تنتصر الفوتوغرافيا للحظة البصرية الفارقة، تحبسها في إطار مرئي لتصبح وثيقة أو حجة على الزمن، تعكس من خلالها مقومات المرحلة وتبرز جوانبها الأكثر أهمية، انطلاقاً من علاقة الأنا بالآخر، أو علاقة الفرد بالبيئة التي تحيط به وتنسج عمرانه، والفضاء الذي يعيش فيه بشكل عام، ليكون هذا الفن يد الحضارة الممتدة وحجتها القوية على الماضي، والسند الصحيح الذي ينقل فيوضات الأجيال البصرية، كونه أكثر الوثائق صدقيّة ويقينية من باقي الأدوات التواصلية الأخرى، ولا يمكن مقارنتها بالنص الشفهي المتوارث و لا حتى النص الوصفي المكتوب، لأنه مهما كانت دقة الكلمات واللغة في رسم المعنى البصري فلا يمكن أن تقارن بالصورة الفوتوغرافية، ببعدها اليقيني والجمالي والحضاري والتوثيقي.
بالنسبة للصورة كل المتلقين سواء، على عكس النص المكتوب الذي يلزمه ثقافة القراءة ومرجع الفهم وذكاء معين لفهم أبعاد الفضاء أو الحادثة الموصوفة. من هنا تتحول الصورة الى أكثر الوسائل تعبيرية عن الماضي، تنقل مضامين الحضارات الغابرة، من عمران وفضاءات ومعالم وطريقة عيش ولباس، مع نقل مظاهر الأبعاد الدينية والمجتمعية وطقوس الأفراح والأحزان والكوارث والإنجازات، وكل قصة أو حدث أو وجه يحتاج أو يملك المقومات الجمالية والقيمة التاريخية والميزة المهمة التي تجعله يثير اهتمام من يقوم بفعل التصوير، أو يستشرف فيها ما يثير الجيل أو الاجيال اللاحقة.
"نساء الجزائر في مخدعهن"
الحديث عن بدايات التصوير الفوتوغرافي انطلاقاً من التقنية والرواد والأسبقية يأخذنا صوب العديد من الاحتمالات التي لا تنتهي، لكن وجب القول بأن التصوير الحقيقي الذي يستند على قاعدة علمية قوية بدأ في الجزائر بشكل ناضج سنة 1839، مع العلم بأن هناك العديد من المحاولات من طرف أشخاص عدة قبل هذا التاريخ، وقد استغلت العديد من الدول أو الهيئات الصورة في أهداف متنوعة ومختلفة، سواء تلك التي تحمل قيمة فنية وفضولاً معرفياً وجمالياً، أو بغرض الدعاية ورسم توجه أيديولوجي معين لتوصيله للآخر.
وقد تم الاعتماد على المبدأ الأخير بكثر من طرف الدول والممالك التوسعية والاستعمارية، خاصة من قبل فرنسا صاحبة الامتداد الواسع في معظم قارات العالم، وبشكل واسع في إفريقيا، وقد اعتمدت من أجل إغراء الآخر المتردد في الاستقرار في تلك المستعمرات، بنشر اللوحات الفنية التشكيلية المثيرة والمميزة، والتي كانت بمثابة الطعم الذي تقدمه له من أجل حسم خياراته والقضاء على تردده، وهي أعمال بات يطلق عليها " سحر الشرق"، انطلاقاً من جمال النساء ولباسهن المغري والحدائق الغناء.
رسم الرسام الفرنسي فرديناند ديلاكروا العديد من المظاهر في شمال إفريقيا، خاصة الجزائر التي خصها بالعديد من اللوحات، مثل لوحة "نساء الجزائر في مخدعهن"، وجسّدت هذه اللوحة مفهوم "سحر الشرق" بكل تفاصيله وتجلياته
وهذا ما فعله مثلاً الرسام الفرنسي فرديناند ديلاكروا (1798-1863) الذي رسم العديد من المظاهر في شمال إفريقيا التي كانت أحد المستعمرات الفرنسية، خاصة الجزائر التي خصها بالعديد من اللوحات، مثل لوحة "نساء الجزائر في مخدعهن" التي رسمها سنة 1834، وقد جسّدت هذه اللوحة مفهوم "سحر الشرق" بكل تفاصيله وتجلياته. لهذا تهافت بعدها العديد من المستشرقين في الفن التشكيلي، لإعادة اكتشاف هذا الشرق، إضافة إلى تهافت العديد من المعمرين، للإقامة والسكن والاستقرار في "الدورادو" الجزائر، لتعميرها والنهوض بهذه المستعمرة التي باتت تعادل مفهوم الجنة في الكثير من المنطلقات الأدبية والفنية والاستعمارية بشكل عام. لهذا شحذ المصورون الفوتوغرافيون آلاتهم لتوثيق تلك الحياة التي قرؤوا عنها في كتابات الرّحالة أو شاهدوها في لوحات المستشرقين أو وقفوا عليها بأنفسهم، سواء من الذين يقطنون فرنسا، فتأثروا وجاؤوا إلى الجزائر، أو حتى من الذين قدموا لها خلال الدفعات الأولى مع الاحتلال الفرنسي.
تعدد الألوان في الأبيض والأسود
بدأت الفوتوغرافية الفرنسية في الجزائر في السنوات الأولى للاحتلال، حيث اصطحبت معها العديد من الأسماء المهمة في الرسم والتصوير البدائي لتوثيق تلك اللحظات التاريخية المهمة، لكن البداية الفعلية للتصوير المحترف بدأ مع "أستديو جيزار" الذي امتلكته عائلة سويسرية سنة 1850، وقد استطاعوا أن يوثقوا من خلاله للعديد من المعالم المهمة في تلك المرحلة، وكان صاخحه جون جيزار من أكثر المصورين قرباً من الأهالي، حيث استطاع أن يلتقط ما بين 4000 و6000 صورة وضعت معظمها على ظهر البطاقات البريدية وقتها، إضافة إلى أن هناك العديد من المصورين الذين لا يقلون اهمية عن جيزار، ولولا جهودهم الكبيرة ومهنيتهم العالية وتفانيهم وحبهم لمهنة التصوير ما عرف جزائريو اليوم العديد من المظاهر التي كانت سائدة آنذاك، بداية من المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى غاية الاستقلال سنة 1962.
ومع تطور ميدان التصوير واختراع آلات أكثر عملية، أصبح للكثير من العائلات الفرنسية آلة تصوير في البيت، إذ تحول هذا النشاط الذي كان حكراً على الأستديوهات والمصورين المحترفين الذين يتعاملون معه كمهنة، إذ كان يتم نشر موادهم المصّورة في الصحف والمجلات والبطاقات البريدية وإقامة المعارض والمناسبات الخاصة والعامة، إلى نشاط ينطلق من هواية، وهذا ما جعل التصوير أكثر انتشاراً وتنوعاً، وتشترك كل تلك المواد المصورة كونها ملتقطة باللونين الرئيسيين، وهما الأبيض والأسود.
ولكن ورغم محدودية اللونين، غير أنها نقلت جميع ألوان الحياة، خاصة العمران الفرنسي الذي تعكسه المدن الكولونيالية عبر حقب زمنية مختلفة، توثق تلك اللحظات وتخلدها وتحفظها، لتتحول مع الوقت من أهم الوسائل التي تعرف الجزائري الحالي بماضي بلاده الجزائر، يرى من خلالها العمارات المشيدة والشوارع الممتدة والمدن والمجتمع وطريقة اللباس والمظاهر، وهو الأمر الذي يعطي أهمية كبيرة للتصوير كفنّ مهم في حياة المجتمع.
ومن الأشياء التي تظهر مدى اهتمام فرنسا بالفنون وتاريخها، هو قيام وزارة ثقافتها باقتناء أول صورة فوتوغرافية معروفة عن الجزائر من دار المزادات البريطانية "سوذبي"، وقد تم التقاطها سنة 1844 لمصور مجهول، تظهر الجزائر القديمة قبل أن تتغير معالمها، خاصة صورة جدار القصبة الذي يحميها، والذي لم يعد له وجود اليوم، وذلك بشرائها من أحد المزادات العلنية بمبلغ 24 ألف يورو.
بات من الصعب أو من المستحيل حتى فتح مقارنة بين المخزون الفوتوعرافي في الجزائر المستعمرة والجزائر المستقلة، لأن نسبة كبيرة من المرحلة الأولى هي المنتشرة حالياً في معظم مواقع الإنترنت ومحركات البحث والمواقع المخصصة في الصورة
وتساءل وقتها الكثير من المهتمين عن السبب الذي جعل الجزائر ممثلة في وزارة ثقافتها من عدم الاهتمام بهذه الصورة رغم أهميتها التاريخية ودورها الكبير في توثيق نسيج عمراني مهم لمدينة الجزائر قبل الاحتلال الفرنسي، أي الصورة تقدم فضاء نقياً لم يمسه الأثر الكولونيالي، في حين أقدمت الجهة الفرنسية على اقتنائها بالمبلغ المذكور. من هنا يتحرك الوعي ليحدد قيمة الأشياء وأهميتها.
ماذا حدث بعد الاستقلال؟
بعد الاستقلال وخروج أكثر من مليون فرنسي سنة 1962، وجدت الجزائر الجديدة نفسها مستنزفة من الكفاءات في العديد من المجالات، خاصة وأن الاستعمار الفرنسي لم يساو في التعليم بين المعمرين والأهالي، لهذا بات الكثير من الأهالي بعد الاستقلال بلا مرجعية في الفن والتعليم والمهن النوعية، مع وجود استثناءات قليلة في كل القطاعات طبعاً. وهذا ما أثّر بشكل ملفت في الفن الفوتوغرافي بشكل خاص، إذ لم يكن هذا الفن وثيقة أو حجة على الزمن، يعكس وينقل أحلامَ وكوابيس الجزائر الجديدة، فقط محاولات هنا وهناك، وحتى وبعد تطوير تقنية الألوان ومع اختراع الآلات الرقمية والهواتف الجوالة اليوم التي أصبحت في يد كل فرد، غير أن هذا لم يعكس جودة الصورة ولم يظهر دورها الحضاري والإنساني، حتى بعد خلق أجيال جديدة تملك أساسيات المعارف والفنون، ومتمكنة من التقنية.
أصبحت تلك الصور الرقمية مخزنة، ولا توجد أي أدلة مادية ملموسة تثبت حقيقتها ويقينيتها. وبمعنى أوضح بات من الصعب أو من المستحيل حتى فتح مقارنة بين المخزون الفوتوعرافي في الجزائر المستعمرة والجزائر المستقلة، لأن نسبة كبيرة من المرحلة الأولى هي المنتشرة حالياً في معظم مواقع الإنترنت ومحركات البحث والمواقع المخصصة في الصورة، كما أنها أكثر نقاء وجمالية وحرفية برغم الإمكانيات التقنية التي كانت محدودة.
وهذا على عكس المرحلة الثانية التي جاءت فقيرة واعتباطية، حرقت الكثير من المراحل المهمة ولم تعكس أي قوة من ناحية الكم او النوعية، وأكثر من هذا لم يعد هناك أي اهتمام نوعي من المؤسسات الرسمية أو من ناحية الفرد بأهمية الصورة من الناحية الفنية والحياتية، مع ازدياد دورها الكبير في قلب الحقائق وكشفها وتقديمها للعالم أجمع. طبعاً هناك تجارب وأندية تحترف التصوير، وأفراد مهتمون، لكن كل هذا لا يمكن أن يعكس توجهاً أو يخلق تياراً، ولا يكاد يظهر لصغر حجمه ومحدودية دوره.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين