في ليلة عرسي
في البداية عندما رغبت في الانفصال، ظننت أنني سأناله ببساطة كحق أصيل من حقوقي. لكن يبدو أنني كنت واهمة، فالطلاق المتحضّر لا يوجد إلا في الأحلام ومسلسل "البحث عن علا"، أما ما يحدث بالفعل فرأيناه في مسلسل "فاتن أمل حربي". لا أحد سيدعم مطالبتي بحق، رغم أن الشرع الذي يضعه الأهل والأقارب والمجتمع دائماً كذريعة للقهر، أعطاني ذلك الحق، لكنهم جعلوه مشروطاً باقتناعهم بأسبابي.
بعد اضطراري للجوء للمحكمة للحصول على حقي في الطلاق، لم أكن على علم بأي تفاصيل. كان المحامي يعلمني بتلك التفاصيل خطوة بخطوة إذا لزم أن يخبرني. دخولي الأول لمحكمة الأسرة كان لمقابلة "الأخصائي الاجتماعي" الذي من المفترض أن يستمع إلى أسبابي التي دفعتني إلى طلب الطلاق.
بمجرد دخولي من باب المحكمة، تدفّقت دموعي وأنا أتساءل: "أنا إيه اللي جابني هنا؟ لماذا يتوجب علي أن أواجه كل تلك العقبات لأحصل على حقي، لا سيما أنني وافقت على التنازل عن كل حقوقي المالية من أجل الطلاق، لذلك ليس هناك ما أقدمه أكثر من ذلك؟". طمأنني المحامي أنها إجراءات روتينية لا تستحق كل هذا البكاء، لكنني لم أستوعب الأمر: "لماذا يجب أن أقدم مبررات لنيل حقي؟ هل الأخصائي الاجتماعي الذي لا أعرفه ولا يعرفني، ويقابلني لأول في المحكمة، يمكنه أن يفهمني لدرجة أن أقنعه بأن يكتب تقريراً لصالحي يقنع هيئة المحكمة بأسبابي؟".
استمر بكائي طوال الجلسة بيني وبين الأخصائي الاجتماعي، والرجل لا يعرف لماذا أبكي. من وجهة نظره لايوجد ما يدعو للبكاء، لكن بمرور الوقت أدرك أنني لن أتحدث من نفسي، فاقترح أن يسألني بعض الأسئلة، بحيث يمكنه استشراف الأمر من مجمل إجاباتي، حتى يجد كلاماً يكتبه في التقرير. يريد الرجل إتمام عمله وترتيب أوراقه ليس أكثر، بينما أرغب في استعادة نفسي وحياتي. هو يؤدي عمله بينما أنا يجب أن أحكي أدق تفاصيل حياتي ومشاعري وأفكاري لرجل أقابله لأول مرة. الأمر فعلاً في منتهى البساطة و"زي شكة الدبوس.".
جاءت أسئلته سطحية وعامة وهو ما أسعدني حتى لا أضطر للتعمق في نفسي أمامه:
- ليه عاوزة تتطلقي؟
- مش مرتاحة ومش قادرة اكمل.
- طيب إيه الأسباب؟
- مفيش توافق حضرتك والله (مع استمرار البكاء)
- والبنات؟ مش هيحتاجوا لباباهم؟
- هو أنا منعتهم عنه؟ أنا الي عاوزة أتطلق حضرتك.
- يعني مفيش أمل تغيري رأيك؟
- لأ حضرتك والله ما فيش أمل... أنا عاوزة أتطلق والنبي.
في البداية عندما رغبت في الانفصال، ظننت أنني سأناله ببساطة كحق أصيل من حقوقي. لكن يبدو أنني كنت واهمة، فالطلاق المتحضّر لا يوجد إلا في الأحلام ومسلسل "البحث عن علا"، أما ما يحدث بالفعل فرأيناه في مسلسل "فاتن أمل حربي"... مجاز
أبدى الرجل تعاطفاً مع بكائي وليس مع أسبابي. هو لم يعرف أسبابي أصلاً. حاول إعادة صياغة جملي لتصبح أطول قليلاً بما يكفي، لتتحول من جمل مقتضبة بلا تفاصيل إلى تقرير مفصل. طمأنني المحامي بجملته التي اعتدتها وقال إن إجراءات التقاضي في صالح المرأة، حتى أن المحامي يفكر مرات كثيرة قبل أن يقبل قضايا الأسرة من الرجال، لأنها غالباً ما تكون قضايا خاسرة، لأن المرأة تحصل على كل المكاسب في نهاية الأمر.
أفكر كثيراً، يا ترى ما هي "كل المكاسب" التي تحصل عليها المرأة؟ بعد عام ونصف من دعوى النفقة والطلاق، لم أحصل على أي منها. حتى الآن لا طلاق ولا نفقة. أفكر ماذا تفعل النساء اللواتي بلا مأوى أو بلا مصدر دخل؟ ماذا تفعل النساء الوحيدات اللواتي نبذتهن عائلاتهن لمجرد رغبتهن في الطلاق؟ يبقين مع زوج لا يحبونه وعلى الأغلب لا يطيقون سماع اسمه أو صوته، وربما يشعرن بالغثيان من رائحته، لأنهن لا يملكن خيارات أخرى.
اللي ميعرفش يقول عدس
أعود مجدداً للفكرة الشائعة التي تقول إن المرأة تحصل على كامل المكاسب في القانون، وأستعيد مسلسل "فاتن أمل حربي" الذي اتهمه البعض بالخطابية. تقول أمي: "اللي ميعرفش يقول عدس". ربما لو شاهدت نفس المسلسل قبل أن أخوض تلك التجربة، لكان لي نفس الرأي. لكنني عرفت الآن أن الواقع أكثر تعقيداً بعد، سواء مع قانون الأحوال الشخصية ومع شيوخ الأزهر من خلال قضايا الطاعة والطلاق والنفقة.
بعد أن هدمت كل أحلامي الوردية في طلاق إنساني، وقررت رفع قضية خلع، فاجأني إنذار طاعة من محكمة الأسرة، ينذرني فيه زوجي بوجوب الدخول في طاعته وإلا أصبح "ناشزاً". كنت أعتقد أن "بيت الطاعة" في الأفلام فقط ولا يوجد في الواقع، لكنني كنت ساذجة كعادتي.
عندما علم المحامي الخاص بي بأمر إنذار الطاعة، تقبل الأمر بسعادة عكس تقبلي له. أخبرني أن إنذار الطاعة يمكّنني من رفع قضية طلاق للشقاق، وأهم ما يميز قضية الطلاق للشقاق أنها لا تحتاج إلى شهود، عكس الطلاق للضرر التي يتوجب فيها على كل طرف إحضار شهود إثبات على ادعاءاته. وما يميز الطلاق للشقاق عن الخلع أن القاضي يمكن أن يحكم للزوجة بالطلاق مع كامل الحقوق أو نصف الحقوق أو بلا حقوق على الإطلاق. عكس قضية الخلع التي لا تعطي للمرأة أي حقوق.
جلسات المحكمين الأزهريين
أسوأ ما كان في قضية الطلاق للشقاق هو جلسات التحكيم من الشيوخ الأزهريين. لم أكن أرغب في مقابلة المحكمين أو الجلوس معهم. شعرت بثقل المقابلة على قلبي، لكن المحامي أخبرني أن المقابلة واجبة ولا يمكن تفويتها لأنها جزء من القضية، وهو لن يقبل أن نخسر القضية بسبب قلقي من المقابلة. تفهّم قلقي وخوفي وهواجسي وأخبرني أن الأمر بسيط والمقابلة لن تستمر طويلاً، لكنني يجب أن ألتزم بالتعليمات التي سيلقنني إياها. وأكد على ذلك.
- ليه عاوزة تتطلقي؟
- مش مرتاحة ومش قادرة اكمل.
- طيب إيه الأسباب؟
- مفيش توافق حضرتك والله
- يعني مفيش أمل تغيري رأيك؟
- لأ حضرتك والله ما فيش أمل.. أنا عاوزة أتطلق والنبي.
كل محاولاته لطمأنتي لم تنجح لأنني كنت أعلم أنني لن ألتزم بالهدوء وضبط النفس وتمثيل المظلومية. نعم هذا هو المطلوب تماماً. تمثيل الانكسار والمظلومية أمام لجنة الصلح الأزهرية، لتوصيل رسالة مفادها أنني امرأة مقهورة ومظلومة، لكي توصي اللجنة لي بكامل حقوقي، ونخرج من المقابلة بأكبر قدر من المكاسب. أعرف دائماً أنني لا ألتزم ولا يمكنني خفض صوتي، ما يتسبب في ضياع حقوقي. طوال الطريق إلى جلسة التحكيم وأنا أقول لنفسي: "كوني هادئة... كوني هادئة".
كنت أظن أنني سأقابل شخصاً واحداً، وأجيب على أسئلة روتينية دون الدخول في التفاصيل، لكنني فوجئت بخمسة شيوخ بعمامات وقفاطين يسألوني عن أدق التفاصيل الشخصية التي تخص علاقتي بزوجي. لم تكن رغبتي في الطلاق كافية لإقناع لجنة الصلح، لكنني كنت ساذجة من جديد.
كان الحدث ضاغطاً بسبب إصرارهم على معرفة أسباب رغبتي الطلاق، مع نظرات اتهام غير معلنة لتصميمي على الطلاق، دون ذكر أسباب مقنعة من وجهة نظر اللجنة. نصائح بالتراجع من أجل مصلحة البنات، وكيف لهن أن يعشن بدون أب وكيف سيؤثر الطلاق عليهن. كانت أسباب مثل عدم التوافق والثقة المفقودة بيننا والاتجاهات المختلفة، أسباباً تافهة من وجهة نظر رجال الأزهر المعممين. التعنيف المعنوي والتقليل من شأني والسخرية من أفكاري والرغبة في السيطرة والتسلط، كلها لم تكن أسباب مقنعة من وجهة نظر لجنة الصلح الأزهرية.
لم تكن اللجنة محايدة لكنها كانت لجنة دينية ذكورية لا يمكن فصلها عن التسلط المجتمعي تجاه المرأة. لجنة لا يوجد بها امرأة واحدة. هناك نساء أزهريات لماذا لا تضم اللجنة امرأة أزهرية يمكن أن أتحدث معها وتكون أكثر تفهماً؟
لم تقتصر المقابلة على الشيوخ الأزهريين فقط، لكن المفاجأة التي لم أكن أتوقعها أنهم جمعوني بزوجي في نفس الغرفة، ليتحدث كل منا إلى الآخر من أجل محاولة الصلح. بمجرد دخوله إلى الغرفة تلاشى كل الهدوء الذي كنت أحاول تقمصه. تذكرت كل الغضب والإهانات والتعنيف والشك. انتفضت واعترضت ورفضت أن أجلس معه في نفس المكان. لم أستطع كبح جماح غضبي ولا خفض صوتي.
انفجر كل الكره الكامن وكل مرار سنواتي المهدرة. انفجر الغضب والذكريات المؤلمة. هل يمكن أن أنفجر بصوت منخفض؟ كيف لي أن أقنّن انفجار الغضب ليتوافق مع رغبة اللجنة في امرأة ضعيفة تبكي دون أن تصدر صوتاً يكسر الهالة الأزهرية. في تلك اللحظات كنت تماماً مثل فاتن أمل حربي. أصرخ بشعارات العدالة والإنصاف والإنسانية. لا تصبح المسألة هنا مجرد شعارات، لكنها تتحول إلى قضية شخصية وطريقة للدفاع عن النفس وإثبات الوجود. اعتقدت وقتها أن صراخي ربما يغير شيئاً.
لم تكن اللجنة محايدة لكنها كانت لجنة دينية ذكورية لا يمكن فصلها عن التسلط المجتمعي تجاه المرأة. لجنة لا يوجد بها امرأة واحدة. هناك نساء أزهريات لماذا لا تضم اللجنة امرأة أزهرية يمكن أن أتحدث معها وتكون أكثر تفهماً؟... مجاز في رصيف22
التزم زوجي بتعليمات المحامي الخاص به، وبدا هادئاً ولطيفاً ومحباً وراغباً في الصلح، لأبدو أنا مثل "أمنا الغولة" التي يخيفون بها الأطفال، ولم يتوقف هو عن تكرار جملة واحدة: "سجل يا شيخ... سجل يا شيخ". يريد من أعضاء اللجنة تسجيل كل كلمة أتفوه بها في محضر الجلسة بداخل التقرير الذي سيرفع للقاضي وعلى أساسه يقرر القاضي حقوقي المالية.
كنت قد نسيت كل شيء. أعضاء اللجنة، وحقوقي المالية ووصايا المحامي، وانفجر من داخلي بركان من البذاءة، حتى أن أحد أعضاء اللجنة قرر الانسحاب غاضباً وراغباً في إنهاء الجلسة. واحد فقط هو من تعاطف معي وحاول تقريب وجهات النظر بيني وبين الآخرين، لكنني كنت أشعر بالظلم. حررني هذا الشعور من الخوف ومن المفروضات. كلما كان الظلم أكثر قسوة كان الغضب أكثر عنفاً وعمقاً. في تلك اللحظة شعرت بالفعل كم أن القانون ظالم. تساءلت لماذا تغضبون من كلامي؟ أنا هنا لأتحدث عما بداخلي. لماذا يحاسبوني على غضبي؟ هل للغضب كتاب ما يجب أن نلتزم به؟
نهاية سعيدة مؤقتاً
اخترق صوتي باب الغرفة المغلق، ليصل إلى ممرات المعهد الأزهري، وإلى محامي الخاص الذي أدرك بالطبع أنني لم ألتزم بوصاياه، قلت لنفسي: لا تهمني الحقوق المادية، يهمني فقط أنني تخلصت من كل الغضب الكامن بداخلي. انفجرت ولم ألتزم بما اعتادوا عليه. أثبتت وجودي وحقي في الاعتراض.
الغريب والمفاجئ أن اللجنة تعاطفت معي في نهاية الأمر. الخمسة شيوخ أوصوا بالتطليق لاستحالة العشرة مع نصف حقوقي. استشعر الرجال صدقي وانفعالي وغضبي، واتفقوا أنني لا يمكن أن أعيش مع هذا الرجل مرة أخرى. أدركوا أن مجرد الفكرة تثير بداخلي الهلع والغضب والخوف.
أخبرني الشيخ الذي كان غاضباً في البداية أنه متفهم موقفي وقادر على إدراك أسباب غضبي، لكنه متحفظ بالطبع على طريقتي في الغضب. وأكد ما يؤكده الجميع أن غضبي وبذاءتي بالتأكيد سوف تفقدني الكثير حتى لو كان الحق معي. أخبرني أنه لمس حساسيتي الشديدة وعدم قدرتي على التأقلم بالفعل دون افتعال. اجتمع الأعضاء على وجوب التطليق ومرروا الدفتر إلى لأوقع على محضر الجلسة ورأي اللجنة النهائي باستحالة العشرة.
يا فرحة ما تمت
كنت أظن أن هذه هي النهاية السعيدة لقصتي المعقدة، لكنني كانت ساذجة للمرة الألف. بعد أن رفعت اللجنة تقريرها للقاضي. حكم القاضي بعدم قبول الدعوة شكلاً. لم أفهم ما المقصود إلا عندما أخبرني المحامي. شرح الأمر لي بطريقة مبسطة، وهو أن القاضي لم يقرأ تاريخ رفع الدعوى ولكنه قرأ تاريخ الجلسة الأولى، والتي كانت بالطبع بعد انقضاء المدة المحددة لرفع الدعوى، وبالتالي رفض القضية من حيث الشكل لمجرد أنه لم يكلف نفسه تدقيق النظر في تاريخ رفع الدعوى. وعادت القضية من جديد بعد الاستئناف لمحكمة الدرجة الأولى، ومازلت أنتظر حتى الآن، بعد مرور سنة ونصف من رفع دعوى الطلاق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت