عندما نُقلت المومياوات الملكية في موكب من المتحف المصري في ميدان التحرير وسط القاهرة إلى المتحف القومي للحضارة المصرية الجديد في الفسطاط، التفتت الأنظار إلى الألحان والأناشيد المصرية القديمة التي قُدّمت في الحفل، إذ تشابهت في نغماتها مع تلك التي تُرتَّل في الكنائس القبطية، وإلى اللغة نفسها التي يتمسك بها الأقباط في صلواتهم، وهي إحدى الكتابات المصرية القديمة.
التشابه بين الحضارة المصرية القديمة والطقوس المسيحية لا يقتصر على ذلك، بل يتعداه إلى بعض الرموز والممارسات في الكنائس، والموجودة إلى الآن، بدءاً من الشهور القبطية وارتباطها بالأعياد المسيحية، وصولاً إلى طريقة التجنيز، والدفن، واستخدام سعف النخيل، والحَنوط.
كما تتشابه المسيحية مع الديانة المصرية القديمة في بعض أساسيات العقيدة نفسها، كمفتاح الحياة، أو "علامة عنخ" التي عدّها المصري القديم رمزاً للحياة، والذي يشبه الصليب في المسيحية. كما أن أسطورة زواج الإلهة إيزيس من الإله أوزيريس، وإنجابهما حورس، وهو ما يطلَق عليه "الثالوث المصري المقدس"، تتشابه مع أساس العقيدة المسيحية، أي "عقيدة التثليث والتوحيد"، مع بعض الاختلافات الكامنة في حلول الروح القدس على العذراء مريم في المسيحية.
مبادئ العقيدة
قد يُحدث تشابه الأديان مع بعض الحضارات القديمة لغطاً عند رجال الدين، فيرفضون تلك الحضارة. هذا ما قاله الطبيب القبطي والباحث في المصريات وسيم السيسي لرصيف22، مؤكداً أن "الحضارة المصرية القديمة تتشابة مع الأديان جميعها، لذلك كان رجال الدين في السابق يهاجمونها قائلين إنها وثنية، على الرغم من أن المصري القديم عرف التوحيد منذ أقدم العصور، وسبق غيره من الحضارات الأخرى إليه".
ويضيف السيسي: "ليست الديانة المسيحية وحدها التي تأثرت بالحضارة المصرية القديمة، وتتشابه معها، بل الأديان كلها كذلك. فاليهودية مثلاً لديها ختان الذكور، وهي عادة مصرية، وأيضاً اعتبروا الخنزير حيواناً مكروهاً، وفي مصر قديماً رسموا سيتي الشرير شبيهاً بالخنزير، لأنه فقأ عين حورس... وتنتشر مقولة ‘العين عليها حارس’، والمقصود بها العين عليها حورس".
ويضيف السيسي أن نشيد أخناتون (ت. 1336 ق. م.)، أحد ملوك الأسرة الثامنة عشرة، يتشابه مع سفر نشيد الأنشاد في العهد القديم. وأيضاً تتشابه حِكَم آمنموبي، أحد حكماء مصر القديمة، والتي وجدت كاملة في بردية، مع سفر الأمثال.
وذكر الدكتور نسيم عبد الشافي السيار في كتابه "قدماء المصريين أول الموحدين"، أن حِكَم آمنموبي وُضعت في كتاب بعنوان "تعاليم الحياة" (سبايت إم عنخ)، وهو من أقدم النصوص المكتوبة، واعتبر أن النبي سليمان الذي تزامن وجوده في مصر مع كتابة هذه الحكم ترجمها إلى العبرية، ثم نسبها اليهود إليه.
ويصف أستاذ الفلسفة في الجامعة الأمريكية والباحث في التاريخ القبطي سينوت شنودة لرصيف22، التشابة الكبير بين شكل مفتاح الحياة (علامة عنخ) الذي رسمه المصري القديم رمزاً للحياة، ولمنحه الحياة الأبدية في العالم الآخر، وبين الصليب في المسيحية.
وعن أسطورة الثالوث المصري القديم، وهو زواج الإلهة إيزيس من الإله أوزيريس وإنجابهما الإله حورس المتجسد، يقول شنودة إن الكنيسة كانت تستخدم هذه القصة لتبسيط مفهوم التجسد للعامة، لأن استخدام القصة أقرب الطرق لإيصال الفكرة.
ويضيف أن مفهوم تقديم الذبيحة تقرباً إلى الآلهة، الموجود في الأديان كلها، فكرة مصرية خالصة، كما أن المسيحية أقرب إلى الشكل الملموس للقرابين التي كانت تُقدّم في المعابد المصرية، مشيراً إلى تشابه كبير في شكل العبادة، وطريقة الصلاة، مع المسيحية، و"بالأخص كنائسنا القبطية".
