهنأ كتُاب الألفية الجديدة بأفق أكثر اتساعاً، فمشهد الوقوع بين مطرقة الإسلاميين وسندان الدولة بات تكراره مألوفاً، وبدأت بوادر انغلاقه في العقد الأول من القرن الحالي، بمنع أكثر من عمل روائي من النشر
العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين لم يكن أفضل حالاً من سابقه، فالكتاب المحسوبون على ثورات الربيع العربي، لم يُحققوا أياً من أهدافهم الثورية، ولا حتى أبسط حقوقهم بتداول أفكارهم بين القراء. ففي عام 2015، صودرت رواية "فئران أمي حصة" للكاتب الكويتي سعود السنعوسي، بأمر من وزارة الإعلام الكويتية، بتهمة خدش الحياء العام، إلى أن سمح بنشرها بعد أربعة أعوام.
وفي لبنان، الذي يعتبره الكتّاب الملاذ الوحيد لنشر ما يكتبون بعيداً عن مقص الرقيب، أصدرت دار "سائر المشرق" رواية "رجل ضدّ الله" للكاتب المصري سمير زكي، لكنها ظلت حبيسة الحدود اللبنانية، ولم يُتح لها الانتشار في البلدان العربية، بسبب اسمها!
وفي اليمن لم يسلم الكاتب علي المقري ــ الذي رشحت إحدى مؤلفاته لنيل جائزة "البوكر" ــ من الاتهام بالكفر، عقب إصدار كتابه الهامّ "الخمر والنبيذ في الإسلام"، إذ قامت الدنيا على الكاتب، ولم يخفُت صداها، بل زاد دويّه، حين انتقلت الاتهامات بالزندقة من الصحف إلى منابر المساجد، على لسان وزير الأوقاف اليمني الأسبق ناصر الشيباني.
أما في مصر فالكاتب علاء الأسواني، مُنعت روايته الأخيرة "جمهورية كأن" من النشر والتداول، وكاتبها مطلوب حتى الآن للمثول أمام القضاء العسكري بتهمتي "إهانة الرئيس"، و"التحريض ضد النظام".
"الدين"، "الجنس"، "السياسة"؛ ثلاثة تابوهات يحرُم على أي مبدع عربي الاقتراب منها تصريحاً أو تلميحاً
وعن تراجع هامش حرية الإبداع في مصر، يقول الكاتب حمدي أبو جليل، الذي وجهت إليه هو الآخر تهمة "الدعوة إلى العيب في الذات الإلهية والإساءة إلى الإسلام والأخلاق العامة"، بصفته مدير تحرير سلسلة "آفاق الكتابة" التي أعادت طبع "وليمة لأعشاب البحر" في مصر: "المشكلة أن مصر في موضوع الرقابة ارتدت، وزادت رقابة المجتمع عن ذي قبل، وصارت المشاهد والكتابات التي قُبلِت سابقاً مُجرّمة حالياً".
ويضيف أبو جليل في حديثه لرصيف 22، أن ذلك "نتاج هيمنة الجماعات الإسلامية على كلّ مقدرات الشعب المصري في التربية والتعليم، بعدما أطلق لها الرئيس السّادات العنان في سبعينيات القرن الماضي."
المواطن أصبح رقيباً على نفسه!
في أكتوبر عام 2015، تصفح مواطن مصري يدعى هاني صلاح توفيق مجلة "أخبار الأدب المصرية"، وطالع الفصل الخامس من رواية "استخدام الحياة" للكاتب الشاب أحمد ناجي، فشَعَر "باضطراب في ضربات القلب، وإعياء شديد، وانخفاض حاد في الضغط"، فقرر التقدم ببلاغ للنائب العام، يتهم فيه الكاتب بالتسبب في خدش حيائه.
وعلى إثره، قررت نيابة وسط القاهر إحالة الروائي أحمد ناجي، وطارق الطاهر، رئيس تحرير "أخبار الأدب"، إلى محكمة الجنايات، لنشرهما "مادة كتابية فيها شهوة فانية ولذة زائلة، ولأن الكاتب أجّر عقله وقلمه لتوجُّه خبيث حمل انتهاكاً لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق والإغراء بالعهر خروجاً على عاطفة الحياء". وأخذت القضية جولاتها، حتى نال الكاتب البراءة في مستهلّ يناير عام 2016.
وتواصل رصيف 22 مع الكاتب أحمد ناجي، للتحدّث عن أَثَر ما جرى عليه في الوقت الحالي، فقال: "أثرُ الرقابة هو أنني منفيّ في الخارج. فقدت عملي؛ فقدت سنة من عمري؛ فقدت بيتي وأهلي في مصر، وحالياً أبدأ من الصّفر في بلد آخر."
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...