النادلة: "بشينو بشلومو... ايدربو كيبي معاونوخ!".
أنا: "Jag pratar inte svenska" وتعني لا أتحدث السويدية!
لقنني إياها صديقي السويدي لأرشقها مقابل أي عبارة سويدية تردني.
النادلة باستغراب: "Välkommen.. vad vill du".
من الواضح أنها تتحدث بالسويدية الآن، صحيح أنني لا أجيدها، لكنني متأكد أن العبارة الأولى التي استهلت بها حديثها ليست باللغة السويدية، فتلك اللغة الاسكندنافية الهندية الأصل، لا يمكن أن تنضح بالـ "خاء".
أنا: "عفواً لا أتحدث السويدية". بالإنجليزية أقولها مستسلماً هذه المرة.
فتحدثني بالإنجليزية وننجز معاً مهمة طلب فنجان القهوة الساخن.
أمضي مع شغف تذوق القهوة السويدية، مودعاً النادلة عبر هزّة رأس ممزوجة بارتباك أحجية العبارة الأولى، فترد هي بابتسامة، تركها عناء شرخ اللغة مرتبكةً.
أمضي في شارع Storgatan الشهير، شارع المشاة والشريان التجاري لمدينة سودرتاليا Södertälje.
حرف الخاء مجدداً، يتسللُ إلي عبر ألسنة المارة.
السريانية (الآشورية)، هي اللغة شبه الرسمية في مدينة سودرتاليا جنوب غربي ستوكهولم
لا وسيلة لتبديد ذلك الفضول وحل أحجية اللغة الغريبة إلا عبر الاتصال بصديقي السويدي.
يضحك بسخرية ويقول: "ألم أخبرك..!؟ ستظن أنك في سورية".
هي السريانية (الآشورية)، اللغة شبه الرسمية في مدينة سودرتاليا جنوب غربي ستوكهولم.
يفسر لي ما جرى في محل القهوة: "قالت لك بالسريانية أهلا وسهلاً، كيف يمكنني مساعدتك؟".
وأستغرب كيف تحدثني بالسريانية قبل السويدية، فيجيب صديقي: "نعم لأن ملامح وجهك عربية".
رائحةُ وطن فواحة
استحقت سودرتاليا الكأس الذهبية في ماراتون عبارة: "ستشعر كأنك في البلد"، تلك العبارة التي تُلقى على مسامعنا في كل زيارة لصديق عربي في أي دولة أوروبية يأخذنا في الساعات الأولى للزيارة إلى التكتل العربي الذي احتل بقعة من بلده، ليمنحنا من خلالها فسحة (بلدية).
لكن في سودرتاليا، الوضع مختلف، لن تجد صعوبة إذا اقتصرت مهاراتك اللغوية على العربية أو السريانية (الآشورية)، كما لو أنك في سورية حقاً، أو بالأحرى كما لو أنك في القامشلي والحسكة، المحافظتان الشماليتان-الشرقيتان اللتان يسكنهما المسيحيون الآشوريون.
"ستشعر كأنك في البلد"، العبارة التي تُلقى على مسامعنا عند كل زيارة لصديق عربي في أي دولة أوروبية، فيأخذنا في الساعات الأولى للزيارة إلى التكتل العربي الذي احتل بقعة من هذه الدولة، ليمنحنا فسحة (بلدية).
ليسوا سوريين فحسب، إنهم عراقيون وأتراك انضووا تحت تكتل السريان في سودرتاليا أكبر تجمع سرياني في أوروبا.
يقول غابرييل حنا (36 عاماً) سويدي من أصول سورية لرصيف22: "عائلتي سكنت سودرتاليا منذ عشرات السنين، وأنا هاجرت إليها في بداية الحرب السورية، ونشكل هنا تجمعاً سريانياً كبيراً نعيش من خلاله حياة اجتماعية لم تعد موجودة في مدينتي القامشلي السورية، كما نحيي طقوسنا الآشورية وأعيادنا الخاصة".
يعمل غابرييل في شركة (سكانيا) العالمية لصناعة السيارات، وهي تأخذ من سودرتاليا مقراً لأكبر تجمع لها ولمتحفها، ويضيف: "يطلق على المدينة اسم عاصمة الآشوريين لكثرة السريان فيها، الأمر الذي جعلها نقطة استقطاب لجميع السريان حول العالم، خاصة من سورية والعراق وتركيا".
ويتابع "عندما توفر لك بلاد الغربة مستقبلاً وعملاً جيداً، وتخلق لك مجتمعاً يستوعب عاداتك وطقوسك، تصبح هذه البلاد بالنسبة لك وطناً". هكذا يصِف غابرييل السويد ومدينته سودرتاليا. ويضيف: "الحنين إلى القامشلي وسورية لا يزول، فهو مرتبط بالذاكرة وأيام الطفولة التي لا يمكن أن تفقد بريقها، لكننا نتابع ما يجري هناك الآن، لذلك تبددت أحلام العودة، ولم يبق لنا هناك سوى العالقون في الداخل السوري والذين نسعى لجلبهم إلى هنا".
جذور كلدانية!
على قناة سودرتاليا المائية التي تصل بحر البلطيق ببحيرة Mälaren، ووسط عدد كبير من الأماكن السياحية، تقع عاصمة السريان كما أسموها، ولا توجد إحصائية رسمية لعددهم في السويد، لأن هيئة الإحصاء السويدية لا تجمع بيانات عن العرق، لكن بحسب إحصائيات غير رسمية قُدّر عدد الآشوريين السوريين عام 2018 في السويد بنحو 120-150 ألفاً، وبحسب تقارير إعلامية يسكن سودرتاليا أكثر من 90 ألفاً ثلثهم من المسيحيين الآشوريين.
تأسس الاتحاد الآشوري في السويد (AFS) في عام 1977 كمنظمة مظلة وطنية لمختلف الجمعيات المحلية في السويد، ومهمته الحفاظ على اللغة والثقافة السريانيتين، وبعد تأسيسه بعام أصدر مجلة Hujådå، أول مجلة آشورية في السويد ناطقة بالسريانية والعربية والتركية والسويدية.
مدارس، مراكز ثقافية، وسائل إعلامية ناطقة بالسريانية، وغيرها من المحلات والمطاعم التي تقدم الأطباق العربية والشرقية، خصوصاً في المناسبات الخاصة بالسريان مثل أعياد الميلاد والفصح ورأس السنة السورية.
تأسس الاتحاد الآشوري في السويد (AFS) عام 1977 كمنظمة وطنية لمختلف الجمعيات المحلية، ومهمته الحفاظ على اللغة والثقافة السريانيتين، وبعد تأسيسه أصدر مجلة Hujådå، أول مجلة آشورية في السويد باللغات السريانية والعربية والتركية والسويدية.
نور جبرو (40 عاماً) سويدية من أصول عراقية تعيش في سودرتاليا منذ 10 أعوام مع عائلتها، وتعمل في مطعم عربي مع زوجها يقدمان فيه الوجبات السريعة لكن على الطريقة العربية، تقول لرصيف22: "عدد الزبائن الذين أتحدث معهم بالسويدية لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، صحيح أننا نلقي التحية والسلام بالسويدية، لكن معظم أحاديثنا تكون بالسريانية.. لقد أتينا من بلاد ما بين النهرين وأحضرنا كل شيء معنا من هناك".
تضيف جبرو وهي أم لطفلين: "أولادي يدرسون في مدارس آشورية، وأبي وأمي يذهبان مرتين في الأسبوع إلى الكنيسة للاجتماع مع أبناء الرعية، وإن لم يرغبا بذلك، فبإمكانهما التنزه في سوق سودرتاليا وتبادل الأحاديث مع المارة، فالجو الاجتماعي في المدينة أشبه بأجواء الألفة في القرى".
تحرص جبرو على ترسيخ الثقافة والقومية السريانيتين لدى أطفالها عبر إشراكهم بالمؤسسات التربوية السريانية، والكنيسة التي تحتضن العديد من النشاطات، وتقول: "تقدم لنا الكنيسة نشاطات تربوية وترفيهية مثل الكشاف والكورال ورحلات التخييم، والجميل هنا أننا كلنا نشارك فيها، الأهل مع الأولاد، إضافة لما تقدمه الكنيسة من تكافل وتعاون بين السريان خصوصاً في أوقات الحزن وفي الأعياد".
يا بيتنا الخلف الضباب
جالساً على ضفاف البحيرة، أسأل نفسي: "أين هدوء هذه البلاد الذي يتحدثون عنه!؟".
لم أرَ أناساً معجونين ببرودة طقس هذه الأرض كما يقولون، بل رأيت مدينة تعج بالحياة، وحياة اجتماعية صاخبة تفتقدها اليوم أحياء دمشق.
يخترق لحظات التأمل موال جبلي "يا بيتنا الخلف الضباب" بصوت رخيم ينال علامة الـ"طربية".
ظننت أني تخيلت ذلك، وقد انتابتني مشاعر طيبة من شدة تأثري بمحاكاة مدينة سودرتاليا للبيئات العربية.
أسير إلى الأمام، وإذا بالصوت يعلو، هي ليست مخيلتي إذاً. هو حفل فني في مطعم عربي للفنان السوري جان خليل المقيم في السويد، أسترق النظر من النافذة، لتتحول نافذة مطعم "مسوح" إلى نافذة على سهرات ليالي دمشق أو بيروت بكل مكوناتها، حتى مخالفة القانون –سمة معظم العرب- حاضرة، فلا أحد يلتزم بقرار منع التدخين في الداخل.
الكل ضحية فواصل من طرب شرقي أصيل، وكلٌ يسافر إلى ماضيه في الوطن على متن لحن وموال وطبق مازة بزيت بلديّ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.