من جهته يقول عضو لجنة التاريخ القبطي وأستاذ التاريخ والطقوس في معهد الألحان في الزقازيق القمص يوسف الحومي، إن المصري القديم هو أوّل مَن توصل إلى وحدانية الإله، وصوّر التجسد على هيئة الثالوث الفرعوني، ولكن طبعاً مع الفارق الشديد في التشبيه لأن التثليث والتوحيد المسيحيين لا علاقة لهما بالقصة التي استخدمت اختلاف النوع، والجنس، والفارق الزمني في الوجود، وعلاقة الزواج نفسها، بينما في المسيحية تجسد الله من دون أن تُمَسّ العذراء.
ويقرأ الحومي هذا التشابه من باب أنه "هبة إلهية يمنحها الله لرجال الدين، والأنبياء، لتسهيل الفكرة على البسطاء. أما عند مَن ليس لهم أنبياء، فيمنحها الله للحكماء والفلاسفة تطبيقاً للآية التي يقول فيها بولس الرسول: ‘الذين بلا ناموس هم ناموس لأنفسهم’، والناموس هنا تُقصد به الشريعة أو العقيدة، أي مَن هم بلا أنبياء".
تتشابه المسيحية مع الديانة المصرية القديمة في بعض أساسيات العقيدة نفسها، كمفتاح الحياة، أو "علامة عنخ" التي عدّها المصري القديم رمزاً للحياة، والذي يشبه الصليب في المسيحية
ويضيف الحومي لرصيف22: "عيد النقطة عند قدماء المصريين، وهو عيد لدمعة الإلهة إيزيس حزناً على زوجها الإله أوزيريس الذي قتله شقيقه ‘ست’، يشبه فكرة صلب المسيح بحسب إيماننا المسيحي، وهو الإله، وصلبه مَن جاء ليخلّصهم".
ويتابع أن مفتاح الحياة عند قدماء المصريين لا يشبه الصليب في الشكل فحسب، بل أيضاً في الرمزية، فهو مفتاح الحياة الأبدية والخلاص عند المصري القديم، و"في عقيدتنا المسيحية لا خلاص من دون الصليب".
وأشار الحومي إلى أنه عندما أتى النبي يعقوب إلى مصر من أجل ابنه يوسف، ومات فيها، حنّطوه وناحوا عليه 40 يوماً، واستمر العزاء ثلاثة أيام، و"قمنا في كنيستنا بتنصير ذلك، أي نقلناه عن المصرية القديمة إلى المسيحية"، مشيراً في هذا السياق إلى أن الثالث يرمز إلى قيامة المسيح من بين الأموات، بحسب الاعتقاد المسيحي، كما يرمز الأربعون إلى صعوده إلى السماوات، و"كأن هذه المناسبات جميعها كانت تقريباً وتمهيداً للديانة المسيحية"، حسبما ينظر إليها.
الطقوس والمناسبات
يقول السيسي إن الكهنوت، وتقديم القرابين، أو الذبيحة، تقرباً للآلهة أو لمطلب ما من الإله، والعماد (الغطاس) الذي يرمز إلى التطهر بالماء قبل التعبّد، هي من عادات المصري القديم، وقد انتقلت تلك الطقوس بصورتها إلى المسيحية.
ويتحدث أستاذ المصريات ومدير متحف الآثار في مكتبة الإسكندرية الدكتور حسين عبد البصير عن عيد الغطاس، ودلالته عند قدماء المصريين، ويروي أن الجميلة "إيزيدورا" نزلت لتستحم في نهر النيل، وغرقت وماتت ودُفنت في مقبرة في تونة الجبل، وعدّها المصريون شهيدة، لأنها غرقت في ماء النهر، وهذه فكرة قريبة من فكرة الغطاس نفسها عند المسيحيين.
وكما رسم المصري القديم سعف النخيل على جدران المعابد، واستخدمها في استقبالات الملوك، يفعل المسيحيون الأمر نفسه إلى الآن في أسبوع الآلام السابق لعيد القيامة، ويخصصون يوماً هو أحد السعف للتذكير باستقبال المسيح في فلسطين، وتُرفَع السعف دلالةً على أنه ملك، كما كان يُفعل في بعض الحالات في مصر القديمة.
ويشير السيسي إلى أن الألحان القبطية المستخدمة في الكنائس المصرية استخدمت النغمات نفسها في تطبيق السلّمين الخماسي والسباعي.
"الحضارة المصرية القديمة تتشابة مع الأديان جميعها، لذلك كان رجال الدين في السابق يهاجمونها قائلين إنها وثنية، على الرغم من أن المصري القديم عرف التوحيد منذ الأسرة الأولى، وسبق غيره من الحضارات الأخرى إليه"
بدوره، يتحدث شنودة عن أن الموسيقي القبطية والألحان، وحتى الأدوات المستخدمة إلى الآن في كنائسنا، جميعها مصرية، و"على صعيد الألحان نقلنا لحن ‘غولغوثا’ أو الجلجثة، الذي يقال في صلوات الجمعة العظيمة السابقة لعيد القيامة، عن المصريين القدماء، فقد كان يُقال أثناء تحنيط الفرعون، أو الموتى عموماً عند دفنهم. وكذلك فإن لحن ‘بيك إثورنوس’ كان يُقال أثناء وداع الفرعون القديم الميت، واستقبال الفرعون الجديد. و‘إبؤورو’، وهو اللحن الذي يردَّد في الاستقبالات والاحتفالات في الأكاليل، كاستقبال العروسين، وكذلك في استقبال البطريرك والأساقفة، كان لحناً لاستقبال الملوك في مصر الفرعونية".
ويقول الباحث في علم المصريات بسام الشماع لرصيف22 إن الحضارة المصرية حضارة بخور، إذ كان البخور أهم سلعة تُستخدم في التجارة لرواجه حينها، والرسومات على جدران المقابر جميعها أشارت إلى استخدام البخور، وهو ما تحرص على استخدامه الكنائس المسيحية جميعها في العبادات.
ويشير الدكتور حسين عبد البصير إلى أن "طريقة الدفن في صندوق، ووضع الأشياء الخاصة بالمتوفى معه، وكذلك تحنيط الجثامين، هي قريبة من الطريقة التي وجدناها عند جثامين القديسين في الكاتدرائية المرقسية في الإسكندرية".
ويضيف عالم الآثار أن المصري القديم لم يبِح الطلاق، إلا لعلة الزنا، والعنّة، ويصعب توقيع الطلاق إلا في حضور أربعة شهود، مع إجراءات قد تُعَدّ معقدة، وهو ما يحدث في المسيحية لجهة عدم السماح بالطلاق. كما أن الوصية التي قيلت للزوج مشابهة، إلى حد كبير، لوصية الإكليل لدى المسيحيين، ووُجد مثل تلك التعاليم في بردية الحكيم "بتاح حتب" التي تتضمن نصائحَ منه إلى ابنه.
تشابه خاص مع الأقباط
رغم التشابه الكبير بين المصرية القديمة والعقيدة المسيحية بشكل عام، إلا أن الكنيسة القبطية، وخاصة الأرثوذكسية والكاثوليكية، تأثرت بشكل أعمق بالطقوس والاحتفالات الفرعونية.
ويشير شنودة إلى أن الأدوات الموسيقية المستخدمة في الصلوات داخل الكنائس إلى الآن، وهي الدف والمثلث أو التريانتو كان يستخدمهما المصري القديم، لافتاً إلى وجود 22 قطعة أثرية في المتحف المصري في التحرير، منها نموذج خشبي يصوّر فرقة موسيقية خلال عرض موسيقي من عصر الدولة الوسطى الفرعوني اكتُشف في منطقة آثار سقارة.
ويتابع أن الفن القبطي هو صورة متطورة عن الفن المصري القديم، و"قد طوّرنا في رسم الأيقونات شكل الوجوه"، وانتقل اهتمام المصري القديم برسم عناقيد العنب وسنابل القمح إلى الكنائس وما يزال حاضراً إلى الآن.
ويضيف شنودة: "كما أن المصري القديم كان يعبّر عن احتفاله بالأعياد والمناسبات في الأكلات، تطوّع كنيستنا المصرية الأكلات مع المناسبات الدينية بداية من القلقاس والقصب في شهر شباط/ فبراير أو بداية طوبة بالقبطية والذي يتزامن مع عيد الغطاس؛ وحتى أكل البلح والجوافة في رأس السنة القبطية والتي نحتفل فيه إلى يومنا هذا، ويسمى ‘عيد النيروز’، ومن بين الأعياد المصرية التي تحتفل بها الكنيسة أيضاً شم النسيم الذي ارتبط بعيد القيامة المجيد ونأكل فيه البيض المسلوق والذي يرمز إلى الحياة الجديدة والخلاص".
ويتابع أن الشهور القبطية التي تتّبعها الكنيسة في صيامها واحتفالاتها هي مصرية ومسمّاة على أسماء مصرية قديمة، ومنها شهر توت الذي سُمّي على اسم الإله توت، أحد آلهة مصر القديمة، كما أن المصري المعاصر اتّبع تقسيم تلك الشهور في الزرع والحصاد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين