حافي القدمين، حاسر الرأس، حاملاً كفنه بين يديه، يمشي الرجل مسحوباً من رقبته بحبل، وسط جمع غفير من الناس، إلى "ولي الدم" الذي سيكون عليه أن يمنحه الحياة أو الموت.
المشهد الذي يبدو مهيباً ومخيفاً، سرعان ما يتلاشى ليحل، بدلاً منه، مشهدٌ آخر، قريباً من حفل عقد القران، حين يقوم "الولي"، بوضع السكين على رقبة "القربان البديل" الذي يكون خروفاً أو عجلاً، بدلاً من وضعها على رقبة الرجل. يحتضن الرجلان بعضهما بعضاً، وتتعالى الهتافات، والتبريكات، وكلمات المحبة، وبذلك يُصبح الرجل الذليل، الذي كان في حُكم الموتى منذ دقائق معدودة، حراً طليقاً، وكأنه بُعث من جديد.
هذا المشهد المسرحي، هو ذروة طقس "القودة"، الذي يُجرى تنفيذه في صعيد مصر، لإيقاف نزيف عمليات الثأر، والتناحر بين العائلات، وفي أغلب الأحيان، تنجح القودة في القضاء على العنف، وإحلال السلام بين أهل الجنوب، وهو بذلك طقس عبقري، فثقافة الثأر، متجذرة في أعماق المجتمع الصعيدي بشكل يصيب المرء باليأس من قدرة أي شيء على اقتلاعها.
وهذه القوة السحرية للـقودة، كانت مصدر دهشة الشاعر والكاتب الجنوبي فتحي عبد السميع، ومحرضةً له ليقوم بتوثيق وتحليل هذا الطقس في كتابه القربان البديل، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية. وتعتمد دراسة الكاتب على دائرة جغرافية محددة هي جنوب مصر، بداية من محافظة قنا. وسبب اقتصارها على هذه الدائرة، يرتبط بتواجده الدائم هناك، مما يسّر له، متابعة وحضور فعاليات القودة مرات عديدة.
لا أحد يستطيع أن يوقف هذا النزيف، سوى القودة، التي يمكن النظر إليها من خلال البناء والعناصر والتنفيذ، كعمل فني صرف، تأخذ هذا العنف المكثف، وتُمرره على مجموعة من العمليات، وخطوة إثر خطوة، تخف حدته ويتلاشى، وهو بذلك يُمكن وصفه بـ"الطقس السحري"
كما أن الكاتب كان منغمساً في مجتمع الثأر، بحكم النشأة، حيث وُلد وعاش طفولته في قرية تعرف الثأر، ثم عمل على مدار عشرين عاماً في محكمة قنا قبل أن يتفرغ للكتابة، وطوال تلك الفترة كانت وقائع الثأر جزءاً من حياته اليومية. يقول: "رأيت الكثير من المواقف المأساوية الأليمة، والخسائر الفادحة التي يتسبب فيها الثأر والعنف عموماً". وهكذا كان فتحي عبد السميع شاهداً على العالمين: العنف المتمثل في الثأر، واللاعنف، الذي يتجسد أو يتحقق عبر طقوس القودة.
أما الثأر فهو دائرة محكمة من العنف، فشلت الدولة على مدار العصور في التصدي له، فالحل القانوني والقضائي، ليس كافياً لعائلة القتيل للنيل من القاتل، ومن ثم عندما يسقط قتيل من إحدى العائلات، جرى العُرف على أنها ترفض أخذ العزاء، وتبدأ في الاستعداد للثأر من القاتل.
ومن يأخذ الثأر، يكون قريباً من الدرجة الأولى للقتيل، وهكذا تسير الأمور: قتيل أمام قتيل، ولا أحد يستطيع أن يوقف هذا النزيف، سوى القودة، التي يمكن النظر إليها من خلال البناء والعناصر والتنفيذ، كعمل فني صرف، بل هي ليست إلا عملاً فنياً، تأخذ هذا العنف المكثف، وتُمرره على مجموعة من العمليات، وخطوة إثر خطوة، تخف حدته ويتلاشى، وهو بذلك يُمكن وصفه بـ"الطقس السحري".
وعبر البحث التاريخي واللغوي، والتأمل الذاتي، توصل فتحي عبد السميع إلى أن القودة طقس قرباني يقوم بديلاً عن القتل ثأراً، وطقس تكفيري وتأكيدي معاً، يدخل في إطار طقوس العبور، ويهدف إلى قتل القاتل رمزياً عبر إجراءات معينة ليبعثه مرة أخرى بعثاً رمزياً.
ككل الطقوس، يقوم طقس القودة على سلطة الرموز؛ فالعملية الثأرية تتحول كل عناصرها إلى رموز، ويفترض هذا الطقس أن ثمة "حفرة دم"، قائمة بين القاتل والقتيل، وهي ترمز إلى الخصومة الثأرية، والحفرة تستدعي إلى الأذهان صورة القبر المفتوح في انتظار القتيل، و"كأننا في طقس دفن معلق".
العملية الثأرية تتحول كل عناصرها إلى رموز، ويفترض هذا الطقس أن ثمة "حفرة دم" بين القاتل والقتيل
وتهدف القودة إلى ردم هذه الحفرة عبر مجموعة من الطقوس والإجراءات، وهو ما اصطلح على تسميتها "ردم حفرة الدم"، وهي "تعبير مجازي يعني تغيير مجرى القتل من المجال الواقعي الذي يستهدف الجسد إلى مجال رمزي يستهدف تطهير النفس عبر إجراءات طقسية معينة". لكن كيف يتم ردم حفرة الدم؟
يقول فتحي عبد السميع إن القودة تتكون من بناء معقد، يُجرى تنفيذ عناصرها بالترتيب وبمنتهى الدقة، فأي خطأ من جانب القائمين عليها من شأنه أن يقضي على الهدف منها، وربما يتحول المسار إلى العنف مره أخرى. ومن ثم فهي تعتمد على مجموعة من الرجال من ذوي الحكمة، والمكانة الاجتماعية الرفيعة، والمخلصين الذين يأملون في إنهاء هذا العنف المستشري في بلاد الجنوب.
ومبدأ القودة الأساسي يقوم على تطهير القاتل من ذنبه، وكذلك استرداد عائلة القتيل لمكانتها، عبر عمليات الإذلال التي يتعرض لها القاتل مقدم القودة. ومن الناحية الفنية يمكن القول إن القودة تقوم على فكرة القتل الرمزي، قبل أن يُبعث هذا القتيل عبر العفو والصفح عنه من خلال أصحاب الثأر.
ويُقسم الباحث، القائمين على ردم حفرة الدم إلى قسمين؛ يُعرف الأول باسم: "قضاة الدم"، ويُعرف الآخر باسم "الأجاويد". وقاضي الدم –بحسب عبد السميع- هو أحد الأشخاص الذين يتسمون بالمكانة الاجتماعية في مجتمع الثأر، ويتخصصون في فض الخصومات الثأرية، وهو يتمتع بخبرات واسعة في هذا المجال ويقوم بـ"شد القودة" والإشراف على كل تفاصيل المهرجان الطقسي.
وينقسم قضاة الدم إلى قسمين، الأول يحرص على تحقيق المصالحة دون أي تدخل من السلطة. أما الثاني فيتعاون معها، ويُحقق النوع الأول، أعلى درجة من الفاعلية، حيث تتم المصالحة بأعلى قدر ممكن من إرضاء النفوس. والنوع الثاني يتعرض لضغط السلطة التي تجبر الخصوم على إنهاء الخصومة، ومن ثم تكون المصالحة شكلية فقط، وتظل حفرة الدم مفتوحة في انتظار سقوط قتيل من إحدى العائلتين.
أما الأجاويد فهي مجموعة غير محددة العدد، تلعب دوراً مؤثراً وبالغ الأهمية في إنهاء الخصومة الثأرية، ويتمثل واجبها في إقناع أفراد عائلة القتيل، مستغلين في ذلك مكانتهم التي تقلل من الشعور بالعار لدى عائلة القتيل لعدم قيامهم بالثأر وتؤهلهم لقبول القودة.
ويقول عبد السميع إن ردم بؤرة الدم، لا يتم بشكل عشوائي، بل يمرّ بعدة مراحل، تتطور خلالها لغة الحوار، وتنمو فكرة المصالحة ببطء، وتتم عبر قسمين؛ الأول هو الوصول إلى اتفاق على التصالح، والآخر هو إجراء طقس القودة، وللوصول إلى اتفاق الصلح. تدور الكثير من الحوارات بين الأجاويد وقاضي الدم وأهل القتيل، وفي البداية تُشيع الأجاويد أن عائلة القتيل ترفض المصالحة، وهذا جزء من رد الاعتبار لها، حتى لا تبدو وكأنها متقاعسة عن الأخذ بالثأر، مما يُقلل من الضغط الاجتماعي الذي يضعها في دائرة العار، وبعد ذلك تكثر الحوارات واللقاءات حتى توافق أسرة القتيل على الصلح، ويتم تحديد مقدم القودة وهو غالباً ما يكون الشخص القاتل، وإن كان يقضي عقوبته في السجن، تقوم أسرة القتيل باختيار شخص آخر من عائلة القاتل، ويقع اختيارها عادة على الشخص الذي يتمتع بقيمة أكبر من الآخرين على النحو الذي يُرضي غرورها.
والمُلفت في هذه المرحلة هو الدور المؤثر للنساء في مجتمع الثأر، فلا تصالح يتم دون موافقتهن. والمرحلة الأخيرة هنا تتضمن تحرير محضر تصالح بمعرفة قاضي الدم، يُدون فيه استجابة العائلتين للتصالح، والالتزام بجميع الاجراءات مع شرط جزائي يصل إلى نصف مليون جنيه، ويتم تحديد موعد احتفالية القودة أو ما يُسمى بالمهرجان الطقسي، حيث توزع دعوات على أهل القرية، وربما القرى المجاورة، وتكون هناك دعوات خاصة لشخصيات تحظى بمكانة اجتماعية كبيرة، وهناك أيضاً حضور أمني ورسمي، لكنه غالباً ما يكون هامشياً.
ويُعد المهرجان الطقسي، أهم ركن في ردم بؤرة الدم ويتم الحشد له على مدار عدة أيام، حيث يتم توزيع كروت الدعوات، وتحديد إقامة السرادق. وتبدأ الاحتفالية بقراءة القرآن، ثم كلمات المتواجدين على المنصة، وتصب كلماتهم في اتجاه واحد وهو تزكية المصالحات الثأرية، والإعلاء من قيم العفو والتسامح بالإضافة إلى كيل المديح لعائلة القتيل التي استطاعت أن تتغلب على آلامها وتقبل الصلح.
وتبدأ الطقوس الخاصة بـ القودة، عندما يقوم "قاضي الدم" باحضار القاتل (مقدم القودة) إلى السرادق، بعد أن يكون قام بتلقينه، والتلقين هو بمثابة مفتاح للقودة، حيث يطلب قاضي الدم من القاتل أن يُردد خلفه الشهادتين، وفي تحليله لهذا العنصر، يقول عبد السميع: التلقين عنصر من عناصر الطقوس الجنائزية، يتم في حالة الاحتضار، وهو عمل ختامي، يرتبط بانتهاء الوجود الإنساني من عالم الأحياء إلى عالم الموتى، ووجوده في طقس القودة، يحمل نفس المعنى، فهو عمل ختامي تنتهي به مرحلة معينة، يمكن تسميتها بمرحلة السقوط في حفرة الدم، ويكون مصير القاتل هنا معلق بين نار القتل أو جنة العفو" وبذلك يرى الكاتب أن ثمة رسالة رمزية يقدمها عنصر التلقين، وهي ربط القاتل بعالم الموتى، فهو يظل في حكم المتوفى إلى أن ترضى عنه عائلة القتيل.
وبعد التلقين، يأتي التفطيم، حيث يقوم قاضي الدم، بإخبار القاتل؛ بأنهم سوف يتوجهون الآن إلى عائلة القتيل، وأنه (القاتل) رجلهم، إن قتلوه فهو حقهم، وإن عفوا عنه فهو حقهم، ويذكره أيضاً بأنه يرى العفو أقرب. وبعد التلقين والتفطيم، يقوم القاضي، بتجريد القاتل من جلبابه ومساعدته في ارتداء جلباب أسود اللون، بوضعية مقلوبة، تكون فيها الناحية الداخلية للثوب هي الخارجية. وبعد ذلك تأتي مرحلة شد القودة، حيث يتم اقتياد القاتل من الشاش أو الحبل الملفوف حول رقبته، ويقوم قاضي الدم بإمساك الشاش والسير أمام القاتل، ويكون القاتل، حافياً، وحاسر الرأس، أي ليس على رأسه عمامة، وكفنه بين يديه، مع ضرورة إظهار خوفه ورعبه من أهل القتيل.
وكل هذه التفاصيل، الغرض منها كسر أنف القاتل بالتعبير الشعبي، أي إذلاله، والتقليل من شأنه، فاقتياد القاتل بحبل أمام الجمهور، يراه الكاتب يحمل دلالتين رمزيتين، الأولى: تُجسد هيمنة أهل القتيل على القاتل هيمنة كاملة، والأخرى تُجسد القاتل في هيئة بهيمة. ويُعد حمل الكفن وتقديمه لـ ولي الدم، العنصر الجوهري في طقس القودة، ومن دونه لا يمكن أن يتم الصلح، ومنذ فترة قريبة، كان يتم تكفين القاتل، ووضعه في نعش، والسير به عدة أمتار، حتى يقوم ولي الدم بالصفح عنه، وقد انتهى هذا الطقس في النصف الثاني من القرن العشرين، كما أن التضحية بأحد الحيوانات، أو تقديمها كـ قربان بديل للقاتل، لم تعد عنصراً أساسيا في طقوس القودة كما كانت من قبل.
يقول فتحي عبد السميع إن القودة تتكون من بناء معقد، يُجرى تنفيذ عناصرها بالترتيب وبمنتهى الدقة، فأي خطأ من جانب القائمين عليها من شأنه أن يقضي على الهدف منها، وربما يتحول المسار إلى العنف مره أخرى... طقوس القودة في مصر
يقوم قاضي الدم باقتياد القاتل والسير به أمام الحضور الذين يقفون جميعاً، ليبدو المشهد وكأنه جنائزياً، ثم يتوجه القاضي بالحديث إلى ولي الدم: نتقدم إليكم حاملين الكفن، معلنين بذلك عن ندمنا عن الحدث المؤسف، وهذا هو رَجُلكم. إن شئتم قتلتموه، وإن شئتم عفوتم عنه. ثم يطلب من القاتل أن يُردد خلفه: اقبلوني لوجه الله ورسوله والأجاويد والحضور، ثم يطلب من ولي الدم أن يُردد خلفه: قبلناك لوجه الله ورسوله والأجاويد والحضور، وعندما ينطق ولي الدم بهذه الكلمات، تصل القودة إلى ذروتها، وتنتهي الخصومة الثأرية، ويقوم ولي الدم، بإلباس القاتل، الحذاء، وتعديل جلبابه، وينضم القاتل إلى عائلة القتيل.
أما الكفن فهناك أكثر من إجراء خاص به، فبعض العائلات، تقوم بدفنه في الجبانه، والبعض الآخر يحتفظ به، كدليل للأجيال القادمة على انتهاء الخصومة الثأرية، خاصة وأن الكفن الذي هو عبارة عن قماش من الدبلان، مدون عليه، اسم العائلتين، وتاريخ الصلح، واسمي القاتل والقتيل. يبدو طقس القودة، كالمشاهد المسرحية، فبواسطته يتم مسرحة الحياة والموت، وهو عمل فني متكامل، فإذا اعتبرنا، مقدم القودة، وولي الدم، وقاضي الدم، والأجاويد، هم الأبطال الحقيقيين لهذا العمل، فهناك الكومبارس، الذين يقومون بـ البكاء، والندب، فور خروج القاتل من بيته، إلى بيت القتيل لتقديم القودة، وهذا البكاء ليس حقيقياً بل مصنوعاً، فليس ثمة ميت، حتى تقوم النساء بالبكاء والعديد، عندما يعبر القاتل عتبة بيته.
كباحث مدقق، استقصى فتحي عبد السميع جذور وهوية طقس القودة، وعبر الكثير من البحث والتحليل والمقاربات النظرية، توصل الكاتب إلى أن القودة طقس مصري فرعوني، وإن اكتسب بعض عناصر الثقافة الإسلامية والعربية، فهو يُرجع أصل هذا الطقس إلى أسطورة أوزير، وهي أهم أسطورة مؤسسة في ثقافة مصر القديمة، والحدث المؤسس فيها هو قيام ست بقتل شقيقه أوزير، الأمر الذي تولدت عنه خصومة ثأرية بين القاتل وحورس نجل القتيل، وكان اللاعنف هو المنهج الذي تبنته هذه الأسطورة لمواجهة القاتل، كما هو الحال في طقس القودة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...