بمناسبة ثورة 25 یناير/كانون الثاني البهية، كان للواء حسن الرويني عضو المجلس العسكري الحاكم للبلاد بعد خلع حسني مبارك، عام 2011، تصريح تلفزيوني مهم استدعاؤه كلما اشتعلت إحدى معارك الكلام.
حين يريد تهدئة ميدان التحرير يطلق شائعة تفيد حبس أحد أعمدة نظام مبارك، وتحويله إلى المحاكمة: "أنا عارف مدى تأثير الإشاعة في الجموع". لعل تذكُّر هذا الاعتراف يفيد في معركة لا تحتملها قطعة ثياب داخلية في حجم قبضة اليد، اسمها في المغرب "تِبّان"، وفي مصر "لباس، كيلوت"، ولدى السلفيين "سروال"، وعند المتأنقّين "Under"، وكثيراً ما نزعته الأيدي وطيّرته في أفلام مصرية، ولم يكن عنواناً لمعركة إلا مع فيلم "أصحاب ولا أعز".
مشعلو الحرائق يستطيعون إطفاءها بالأمر المباشر، وألا يسمحوا باشتعالها أصلاً. إثارة المعارك الوهمية، خوفاً على الدين أو الأخلاق، مرض مصري مزمن، وأثبتت التجربة أن الدين لم يتأثر، ولا الأخلاق، بهذه المعركة أو تلك.
من يطمئن قلبه بالإيمان بدين، أو يتحلّى بفضيلة، لا يستعرض حنجرته في إعلان الخطر على ما يؤمن به. في مصر محامٍ وقح تستخدمه السلطة في إرهاب أعدائها، بالقذف التلفزيوني الصريح لأعراضهم. وهو أكثر المصريين ترديداً لكلمات "الأخلاق، الاحترام، الفضيلة" بحماسة الغيور. ومنذ عشرين سنة، عانت صديقة شامية تحرش أحد مدّعي الفضيلة، وفي نوبة غضب قالت لي: "هؤلاء أشَرمَط الخلق". فاجأني، للمرة الأولى، صوغ اسم التفضيل من فعل رباعي.
نضمن الرحمة باختلاف السلفيين والسلطة، سلطة الحكم أو سلطة الحشود. في صيف 2012، ضُبط برلماني من أعضاء حزب النور السلفي بصحبة فتاة، في وضع لا يليق داخل سيارة على طريق زراعي. النائب السلفي المصري، الذي له فتاوى في حكم تعلّم اللغة الفرنسية، كان يحلو له التشدد في ضوابط نقاب المرأة. وفي صيف 2016 أثيرت علاقة امرأة ورجل كلاهما قيادي في "حركة التوحيد والإصلاح" بالمغرب، كلاهما نجم يحمل لقب "الداعية".
من يشاهد أنشطة السلفيين وتعليقاتهم المليونية في اليوتيوب، على الفيلم اللبناني، لا يخطئ نشوتهم بوفرة الرزق الإلكتروني، ولن يخطئ لذّتهم وهم يتصنّعون التعفف
لم أكن أعرف هذه السيدة، ولا أتابع مواعظها الغزيرة التي تحظى بمعدلات مشاهدة مرتفعة على اليوتيوب، لفقداني الرجاء في كثير ممن يمتهنون "الدعوة"، ويعمدون إلى تجميل "البضاعة"؛ فالزبائن يملّون، ويحتاجون إلى إنعاش غريزة الخوف.
وتجيد السيدة الضغط على هذا الوتر، بخطاب انفعالي يتخذ مساراً هابطاً من منصة إلى جمهور لا يناقش، وينتظر من يطمئنه ويمنحه اليقين بأنه "على الحق المبين"، وأن الآخر على ضلالة، ومن يتشبه بهذا الآخر سيحشر معه، وأن الواقع يسمي الأخطاء والخطايا بغير أسمائها، "فسمى الغواية تحرراً، وسمى الشذوذ تقدماً وحرية فردية، وأطلق على السعار الجنسي أنه حاجة إنسانية... لا تقتربي فالضحكات الخليعات زنا، والكلمات المغريات زنا".
في قضية فيلم "أصحاب ولا أعز" تحالفت السلطة مع السلفيين في تقديم خطاب متقن للإلهاء. نجح هذا التحالف في تحويل غضب المصريين من الغلاء وتدنّي الخدمات الصحية والتعليمية، فضلاً عن القهر العام، إلى الغيرة على الأخلاق.
من يشاهد أنشطة السلفيين وتعليقاتهم المليونية في اليوتيوب، على الفيلم اللبناني، لا يخطئ نشوتهم بوفرة الرزق الإلكتروني، ولن يخطئ لذّتهم وهم يتصنّعون التعفف. هؤلاء ممثلون فاشلون، ولعل هذا من أسرار حقدهم على الممثلين. هم يعاندون فطرة تعاقب من يخالفها بانفجار الكبت من أضعف سبيل. بعضهم يلحّ على لعن ممثلة بعينها لأنه يشتهيها، والبعض يعوّض ما يتمناه بالتحذير من آثار النظرة، بتقصٍّ فاضح وهو يشرح مفاتن المرأة. لماذا يختص هؤلاء السلفيون بحد أقصى من السماجة وثقل الظل؟
حتى فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل لم يُعلن عن ردّة مسلم بسبب رواية "أولاد حارتنا". وقد نُشرت الرواية مسلسلة في صحيفة الأهرام عام 1959 وهي متاحة، وقرأت وأنا في الجامعة نسخة دار الآداب التي كان يبيعها الحاج محمد مدبولي.
فلما فرح المصريون بالجائزة، ونوّه بيان لجنة الأكاديمية السويدية بالرواية ضمن أربعة أعمال لمحفوظ، في حيثيات منح الجائزة، أصيب البعض بالجنون "حسداً من عند أنفسهم"، وعجز هواة إطفاء الفرح عن التحلّي بأخلاق "الكاظمين الغيظ"، وجعلوا الرواية هدفاً للقصف، فصدرت كتب منها "أولاد حارتنا فيها قولان" لجلال كشك، و"كلمتنا في الردّ على أولاد حارتنا" لعبد الحميد كشك. ويسهل تفسير الأمر بأنه رفض للجائزة لا للرواية، واستكثار السعادة العمومية بأول جائزة نوبل للآداب ينالها عربي.
لم ينتفض الشعب اللبناني اعتراضاً على فيلم "أصحاب ولا أعز". الفيلم اللبناني استنسخ فيلماً إيطالياً عرض في مصر عام 2016، في مهرجان القاهرة وبعد المهرجان. ألم يكن منسوب الذكاء كافياً ليدرك مشاهد مصري آنذاك خطورة الفيلم؟
نزع الوزير قناع الفنان عن وجه رجل دين، وتوجه إلى التلفزيون مبكراً ونحن نيام، وأطلق تصريحات ذات طابع سلفي انتهازي
لم تعلن حالة الطوارئ في إيطاليا، أو في عشرين دولة أنتجت نسخاً من الفيلم لا تختلف إلا في أنواع الأطعمة وتفاصيل صغيرة لا تمس صلب الحوار ولا تتابع المشاهد لأبطاله السبعة. لا علاقة للمصريين بفيلم لبناني، كما لم تكن للمصريين عام 2000 علاقة برواية السوري حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر"، وأحداثها تدور في الجزائر، وأبطالها عراقيون وجزائريون فاتهم إعلان الحرب على الرواية.
صحيفة "الشعب" لسان حزب العمل المتحالف مع اليمين الديني شحنت الجماهير بعناوين منها "من يبايعني على الموت؟". ورئيس جامعة الأزهر أحمد عمر هاشم قاد طلابه للتظاهر ضد الرواية. لكن الهيجان السلفي لم يجد ظهيراً من السلطة التي انحاز إليها المثقفون دفاعاً عن الرواية. وبعد أشهر، في يناير/كانون الثاني 2001، قاد وزير الثقافة المصري فاروق حسني حرباً على ثلاث روايات مصرية. نزع الوزير قناع الفنان عن وجه رجل دين، وتوجه إلى التلفزيون مبكراً ونحن نيام، وأطلق تصريحات ذات طابع سلفي انتهازي. فماذا كان موقف رموز الثقافة السلطويين من أزمتين بينهما بضعة أشهر؟
بالضربة القاضية، انتصر أنيس منصور لوزير الثقافة، في مقال بصحيفة الأهرام في 28 أيار/مايو 2000، دفاعا عن رواية "وليمة لأعشاب البحر"، وتساءل: "هل نحرقها أو هل نشنق المؤلف، لماذا؟ لأن في الرواية تعبيرات لفظية وحركات جنسية بذيئة وتطاولات على الدين تصدم المؤمنين والمهذبين. هذا صحيح. ولكن الفن الروائي يسمح بأن نصور المجنون والسكران والمنحل والعارية. نحن فزعنا من رد الفعل المبالغ فيه لأنه سوف يؤدي إلى تجريم حرية التعبير وخوفاً من أن يجيء يوم يرفض فيه طلبة الطب تشريح الجسم الآدمي بعد تعريته لأنها قلة أدب وخروج على الدين".
وبعد 245 يوماً كتب أنيس منصور من برلين رأياً مختلفاً. لم يشأ أن تفوته حفلة الهجوم على الروايات الثلاث والانتصار للوزير. كتب في 28 كانون الثاني/يناير 2001 عن "واجب الدولة الأمينة على ثوابت القيم والدين والحياة أن تحمي الشعب من إهدار أمواله وكرامة الناس... وقد فعل وزير الثقافة ذلك فأغضب عشرة... أو عشرين... إرضاء لخمسة وستين مليوناً".
أما الدكتور جابر عصفور فكتبت عنه، في صحيفة "العرب"، مقالاً عنوانه "جابر عصفور... موظف يمارس التنوير الانتقائي"، في 20 حزيران/يونيو 2014 وهو وزير. بالمصادفة حضرت مؤتمر (كتاب في جريدة)، في شباط/نوفمبر 2004 بمدينة شرم الشيخ، وقدم عصفور بحثاً عنوانه "حرية الفكر والإبداع والنشر"، وتوقف قطار التنوير عند محطة "وليمة لأعشاب البحر" التي أبرزت "الدور الذي تحول إليه مجمع البحوث الإسلامية، وتحوله إلى محكمة تفتيش جديدة، لا تتردد في إصدار أحكام التكفير ضمناً أو صراحة". نفد الوقود؛ فلم يصل القطار إلى محطة "الروايات الثلاث".
اتفاق السلطة والسلفيين، أو تسلّف السلطة، يغلق باب الرحمة. كان الشيخ علي عبد الرازق، مؤلف كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، ضحية هذا التحالف عام 1925. تلك معركة فكرية وسياسية استخدم فيها الدين. انتماء المؤلف إلى حزب "الأحرار الدستوريين" دفع زعيم حزب الوفد سعد زغلول العلماني إلى استثمار أزهريته، وقال إنه قرأ الكتاب "بإمعان، لأعرف مبلغ الحملات عليه من الخطأ والصواب، فعجبت ـ أولاً ـ كيف يكتب عالم ديني بهذا الأسلوب في مثل هذا الموضوع؟
افتعلت السلطة أزمات رقابية حول أعمال فنية، ولا تحتمل عملاً عن ثورة 25 يناير. ولعلها لم تُشعل أزمة فيلم "أصحاب ولا أعز"، ولكنها توظّف الأزمة، وتستثمر الفتنة
لقد قرأت كثيراً للمستشرقين ولسواهم، فما وجدت ممن طعن منهم في الإسلام حدة كهذه، حدة في التعبير، على نحو ما كتب الشيخ علي عبد الرازق... لقد عرفت أنه جاهل بقواعد دينه، بل بالبسيط من نظرياته، وإلا فكيف يدعي أن الإسلام ليس ديناً مدنياً؟ ولا هو بنظام يصلح للحكم؟!.
لم تكن لإسماعيل أدهم خصومات حزبية، ونجا بكتابه "لماذا أنا ملحد؟" من المحاكمة، وظل الكتاب في دائرة الاشتباكات الفكرية لا التكفيرية. ردّ عليه محمد فريد وجدي بكتاب "لماذا أنا مسلم؟"، وانتهى الأمر عند هذا الحد. أما طه حسين نجم صحيفة "السياسة" لسان حزب "الأحرار الدستوريين"، فجدد بكتابه "في الشعر الجاهلي"، عام 1926، الخصومات مع حزب الوفد.
تظاهر طلاب الأزهر أمام البرلمان، اعتراضاً على الكتاب، وخرج رئيس البرلمان سعد زغلول وقال: "هبوا أن رجلاً مجنوناً يهذي في الطريق فهل يغير العقلاء شيئاً من ذلك؟ إن هذا الدين متين وليس الذي شك فيه زعيماً ولا إماماً حتى نخشى من شكه على العامة. فليشك ما شاء، ماذا علينا إذا لم يفهم البقر؟!".
ولم تهدأ ثورة البرلمان الذي طالب باستجواب رئيس الحكومة عدلي يكن، وبتكليف الحكومة بمصادرة الكتاب، وإحالة المؤلف إلى النيابة، وإلغاء وظيفته. ووافق علي الشمسي وزير المعارف على القسم الأول، وجرت بين رئيسي الوزراء والبرلمان مناقشات بشأن القسمين الآخرين.
افتعلت السلطة أزمات رقابية حول أعمال فنية، ولا تحتمل عملاً عن ثورة 25 كانون الثاني/يناير. ولعلها لم تُشعل أزمة فيلم "أصحاب ولا أعز"، ولكنها توظّف الأزمة، وتستثمر الفتنة. ألا في الفتنة سقطوا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع