تعتبر إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة واحدة من أهم إدارات وزارة الدفاع المصرية، وكانت تعرف سابقاً في مصر باسم "إدارة التوجيه المعنوي"، ولعبت أدواراً ذات حضور إعلامي ونفسي قوي، بداية من نكسة 67، حيث إنتاجها للنشرات، الأفلام الوثائقية والسينمائية، حتى اجتياحها خط الإنتاج الدرامي، الذي ما زال حاضراً حتى يومنا هذا.
لاحظنا مؤخراً أن تلك الأعمال الدرامية ذات الحسّ القومي، الموجه للعداء إلى إسرائيل، والتي تقف خلفها الأجهزة المصرية، تم استبدالها بجماعات دينية معارضة، أبرزهم الإخوان.
تساءلت: ما الذي تغير في الأجندة الوطنية وعقيدة الجيش؟ وكيف غاب عن شاشتنا "إسرائيل" العدو الأول، وحل محله أعداء داخليون يشاركونا الهوية والوطن والدين.
تلاشت تدريجياً صورة الضباط والعملاء المصريين الذين يواجهون نظراءهم الإسرائيليين، بكل ما تحمله من معاني الوطنية والقومية، وحلت محلها صورة لضباط كنا نراهم في أفلام زمان، يجسدون جانباً فاسداً وقمعياً
يقول الناقد الدكتور، سامح اميل: "نعم الأجندة اختلفت، وأصبح ملف الإرهاب والجماعات الإسلامية (الإخوان) أولوية لو وضعناها بجانب الملف الاسرائيلي، لأن العقد الاخير من تاريخ مصر لم يذكر فيه أي صراع مع إسرائيل، بل كان الصراع داخلياً وواضحاً (الإرهاب الداخلي)، وحكم الإخوان وذيوله".
ويرى سامح أن هذا التحول "طبيعي"، فـ"من يكتب التاريخ ويرويه هو الجانب المنتصر"، و"الدراما جزء من الواقع، ومرآة له، والواقع اليوم وضع علامات على عدو جديد، وبالتالي توظيفه في الدراما أمر طبيعي، لأنها في الأول والآخر أعمال تجارية، وضرورة نجاحها وتحقيق إيراداتها متعلق بشكل وثيق بمحاكاة ما عايشه ويعيشه الشعب"، بحسب سامح.
أنت العدو ربما
بالعودة إلى مسلسلات وأفلام الجاسوسية، تلفت منار شريف، صحفية وكاتبة في مجال الفن، إلى أنها كانت "موجهة ودعاية لنفي الموافقة على التطبيع، والترويج لوطنية الرؤساء".
"بلغت دراما الجاسوسية ذروتها في الثمانينيات، أي في عزّ معاهدات السلام، في فترة بداية ولادة التطبيع الذي تسبب بصدمة كبيرة جداً للمواطن العربي الوطني"، توضح: "الدولة من الداخل في غرف صالوناتها السياسية تمارس التطبيع، وفي الخارج وأمام الرأي العام تسحق الكيان الإسرائيلي، وتحاربه بكل طاقتها، لذلك اجتهدت بشكل كبير في صناعة سيناريوهات تمجّد صورتها في ذهن المواطن المصدوم، فدعمت المخابرات بنفسها هذه الأعمال، وتعاقدت بشكل مباشر مع الصُنّاع".
تشير منار إلى تعاون المخابرات المصرية مع المؤلف صالح مرسي، والذي يعتبر رائد مدرسة أدب الجاسوسية أو الرواية المخابراتية في مصر، حتى أنه "يعتبر من المدنيين القلائل الذين عملوا مع المخابرات دون أن يكون من الضباط".
"أُنتجت آنذاك عدة مسلسلات متتالية عن التجسس بمعالجات استخدمت تيمة التجسس درامياً، تظهر فيها من خلال المؤامرة الأبعاد الإنسانية، وتتفاعل مع عوامل عديدة محيطة بالشخصيات، فتخلق الإثارة والترقب، وتتجاوز الطابع الوثائقي، وتدور محاورها الأساسية حول صراع معلوماتي بين مصر والموساد أو العرب والموساد، مستندة على حقائق واقعية كانت في ملفات المخابرات".
آخر مسلسلات الجاسوسية
بحسب منار، تعاونت المخابرات مع المؤلف صالح مرسي، والمخرج يحيى العلمي، وعرضت ثمرة تعاونهم الأول عام 1980 مسلسل "دموع في عيون وقحة"، والذي تناول دور المخابرات في حرب 6 أكتوبر، من خلال البطل أحمد الهوان، والذي تحول اسمه في المسلسل إلى "جمعة الشوان"، وهو شاب فقير سعى الموساد الإسرائيلى إلى تجنيده، لكنه قام بإبلاغ المخابرات المصرية، وأصبح عميلاً مزدوجاً، وقام ببطولة المسلسل عادل إمام ومعالي زايد.
تكرر التعاون مرة أخرى عام 1988 في مسلسل "رأفت الهجان"، وكان عبارة عن ملحمة وطنية قسمت إلى ثلاثة أجزاء، تجسد سيرة البطل المصري رفعت الجمال، الذي زُرع في إسرائيل، وكان له دور في الإعداد لحرب أكتوبر، وقام ببطولة المسلسل محمود عبد العزيز، يسرا ويوسف شعبان.
وفي عام 1995، عرض مسلسل "السقوط في بئر سبع"، تناول المسلسل قصة تجنيد أشهر وأخطر الجواسيس في خضم الصراع بين إسرائيل ومصر، وهما انشراح موسى وإبراهيم شاهين، التأليف للكاتب عبد الرحمن فهمي، والإخراج لنور الدمرداش، وبطولة سعيد صالح وإسعاد يونس.
وفي عام 1996 عرض مسلسل "الحفار"، تناول مهمة المخابرات المصرية والقوات البحرية في تدمير "الحفار" المزروع إسرائيلياً في سيناء للتنقيب عن البترول، العمل كتابة صالح مرسي، وإخراج وفيق وجدى، ومن بطولة حسين فهمي، مصطفى فهمي ويوسف شعبان.
وفي عام 2005 عرض مسلسل "العميل 1001"، نتابع قصة لشاب مصري يُدعى عمرو طلبة، تغلغل في المجتمع الإسرائيلى، ثم الموساد، كتب العمل نبيل فاروق، وأخرجته شرين عادل، وقام ببطولته مصطفى شعبان، نور ونيلى كريم.
وأنتج عام 2009 مسلسل "حرب الجواسيس"، مستوحى من أحداث حقيقة، عن شابة تدعى سامية فهمي، تتعاون مع المخابرات المصرية للإيقاع بزوجها الجاسوس نبيل، وشبكة المخابرات الإسرائيلية التي تتعاون معهم ضد مصر عقب نكسة 1967، التأليف لصالح مرسي، والإخراج لنادر جلال، وبطولة منة شلبي وشريف سلامة.
وفي عام 2017 أنتج مسلسل "الزيبق"، المستوحي من قصة حقيقية من ملفات المخابرات المصرية، وتدور حول شاب يعمل فنى كاميرات في إحدى الشركات، يجند عن طريق المخابرات المصرية للكشف عن خلايا الموساد، كتب وأخرج المسلسل وائل عبدلله، و بطولة كريم عبد العزيز، شريف منير وريهام عبد الغفور.
تعلق منار: "مسلسل "الزيبق" يعتبر آخر المسلسلات التي كانت إسرائيل فيها هي العدو".
ترى منار أن هذه المسلسلات هي جزء من سياسة الدولة، وتتذكر جيداً بحكم متابعتها للأعمال الفنية وحياة أصحابها، تصريحاً شهيراً للفنان الراحل يوسف شعبان، يقول فيه إنه قام بتمثيل الجزء الثاني من مسلسل "رأفت الهجان" خوفاً من السجن.
اعتذر شعبان عن إكمال المسلسل بسبب ما يراه من ضآلة دوره، وعدم رضاه عنه، وكان يجسد ضابط المخابرات المصري محسن ممتاز، وذكر أيضاً أن الفنانة يسرا حاولت الاعتذار عن المشاركة في الجزء الثاني لنفس الأسباب، وكانت تقوم بتجسيد دور "هيلين سمحون"، فتدخل وقتها وزير الإعلام السابق، صفوت الشريف، بنفسه، وجمعهم مع المؤلف لتعديل الأدوار حسب رغبتهم، فتراجع الفنان يوسف شعبان بعدها عن فكرة الاعتذار.
"التوجيه الإعلامي والدرامي واحد من السياسات المخضرمة لمؤسسات الدول، ولكن ما يستفز الجمهور اليوم"، بحسب منار، "ليس التوجيه في حد ذاته، بل شعوره بأنه قد يكون هو العدو المقصود للوطن، لمجرد اختلاف التوجهات والرؤى مع الحكومة".
"بعد أن كان عدو الوطن الأوحد هو إسرائيل، أصبح العدو جارك أو قريبك أو حتى أنت"، تقول منار.
عفاريت الظلام
تستعرض الأستاذة جمانة محمود، ناقدة فنية ومخرجة مسرح، الأنماط الرئيسية لشخصيات رجال المخابرات، وما اعتراها من تغيرات، في الدراما والسينما المصرية، تقول: "في السبعينيات ظهروا بوجه سيء جداً، مثلما كانوا في فيلم (الكرنك)، و(احنا بتوع الاتوبيس)، عالجت هذه الأفلام قصة ظلم المساجين، بالأخص السياسيين، بشكل قاس جداً، من أجل إدانة عصر عبد الناصر، لا لأية أسباب أخرى يمكن ذكرها بقوة".
وبعد العصر الساداتي وصلت السينما والدراما المصرية برجال مخابراتها إلى عنان السماء، خاصة بعد استخدام أداة القصة الجاسوسية (ضد إسرائيل) في أفلامها، مثل: "الطريق إلى إيلات"، "إعدام ميت"، "الصعود إلى الهاوية"، "الجاسوسة حكمت فهمي"، "الجاسوس"، "بئر الخيانة"، "ولاد العم"، "الممر".
أصبح رجال المخابرات بواسل شرفاء، أذكياء، قادرين على رفع منسوب الحس الوطني داخلك، وجعلك منتمياً حتى النخاع، حتى أن نجاح هذه الأعمال التي قامت على تيمة الجاسوسية، والتي بدورها رفعت قيمة رجل المخابرات في عين المشاهد، نالت رضا مؤسسات الدولة عنها، وهذا ما أغرى صناعاً كثيرين لإنتاج نفس المواضيع، فكتبت سيناريوهات مشابهة لسيناريوهات الجاسوسية المأخوذة من ملفات المخابرات بشكل مستقل، قائمة على الاجتهادات الشخصية من المؤلفين، بالإضافة الى مجازفة فنانين ذي شهرة كبيرة، كناديا الجندي، لإنتاج أفلام متتالية قائمة على نفس الفكرة، مثل "48 ساعة في إسرائيل"، و"مهمة في تل أبيب".
"التوجيه الإعلامي والدرامي واحد من السياسات المخضرمة لمؤسسات الدول، ولكن ما يستفز الجمهور اليوم، ليس التوجيه في حد ذاته، بل شعوره بأنه قد يكون هو العدو المقصود للوطن، لمجرد اختلاف التوجهات والرؤى مع الحكومة"
ومع اختلاف أهداف الدراما والسينما أصبح من الطبيعي جداً اختلاف شكل الوعي المطلوب، والتوجه العام، عاد دخول ملفات المخابرات على خط الإنتاج الرمضاني بشكل مباشر، وأصبح يكتب بشكل بارز بجانب اسم شركات الإنتاج: "بالتعاون مع وزارة الدفاع، إدارة الشؤون المعنوية".
"كان مسلسل "كلبش"، بأجزائه الثلاثة، بداية شكل جديد للملفات المخابرتية"، تقول جمانة: "والذي عرض أولها عام 2017 وآخرها عام 2019، وكان من تأليف الكاتب باهر دويدار، وإخراج بيتر ميمي، وقام ببطولته النجم أمير كرارة، مجسداً دور ضابط مخابرات شريف اسمه سليم الأنصاري".
دارت أحداث المسلسل بأجزائه الثلاثة حول صراع سليم الأنصاري مع الفساد الداخلي المصري، وليس العدو الخارجي الإسرائيلي.
ثم جاء الجزء الأول من مسلسل "الاختيار"، والذي عرض أول مرة عام 2020، بإثارة جدل كبير بين الجمهور منذ عرض أولى حلقات موسمه الأول، ولن يختفي الجدل من موسمه الثاني، وتجدد بقوة في موسمه الثالث 2022. استعرض المسلسل الصراعات السياسية في آخر عشر سنوات، خاصة ما يرتبط بالإخوان وملف الإرهاب، ألفه الكاتب هاني سرحان، وأخرجه بيتر ميمي، وقام ببطولته في كل جزء عدد مختلف وكبير من نجوم الشباك في مصر.
أيضاً جسد مسلسل "هجمة مرتدة" عام 2021، جزءاً من بصمة إدارة الشؤون المعنوية الجديدة في الدراما، وشارك أيضاً مسلسل "العائدون" في هذه الموجة عام 2022، تناولت أحداثه العائدين من تنظيم الدولة الاسلامية الإرهابي، واستعرض منهجية تدريبهم لإلحاق الضرر بمصر، من تأليف باهر دويدار، وإخراج أحمد نادر جلال، بطولة أمير كرارة وأمينة خليل.
تلاشت تدريجياً صورة الضباط والعملاء المصريين الذين يواجهون نظراءهم الإسرائيليين، بكل ما تحمله من معاني الوطنية والقومية، وحلت محلها صورة لضباط موجهين عداؤهم إلى "العدو الداخلي"، ومن منا ينسى صريخ الجندي أحمد سبع الليل، (قام بدوره أحمد زكي)، في فيلم "البريء"، وهو يقول للضابط الذي يأمره بتعذيب "ابن قريته": "حسين أفندي ابن عمي وهدان لا يمكن يكون من أعداء الوطن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 11 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 22 ساعةحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يوممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين