في مدرسة ثانوية للفتيات، لم يتورع الناظر الحازم أن يقف في الطابور صباحاً ليعزي الفتيات اللاتي اتشحن بالسواد، ويحثهم على الصبر، وأن عبد الحليم في الجنة إن شاء الله بشفاعة مرضه له. تكرر المشهد في كل مدارس مصر تقريباً، وكل شوارعها، بكاه الجميع بحرقه حقيقية كأنهم فقدوا عزيزاً من أسرتهم وليس فناناً مشهوراً. ترددت الأخبار عن الفتيات اللواتي قررن أن ينهين حياتهم بعد أن سمعن بخبر موت عبد الحليم. حتى الشباب الذين اعتادوا السخرية من الفتيات لشدة تعلقهم به في حياته غالبتهم دموعهم يوم جنازته.
تحكي لي أمي عن "فكرة عبد الحليم" منذ أن كنت طفلة. تردد أنه كان طبيعياً أن تحبه كل الفتيات وأن يلتزمن بالحداد عليه. حليم كان أنشودة الحب الضائع، فتى في وجهه ألفة غريبة تجعله يشبه أي فرد من أفراد أي أسرة مصرية.
عبد الحليم هو اليتيم الذي قرر أن يتبناه الجميع، كأنه قرار جماعي ترسخ في العقل اللاوعي. ربما هذا الحب وهذا الشعور بالمسؤولية تجاهه كانا السبب أن تجسيده في أي عمل فني كان دائماً قراراً صعباً
حب لا يموت
في ذكرى وفاته من هذا العام كنت قد قررت أن أذهب لزيارة منزله الذي يفتح عادةً مرتين في السنة؛ مرة في ذكرى وفاته، ومرة في ذكرى ميلاده. استيقظت صباحاً لأجد صوته قادماً من العدم يغني: "على قد الشوق اللي في عيوني يا جميل سلم..." كلما كنت أتبع الصوت كان يهرب بعيداً، وكلما استسلمت وجدته يقترب في ألفة حتى أنهي أغنيته. تحت منزله، يخبرني البواب أن المنزل لم يفتح منذ بداية جائحة الكورونا: "كله مشي النهارده دمعته على خده والله يا أبلة، ده فيه ناس جاية من برا كمان وما دخلوش".
أثناء تلكعي أمام المبنى أجد رواداً آخرين يتوافدون، كمريدين يزورون ضريح وليّ. واجب عليهم زيارته مرتين في العام. أسأل البواب إن كان من الممكن أن أرى فقط الدور الذي تقع فيه الشقة لأقرأ الرسائل المكتوبة على الحائط. يؤكد لي البواب: "لا يا أبلة ماحدش بيمسحهم أبداً حتى الشقة زي ماهي".
"الله يرحمك يا عبد الحليم، حبي الضائع..."، "نفسي تكون معايا دلوقتي وحاسس بيا"، "في الجنة يا حليم.."، "إلى أعز مخلوق، إلى أعز إنسان..."، "حبيبي حليم، كلنا بنحبك"
كانت مطاردة هذه الرسائل بالنسبة لي، مطاردة لذكرى، لحكاية حكتها لي أمي وكثيرات من جيلها عن المعجبات والمعجبين، الذين يزورون المنزل كل عام ويتركوا له رسائل على الحائط. أمي التي لم تزر المنزل قط كانت تصفه بدقة شديدة كأنها توافدت عليه على الأقل 10 مرات. تحكي على الرسائل، سيارته في الجراج، الانتر كم القديم في بهو المبنى، ملابسه داخل المنزل المصنفة تحت كل فيلم مثل فيه، وأسطواناته الخاصة ورسائله، وموضع رأسه على السرير. نقلت لي الصورة بدقة شديدة، وزيارة منزله بالنسبة لي كان كالتحقق من حلم قديم راودني، وأردت التأكد من مطابقته للواقع.
في الدور السابع من المبنى يزدحم الحائط برسائل حب صادقة من سنوات مختلفة، كتبت على مدار خمس وأربعين عاماً.
رسائل حب غير مشروط، كتبها محبوه للتأكيد على استمرار حبهم له. رسائل مثل: "الله يرحمك يا عبد الحليم، حبي الضائع..."، "نفسي تكون معايا دلوقتي وحاسس بيا"، "في الجنة يا حليم.."، "إلى أعز مخلوق، إلى أعز إنسان..."، "حبيبي حليم، كلنا بنحبك".
رسائل وقع أسفلها أو بجانبها من كتبها، نساء ورجال، منهم من ولد أصلاً بعد وفاته.
حب عبد الحليم كان يجري مثل نهر رائق عبر الأجيال، ينتقل من جيل لجيل، كثر من جيلي أجدهم يحترمون ويحبون ويقدرون عبد الحليم، ليس المغني أو الفنان في حد ذاته، لكن عبد الحليم كفكرة، كنوع من أنواع الولاء لأهلهم، كأن حبه مساحة آمنة للقاء معهم، وللدخول لذكرياتهم بهدوء.
لطالما استوقفني كثيراً سؤال: لماذا عبد الحليم؟ لم يكن المغني الأكثر طرباً في وقته، ولا أغانيه الأكثر تأثيراً، هناك من عاصروه ربما يمتاز صوتهم وكلماتهم عنه. لكن في حياة عبد الحليم ما يثير التعاطف. ربما شبهه الكبير بأي شاب في أي أسرة متوسطة، لا شيء مميز في ملامحه، لكن به قطعاً شجناً وطيبة واضحتين.
كان يشبه الفرد الأصغر سناً في العائلة الذي ولد بمرض عضال، فتوجب على كل الأسرة أن تحبه وترعاه أكثر من بقية أفرادها. كان غالباً ما يتحدث بصوت هادئ، متعب أحياناً، وأحياناً خجِل. تكاثرت في حياته وفي مماته قصص وشائعات حول حياته العاطفية لم يؤكدها بنفسه على العلن، جعلت منه مخلصاً لكل محباته. كان يغني للحب بدون فلسفة، كلام بسيط يفهمه الجميع.
لماذا عبد الحليم؟ لم يكن المغني الأكثر طرباً في وقته، ولا أغانيه الأكثر تأثيراً، هناك من عاصروه ربما يمتاز صوتهم وكلماتهم عنه
ألحان هادئة يستطيع أن يدندنها الكل. حتى عندما غنى للنكسة، كان في صوته حزن صادق. يمثل دور الفتى الذي يلعب بمشاعر الفتيات فلا يمكنك أن تأخذه على محمل الجد، كأنه لا يستطيع أن يكسر قلب أحد إلا بموته، لكن قطعاً يمكنك تصديقه إن لعب دور المعذب في الحب، الحب بلا أمل. الفقير الذي وصل بعد معاناه شديدة، لكنه ليس الطفل الذي ولد بملعقة ذهب.
أتأكد من البواب: "الناس لسه بتيجي كل سنة يا أحمد؟".
"آه طبعاً يا أبلة، لسه بيجوا زي ماهم ما بينقصوش، ومن كل حتة ومن كل محافظة وحتى من بلاد برا".
بلا آباء
عبد الحليم هو اليتيم الذي قرر أن يتبناه الجميع، كأنه قرار جماعي ترسخ في العقل اللاوعي لكل من تحدث لغته. ربما هذا الحب وهذا الشعور بالمسؤولية تجاهه كانا السبب أن تجسيده في أي عمل فني كان دائماً قراراً صعباً، ولن يتقبله أحد، إلى أن قام بتجسيده شخص يقاربه في المعزة الشعبية ومعاناة المرض كأحمد زكي. حليم بالنسبة للجيل الذي عاصره هو الذاكرة الجمعية لهم.
بسؤال أي أحد ممن عاصروه عن يوم وفاته سيردد نفس الشهادة. لن تختلف بأي شكل من الأشكال. لذلك شكلت رواية حياة عبد الحليم وعرض المعلومات التي قد لا تكون معروفة للجمهور الذي عاصره نوعاً من أنواع التجني على ذاكرتهم، على شهادتهم على حياته، كأنها انتقاص من حبهم له واهتمامهم به.
كان أملاً في الحب لجيل كامل، وبوفاته انتهت كل الآمال في وجوده كما صوره لهم. ليس المغني "العاطفي" الوحيد في وقته، ولا بعده، لكنه جسد الأمل الوحيد للعثور عليه. قبل أن أغادر ألمح أخرى كتبت على الحائط من سنوات قريبة جداً: "عبد الحليم حافظ، أنت حلم حياتي وأنا صغيرة وما زلت مُحبتك".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...