تحتَلُّ قصيدة "خايف وما كنت بزماني خايف" للشاعر والقاضي والمترجم الراحل عيسى عصفور مكانةً خاصّةً ومرموقةً في المجتمعِ المحليّ في محافظةِ السويداء أقصى الجنوب السوري.
اللافتُ في الأمر أنّ القصيدةَ التي كتبَها الراحلُ عام 1982 مخاطباً فيها صديقه ورفيقه العميد نايف العطواني (وكان شاعراً أيضاً)، حجزت لصاحبِها مكاناً في ذاكرة الجبل وأهله، شأنها شأن قصيدةِ "يا زيد دونك مرحبا من عيسى" التي كتبها عيسى عصفور خلالَ مراسلاتٍ شعريّة مع اللواء زيد الأطرش، أشهر أشقّاء سلطان باشا الأطرش، القائد العام للثورة السورية، أكثر من إنتاجِ عيسى عصفور الضخم في حقلِ الترجمة، فقد ترجمَ الراحلُ عن الفرنسيّة والروسية أكثر من ستين كتاباً في قضايا مختلفة ومتنوّعة مثل الخروج من عصر التبذير (1982) لدينيس غابور وأمبرتو كولومبو، عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي، وسرفانتس لوليم بيرون وهي دراسة تاريخية صدرت ضمن سلسلة أعلام تاريخية عن وزارة الثقافة في سوريا، بالإضافة لعشرات الكتب الأخرى. ظلّ خوفُ عيسى عصفور في قصيدته عاماً بقدرِ خصوصيّته، إذ أمكنَ تبنّي هذا الخوف من قبل أجيالٍ تلت تاريخ كتابتها.
ولئن كان ثمة أسبابٌ ليست تأمليّةً شعريّةً تماماً وراء شهرة قصيدة "يا زيد دونك مرحبا من عيسى/كبر الجبل لو توزِنهْ وتقيسا، لعيسى عصفور نفسه، والتي تكافئ انتشارَ وشهرة "خايف"، إلا أنها رغم شهرتِها ظلّت في السياقِ المألوفِ في الشعرِ الشعبيّ الخاص بالمنطقة لجهةِ انتمائها المباشر للتعبيرِ السياسيّ، المطعّمِ بشكوى تردّي أحوالِ الناسِ وأخلاقهم، وهي بالتالي لم تخرج عن الغرضيّة في الشعر العربي عموماً، وقد حازت حظوتها وانتشارها لكونها جاءت ردّاً على قصيدةٍ أرسلها له زيد الأطرش أولاً، ولأنّها جاءت في أعقاب حرب الخليج، على لسانِ شاعرٍ عروبيّ الهوى والانتماء الفكري والسياسي.
بينما بدت "خايف وما كنت بزماني خايف" متأملةً صافيةً من الحدث اليوميّ الآنيّ، ذاهبةً باتجاه ما هو أشمل وأعمق، وحجزت مكانها في التراثِ الشعريّ للجنوب السوري لانتسابها إلى خوفٍ إنسانيّ داخليّ يعلو على الإيديولوجيا ومحرّكاتها ويخلو من أيّ غرضٍ من الأغراض المألوفةِ التي درجَ عليها الشعرُ العربيّ: كالمديح والهجاء والغزل والرثاء والفخر والحماسة والاعتذار، أو حتّى الحكمة. كانت قصيدةً عن الخوف.
خايف وما كنت بزماني خايف
دهري فَتَل كيف العمل يا نايف
قلبي انكوى بنار الجوا وضيم النوى
وظهري لوى واشوف زرعي هايف
خايف من الستّين كشّر نابها
والنّفس ما تدري غدًا وش نابها
ولمّا كان كلّ خوفٍ لدى الفلسفةِ خوفاً من الموتِ والزوال، فإنّ رسالةَ شاعرنا لصديقهِ كانت بلا مناورةٍ أو حذلقة خائفةً بشكلٍ مباشرٍ من الزوال، زوال الفرد وأصدقائهِ ومكانه، أي زوال أدوات وأسباب قدرتهِ على الاستمرار. بل إنها تجاوزت الخوفَ من الزوالِ الفرديّ، لتشكو خوفَها من زوالِ المكانِ نفسهِ، جبل العرب:
خايف وما كنت بزماني خايف
دهري فَتَل كيف العمل يا نايفْ
قلبي انكوى بنار الجوا وضيم النوى
وظهري لوى واشوف زرعي هايف
خايف من الستّين كشّر نابها
والنّفس ما تدري غدًا وش نابها
خطو الولد راعي البصيرة النّابهة
عيونه على عشرة ولا هو شايفْ
خايف من اللي رفقته معتلّه
الصاحب اللي لو تقوده تلّه
خايف على القليب يغدي تلّة
من عقب ماهو عالنوابي نايفْ
خايف عليكم يا رفاق الطّوله
تغدو شظايا وما لكم من طوله
وانتو على مرّ الزمان وطوله
أهل المروّة معذيّين الخايفْ
حمر البيارق والسيوف رعافِ
شيّالةٍ ضيم الدّخيل العافي
والديرة المانتو بها تنعافِ
ولو انّها جنّة عدن والطايفْ
الكرونوفوبيا
لعلّ خلوّ القصيدةِ من الغرض القديم للشعر العربي، واقترابها مما هو فرديّ وشخصيّ وذاتي على حساب الجمْعيّةِ، بالإضافة إلى خلوّها من الدمويّةِ المقرونةِ بالافتخار التي طبعت الكثير من الإنتاج الشعريّ في المنطقة، استناداً إلى أنّ معظم الألوان الشعرية كانت تُستخدمُ لإثارة حماسة المقاتلين عن طريقِ ما عُرِفَ بالحِداءاتِ والحَورَبة وتعزيز مشاعر الفخر، كل تلك أسباب ساهمت في أن تتبوّأ القصيدة المكانة الخاصة التي احتلّتها خلال عشرات السنين.
الخوف من المجهول أو ما يُسمّى باضطراب القلق المعمّم لم يعد مجهولاً لأي متابعٍ لحالِ السويداء، وبقيّة الجغرافيا السوريّة، حيثُ باتَ الناسُ يخافونَ ما ليس مجهولاً البتّة
كان عيسى عصفور خائفاً من الزمن، من آثارِ الزمنِ عليهِ كشخص أولًا "خايف من الستّين كشّر نابها"، وعلى أصدقائهِ ثانياً "خايف عليكم يا رفاق الطّوله/تغدو شظايا ومالكم من طوله"، وعلى مكانِه العزيز حيثُ وُلِدَ وعاشَ وأحبّ: جبل العرب. وقد استخدمَ عيسى عصفور أشهر رمزٍ جغرافيّ من رموز الجبل: تلّ القليب، وهو أعلى قمة في السويداء، تعبيراً عن خوفِه ممّا قد يحلُّ بالديار: "خايف على القليب يغدي تلّه/ من عقب ماهو عالنوابي نايف".
تحايلت قصيدةُ الراحل الذي لقّبهُ سلطان باشا الأطرش بـ"عصفور الجبل" على الخوف من الزوال والموت، بأن ذهبت نحو الخوف من الزمن، وهو اضطرابٌ معرّفٌ علمياً ويُسمّى برهاب الزمن أو الكرونوفوبيا (Chronophobia) وهي تسمية يونانية تجمعُ تعبيري chrono أي الوقت بالـphobia أي الخوف.
اضطرابٌ يتعدى الخشيةَ من حدثٍ معيّنٍ قد يحدثُ في المستقبل، ليكون هلعاً من مرور الوقتِ بحدِّ ذاته، ويرتبطُ بشكلٍ رئيسيّ بالخوفِ من ضيقِ الوقت المتبقّي على الأرض.
"خوفٌ إنسانيّ بسيط كالماء واضحٌ كطلقةِ مسدّس" بتعبيرِ رياض الصالح الحسين، ولئن احتوت القصيدةُ على الكرونوفوبيا، فإنّها وقتَ كتابتها قد احتوت أيضاً على الخوف من المجهول أو ما يُسمّى باضطراب القلق المعمّم، وهو ما لم يعد مجهولاً لأي متابعٍ لحالِ السويداء، وبقيّة الجغرافيا السوريّة، حيثُ باتَ الناسُ يخافونَ ما ليس مجهولاً البتّة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...