في 21 يونيو 1929، بقرية الحلوات التابعة لمحافظة الشرقية، وضعت الأم ابنها وماتت، تركته في مواجهة نساء غاضبات، يجزمن بأن المولود نحس ويجب التخلص منه، ويتفقن على أن يرضع من ضرع أمه الميتة فيموت.
إنها طقوس القضاء على النحس. غير أن الأخ الأكبر (إسماعيل شبانة) يعي ما يحاك ضد أخيه، فيخطف المولود ويختبئ به فوق سطح المنزل، ويأتي الأب ويعرف بما حدث فيعلن أنه سوف يسخر نفسه لرعاية ابنه. ولكن يموت الأب بعد ثلاثة أشهر. وتنتشر بين الجميع قناعة بأن هذا المولود لعنة.
لم يكن هذا المولود غير عبد الحليم شبانة الذي اشتهر بعبد الحليم حافظ أو العندليب الأسمر الذي توفي في 30 مارس 1977، والذي عرف اليتم يوم خرج للحياة، وفقد الأب قبل أن يدرك معني الكلمة.
ولكن القدر ساق له ثلاثة آباء كان لهم الأثر الأكبر في حياته الخاصة والفنية.
الحاج متولي
لم يستبشر أحد بالطفل المولود غير خاله الحاج متولي الذي أيقن أنه قدم السعد. الحاج متولي موظف حكومي دفعه سوء الحظ لأن يتعين في الصعيد وهو الذي كان يعيش في الزقازيق. وظل لسنوات يتمني أن تحدث معجزة تبدل حاله، وإذ بالمعجزة تتحقق حين يطل على عبد الحليم لأول مرة.
في هذا اليوم وصلته الترقية التي لطالما انتظرها، والتي بفضلها انتقل من عمله في الصعيد إلى الزقازيق. تفاءل الخال بعبد الحليم فتكفل به وبإخوته أيضاً، علياء وإسماعيل، لمدة 16 عاماً. امتنع عن الزواج حتى يتمكن من إعالة الأسرة، فكان مصداقاً للمثل المصري "الخال والد".
واعتنى بعبد الحليم على نحو خاص فهو صاحب المعجزة، وكان يصطحبه معه إلى كل مكان كان يذهب إليه، حين يجلس على المقاهي أو يزور أصدقائه.
وكان للحاج متولي صديق يدعى "عبد الحي" وكان هذا الصديق يعمل في بلدية الموسيقي (مراكز ثقافية حكومية تنشر الموسيقى في المحافظات). يقول "الحاج متولي" في حوار مسجل مع الإعلامي أسامة النجار: "عبد الحي هو أول من اكتشف مواهب عبد الحليم الموسيقية، وحين تأكد بأن الطفل موهوب قدمه لـ"محمد أفندي ندا" الذي أعجب به وأخذ على عاتقه مهمة تدريسه الموسيقى.
وكان "ندا" وقتها يعمل مدرساً موسيقياً بملجأ الحلوات التابع للقرية، وهناك تعلم عبد الحليم الموسيقى. ولكن بعض الحاقدين قدموا شكوى ضد "ندا" لسماحه بالتدريس لمن هم خارج الملجأ، فلم يجد وسيلة غير إلحاق عبد الحليم بالملجأ كي يتمكن من مواصلة دراسته.
وبالفعل استمر عبد الحليم في دراسة الموسيقى حتى تخرج من المعهد العالي للموسيقى قسم التلحين.
أما إسماعيل شبانة الأخ الأكبر فقد أجاد الغناء أيضاً ودرس الموسيقى، وكان مُطرباً مسجلاً بالإذاعة، وله وصلة غنائية. وهو من مهد الطريق أمام عبد الحليم للالتحاق بالإذاعة كعازف على "الأبوا"، وهي آلة نفخ تشبه الناي، ضمن فرقة الإذاعة.
الأب الروحي
لكل فنان عرّابه، أب روحي يدعمه ويساعده ويرعاه، وعبد الوهاب حافظ هو عراب عبد الحليم وأبوه الروحي، والعلاقة بين الاثنين بدأت مصادفة.
عبد الوهاب حافظ كان مدير الموسيقى بالإذاعة. سقط في ورطة حين تأخر المطرب "إبراهيم حمودة" عن تقديم وصلته الغنائية. لا بد أن يشغل وقت الأغنية وإلا توقف البث وتعرض للمحاسبة. فماذا يفعل؟ ساقه القدر إلى غرفة العازفين، وهناك سأل: "حد فيكم يعرف يغني؟" انتصب حليم واقفاً: "أنا أغني".
يقول عبد الوهاب حافظ في حوار أجراه معه سمير صبري: "وغنى! فإذ بهذا الصوت يلفت أذني! لأول مرة بسمعه آمنت أنه صوت سليم، صوت حلو، صوت أخاذ، قادر على الأداء كويس أوي". ولكن، قبل البث بدقائق حضر "حمودة" فطارت منه الفرصة.
غير أن عبد الوهاب حافظ قدم له فرصة جديدة حين ألقى عليه كمال طويل قصيدة "لقاء"، فاقترح أن يقوم الطويل بالتلحين وشبانة بالغناء، لتكون قصيدة "لقاء" أول أغنية لعبد الحليم بالإذاعة.
بعدها قدم عبد الحليم أغنية "يا حلو يا أسمر" من ألحان محمد الموجي وكلمات سمير محجوب، ثم اقترح عليه عبد الوهاب حافظ أن يشارك في اختبارات الإذاعة، وكانت الإذاعة وقتها، في عام 1951، هي الشهادة المعتمدة والرسمية بكونك مطرباً حقيقياً، استطعت أن تنال إعجاب اللجنة التي كان يشرف عليها "أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، والقصبجي".
وكان لا بد من اختيار اسم يحمله، فلم يجد غير "حافظ"، الأب الروحي الذي اكتشف عبد الحليم المطرب فمنحه محبته واسمه، ليتحول من عبد الحليم شبانة إلى عبد الحليم حافظ، ومن عازف أبوا إلى مطرب.
كيف دشّن عظماء الغناء ميلاد مطرب جديد هو عبد الحليم حافظ؟ القصة الكاملة
قصّة نشأة عبد الحليم حافظ المثيرة للاهتمام، وقصة تحوّله إلى الغناء، وحقيقة امتلاكه لثلاث آباء، لا واحد
شارك عبدالحليم في اختبارات الإذاعة، فأشادت به أم كلثوم قائلة: "دا ولد هيكون له مستقبل" أما محمد عبد الوهاب فقد رأى فيه استثماراً جيداً، فعبد الوهاب لم يكن ملحناً ومطرباً وممثلاً فحسب بل منتجاً أيضاً، وحاول أن يحتكر صوت عبد الحليم، ويقدمه كمفاجأة في فيلم من إنتاجه.
بتلك الطريقة دشن عظماء الطرب ميلاد مطرب جديد يحمل لقب الأب الروحي "عبد الحليم حافظ".
الثورة... الأب الثالث
عبد الحليم ابن الثورة. هكذا لقبه جمال عبد الناصر في أول لقاء جمعه به في مقر مركز قيادة الثورة بالجزيرة، وهي اللحظة التي وثقها عبد الحليم في مذكراته، لحظة إعلانه ابناً للثورة في جلسة مع صلاح سالم وأنور السادات ومجلس الثورة. تنصيب رسمي، وميلاد جديد.
غنى عبد الحليم أول أغنية للثورة عام 1953 من كلمات مأمون الشناوي، وألحان رؤوف ذهني تحت عنوان "ثورتنا الوطنية".
بعدها جاء القرار بتأميم قناة السويس، فغنى عبد الحليم "مطالب الشعب" من كلمات أحمد شفيق كامل ومن ألحان كمال الطويل، وهي أول أغنية يُذكر فيها اسم "ناصر".
وقال الموسيقار أنس عبد الرحمن، عضو نقابة الموسيقين وعازف آلة الأبوا والحاصل على دكتوراة في "تطور الأغنية بعد الثورة"، لرصيف22 إن "الفنان فنان سواء غنى اللون العاطفي أو الوطني، وحليم عظيم في كل الأحوال، ولكن ما يؤخذ عليه إعجابه بعبد الناصر. حليم ابن الثورة، وكان مؤمناً أن الثورة تعني الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وبين عبد الناصر وحليم صداقة وعلاقة أبوة فعلاً".
وأضاف: "كان عبد الناصر يعرب عن محبته له دائماً فشاع بين الناس أنه الفتى المدلل للسلطة. حتى في مشاحنات حليم مع غيره من الفنانين مثل أم كلثوم وفريد الأطرش كان عبد الناصر يتدخل بنفسه لإنهاء الأمر".
وتابع: لكن على صعيد أعمق فإن حليم استطاع بأغانيه الوطنية التي بلغت 67 أغنية أن يوثق لحال الوطن من الثورة إلى نصر أكتوبر. لم يترك مناسبة وطنية إلا وغنى لها، في العدوان الثلاثي غنى "فدائي"، ووقت بناء السد غنى "حكاية شعب"، حتى وقت النكسة غنى "عدى النهار"، وعند نصر أكتوبر غنى "ابنك يقولك يا بطل".
وختم: "حليم لم يكن ابن الثورة ولو غنى لها، وليس ابناً لعبد الناصر وإن أحبه بصدق، إنما حليم صوت الشعب ونبضه، وإذا كان حليم ابناً لأحد فهو ابن هذا الشعب الذي أحبه وعشق أغانيه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون