شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
كيف استطاع عبد الحليم حافظ ترويج نفسه قبل اختراع السوشيال ميديا؟

كيف استطاع عبد الحليم حافظ ترويج نفسه قبل اختراع السوشيال ميديا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 1 أبريل 201905:19 م

رجل علاقات بامتياز قبل أن يلفت أداؤه الغنائي إليه القلب قبل العين.. ربما لو حللت صوته ستجده أقل مساحة وقدرة على تنفيذ المطلوب منه صعودًا وهبوطًا من علي الحجار ومحمد الحلو ومدحت صالح.. لكن مكره يساوي، إن لم يكن يفوق، مكر السياسيين المهرة أصحاب الخبرات و"المرمطة".. قال لي أحد الشعراء الحقيقيين المغمورين، حين كنا نتكلم عن عبقرية نجيب محفوظ، إن "نجيب" أذكى واحد في مصر بعد عبد الحليم حافظ..

لا يمكن الفصل بين "عبد الحليم الصوت" و"عبد الحليم الذكاء"، ربما هي فطرة وقدرة الوحيد على اختزال العالم في نطق كلمة بطريقة أخاذة أو لمسة يد مفعمة بالعاطفة والتأثير أو نظرة عين مكسورة تملك من يقع في حيزها أو مجاملة بها يهرب في الوقت المناسب أو يهاجم وقت امتلاك أسلحة كافية للانتصار.

هذا الكر والفر لا يجيده إلا المحاربون القدامى، الذين أنهكتهم ساحات المعارك، لكن من أين لهذه القدرات أن يجيدها شاب نحيل أتى من الريف المصري وهو قبل سن العشرين؟

سجل حليم في نوتة خاصة تواريخ أعياد ميلاد أغلب الصحفيين، ليرسل لهم هدايا بالمناسبة، هنا يمكنك فتح القلوب عن بعد، وربما التأثير عليها وهي تقيم أغنياتك وتتابع أخبارك، هذا يضعك في بؤرة الضوء كما وضعت أنت تفاصيلهم الصغيرة في بؤرة إدارتك لموهبتك.

لا أظن أن عبد الحليم تعلم ذلك في مؤسسة أسرته، فقد قضى طفولته يتيم أب وأم وعاش في ملجأ حياة قاسية، حتى علاقته بأخيه الأكبر، المطرب المميز إسماعيل شبانة، لم تكن علاقة معلم بتلميذ، لأن "إسماعيل" نفسه كان محتاجًا لمن يعلمه هذه المهارات لينجح.. إذن عبد الحليم مكتشف لأساليب المكر في ذاته بذاته، لم يعلمه أحد إلا الوحدة، حياة المرض واليتم والاغتراب والإحساس المتعاظم بأنك قوي جدًا وستطوّع العالم لقدراتك إن أتيحت لك الفرصة، والحقيقة أن الفرص أتت عبد الحليم راكعة كما خطط هو، ربما أساء تقدير قوته في معركتين طوال حياته، الأولى عندما حاول مناطحة أم كلثوم بمداعبة فهمتها الست، المكارة هي الأخرى، في حفل مشترك في وجود عبد الناصر، حيث تعمدت الست إطالة فقرتها لتزيح حليم إلى آخر الحفل فيغني فجرًا بعد أن يكون الجميع قد أنهك وتخدّر من أحبال أم كلثوم وتكراراتها المسلطنة، تلك التي لا يمكن لحنجرته مجاراتها، فاستل سيف مكره وأعطى كتفًا لأم كلثوم على الملأ لكنها ردت له الكتف برفسة فرس كادت أن توقفه عن الغناء بأمر سياسي لولا اعتذر وانسحب بمرونة دبلوماسية ومناورة حان وقتها، أما المرة الثانية التي خانته فيها قوته، هي معركة المرض التي كانت تجرى رحاها هذه المرة داخل أرض جسده، وهنا انهار أمام خيانة الكبد..

مثل العندليب لا يقع فريسة إلا بخيانة الأشجار له..


دانت لعبد الحليم ظروف كثيرة، منها من تدبيره ومنها من تدبير القدر، فقد أزاح مطربين من طريقه كادوا يشكلون خطرًا عليه لو استمروا في العمل الغنائي، كمال حسني مثالًا، ذاك الذي شابهه شكلًا وصوتًا بالإضافة إلى دعم لحني من الموجي، لكنه لم يشبهه في دماغه وتخطيطه، فانسحب الضعيف تاركًا لعبد الحليم المجال ليضيئ أكثر، كما أزاح محمد رشدي بشكل نسبي بنزع أسلحته المهمة كالأبنودي وبليغ حمدي، أما تلك الظروف التي أهداه إياها القدر، فكان انسحاب عبد الوهاب، أهم مطرب عربي من ساحة الغناء، فلم يعد يظهر للجمهور نتيجة كبر سنه ووعيه بأن الزمن قد اختلف شكلًا وموضوعًا في خمسينيات القرن العشرين.

ماذا لو سحبنا سلاح الحسابات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك- تويتر- إنستجرام- يوتيوب) من نجوم هذا الزمن، هل سيحظون بسطوة الانتشار والمتابعة بهذا الزخم الذي نشهده؟ هل سنعرف عنهم متى استيقظوا ومتى تزوجوا وكيف، وما هي أسرارهم التي يتهافت عليها كل موقع إخباري وكل حساب على منظومة مواقع التواصل، بل وينعمون بمشاهدات مليونية على "يوتيوب" تمنحهم قدرة التخلي عن أي وسيلة إعلام أخرى.

أما عبد الحليم فقد أسس هو بنفسه ولنفسه منظومة تسويقية كاملة وإدارات متابعة واختيار فنية ومالية، وإدارة علاقات عامة واستقطاب الأحباب والأعداء أيضًا، فهو لا يريد أن يُفلت منه أي رأي يفيد مشواره وتجربته، فلماذا يخسر جلال البنداري، الناقد الفني الأشهر، لذا جلس وخطط وأحكم قبضته على الخطة بمساعدة صديقه مصطفى أمين، أراد أن يجري البنداري معه حوارًا على أن يكون الحوار في مكتب مصطفى أمين.. عبد الحليم يعرف أن البنداري لا يحب صوته ويفضل عبد الوهاب، وعبد الحليم يعلم أن البنداري سليط اللسان، لكنه بكل تأكيد سيعتبر في وجود مصطفى أمين ولن يسب عبد الحليم أو يحط من شأنه، فجرى الحوار، بعد أن اشترط البنداري أن تكون أسئلته مكتوبة وليست منطوقة لأنه بحكم الخبرة "فقس خطة العندليب":

البنداري: "إنت جايبني في مكتب مصطفى أمين عشان ماشتمكش يا ابن الـ....؟"

عبد الحليم: "أنا اتولدت في قرية الحلوات بمحافظة الشرقية…".

أعتى العتاة لا يملك هذا الثبات الانفعالي، كأن عبد الحليم تم تدريبه في جهاز استخبارات على مهارات الجواسيس وابتساماتهم الباردة وهم يُشتمون بالأم والأب.

 مكر عبد الحليم يساوي، إن لم يكن يفوق، مكر السياسيين المهرة أصحاب الخبرات و"المرمطة".. قال لي أحد الشعراء، حين كنا نتكلم عن عبقرية نجيب محفوظ، إن "نجيب" أذكى واحد في مصر بعد عبد الحليم حافظ.

سجل حليم في نوتة خاصة تواريخ أعياد ميلاد أغلب الصحفيين، ليرسل لهم هدايا بالمناسبة، هنا يمكنك فتح القلوب عن بعد، وربما التأثير عليها وهي تقيم أغنياتك وتتابع أخبارك.

لن نقف بالتأكيد، بعد مرور 42 سنة على رحيل عبد الحليم، لتحليل مشروعه الغنائي، لكن الاختيار أوقفنا عند إدارة عبد الحليم لموهبته، إدارة تكاد تكون علمية، فكثير ممن عاصروه كانوا أكثر منه قوة صوتية وموهبة، لكنه تفرد وأغنى تجربته بالذكاء الإداري.

لن نقف بالتأكيد، بعد مرور 42 سنة على رحيل عبد الحليم، لتحليل مشروعه الغنائي، فهو مؤكد جماهيريًا وصعب التحليل، لكن الاختيار أوقفنا عند إدارة عبد الحليم لموهبته، إدارة تكاد تكون علمية، فكثير ممن عاصروه كانوا أكثر منه قوة صوتية وموهبة، لكنه تفرد وأغنى تجربته بالذكاء الإداري، ليس فقط لقربه من السلطة السياسية، فالجميع تساووا في هذا تقريبًا، لكن أن تدير الموهبة بشكل سابق للزمن فإن هذا ما يجعلك تتحوّل إلى مؤسسة عابرة للمنافسين، لذا تتكون أسطورة عبد الحليم كما تكونت أسطورة عبد الوهاب، لم يقلد أي منهما أحدًا في إدارة موهبته، هما يعلمان أنهما بلا ذكاء سيتم محوهما تمامًا، أو على الأقل سيبقيان كالآخرين، فالموهبة عادة في كل زمان ومكان لا تكفي ولا تحمي أصحابها بكل أسف.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image