في عام 2000، كان مسلسل جرائم القتل ضد عاملات الجنس علی يد رجل متشدد دينياً، والذي هزّ المجتمع المحافظ الإيراني، مادة دسمة للسينما الإيرانية، حيث أُنتج إلى الآن فيلماً وثائقياً باسم "وجاء العنكبوت" وفيلمان سينمائيان: "العنكبوت" و"العنكبوت المقدس".
هذه الأسماء المتشابهة تدل علی لقب منفِّذ الجريمة السفاح سعيد حَنائي، بعدما قتل 16 من عاملات الجنس في مدينة مشهد شمال شرقي إيران، حيث أطلقت عليه الصحافة في الأخبار والتقارير المتعلقة بالجريمة في بداية القرن الـ21، لقب "العنكبوت القاتل".
كان يعيش الرجل الأربعيني مع أسرته في إحدی المناطق المتواضعة في مشهد، إحدی أبرز المدن المقدسة والدينية في البلاد، وكان عامل بناء منحدراً من أسرة دينية. بدأت القصة من تحرش سائق تكسي بزوجة سعيد في يوم من الأيام، فقرر الانتقام وهاجم کلّ من يتعرض ويتحرش بالنساء في الحي. ولكن بعد فترة رأی الحل بقتل "البغايا" في المدينة، حسب تعبيره.
التخطيط للموعد ثم ممارسة الجنس ثم الخنق بالوشاح
في تخطيط مسبق کان يتواعد سعيد مع عاملات الجنس، ويأتي بهن كل واحدة علی حدة إلی منزله عبر دراجته النارية أو سيارته، ثم بعد ممارسة الجنس وسلب أموالهن يباشر بقتلهن خنقاً بالوشاح، وبعد ذلك یرمي بأجسادهن في أماكن بعيدة عن المدينة. وفي آخر محاولته استطاعت إحداهن الهروب من منزله وإخبار الشرطة، فألقي القبض عليه بعد عام كامل من تنفيذ سلسلة جرائم القتل التي شغلت الرأي العام آنذاك.
"مؤمنٌ بمسیرتي وأستحق لقب البطل تكريماً لنشاطي في تطهير البلاد من الفساد الأخلاقي وفق طريقتي"؛ هكذا أبدى سعيد رأيه عن شعوره في العنف ضد النساء بعد اعتقاله
ولم يخف سعيد دوافعه بل صرح أمام المحكمة أن دافعه الرئيسي كان دينياً، وبهدف إزالة الفساد من المجتمع الإسلامي، حيث من غير المسموح تواجد فتيات الليل في مدينة مشهد المقدسة حسب تعبیره. كما كان يستشهد المجرم بآيات قرآنية لإثبات صواب طريقه، وبكل ثقة أعلن عن نيته في قتل نحو 80 عاملة جنس أخريات كان يترصدهن إن لم تلقِ الشرطة القبض عليه.
"أستحقُّ التكريم لتطهير المدينة من الفساد"
"مؤمنٌ بمسیرتي وأستحق لقب البطل تكريماً لنشاطي في تطهير البلاد من الفساد الأخلاقي وفق طريقتي"؛ هكذا أبدى سعيد رأيه عن شعوره في العنف ضد النساء بعد اعتقاله. وأعلنت هيئة الأطباء التي كانت تعمل تحت اشراف المحمكة أنذاك أن الرجل لم يعاني من أي اختلالات أو اضطرابات نفسية وبل لم یكن نادماً على فعلته ولم يخشى الموت. "جربت خنق النساء لـ16 مرة وأعرف أن هذه الفترة لم تتجاوز إلا دقائق معدودة لذلك لست خائفاً من الشنق حتی الموت"، هكذا قال سعيد بعد الاعتقال.
صدم الشارع الإيراني في تلك الحقبة بأخبار "العنكبوت القاتل" وبات الحادث المروع منطلقاً للحديث العلني عن الفساد الأخلاقي في المجتمع الإيراني. وبعد انتهاء جلسات المحاكمة، تم إعدام القاتل شنقاً عام 2002، بتهمة السرقة وارتكاب 13 حالة زنا وتزوير المستمسكات الحكومية، وفق إعلان المحكمة.
ملصق فيلم "العنكبوت المقدس" للمخرج علي عباسي
وخلافاً لما حدث للفيلم الأول والثاني اللذين تم إنتاجهما عن هذه القصة الحقيقية داخل البلاد، واجه فيلم المخرج الدنماركي من أصول إيرانية علي عباسي "العنكبوت المقدس" المتمحور حول قضية سعيد حنائي، والذي يتناول عنف المجتمع ضد المرأة، تنديداً واسعاً واحتجاجات من قبل المؤسسات الرسمية الإيرانية بسبب إظهار مشاهد تسيء لمقام الإمام الرضا، ثامن أئمة الشيعة المدفون في إيران، وفقاً لها.
الممثلة تلتقي 200 رسالة تهديد بالموت
مقطع الفيديو الترويجي للفيلم بمدة دقيقتين، والذي تم نشره علی هامش مهرجان كان 2022، كان كافياً لخلق ضجة في البلاد وصلت حتی التهديد بقتل المخرج عباسي والممثلة زهرا أمير إبراهيمي التي نالت جائزة كان في فئة أفضل ممثلة، وذلك لتمثيلها دورَ الصحفية التي تتابع تفاصيل الجريمة، مما تسبب بإلقاء القبض علی السفّاح، حسب سيناريو الفيلم. وأعلنت الممثلة زهرا عن تلقيها نحو 200 رسالة تهديد بالقتل.
الممثلة زهرا أمير إبراهيمي ومخرج الفيلم خلال مهرجان كان
يُعدّ مرقد الإمام علي بن موسی الرضا، أهم المزارات في إيران، يقع المزار في مشهد، المدينة المقدسة لدی الإيرانيين، ويعتبر المساس به إساءة للمذهب الرسمي تستوجب العقوبة. ويصور الفلم مشهداً من حضور القاتل حنائي وهو يرتاد هذا المزار ویسعی للتبرك بالضریح، إضافة إلی لقطة جوية من المدينة يتوسطها ضريح الإمام الرضا ومن جانبه مسارات مضيئة تمتد علی أطراف المدينة حيث توحي للمشاهد بصورة تشبه شبكة العنكبوت. جاءت هذه المشاهد ضمن مقطع "تريلر" لدعاية الفیلم السينمائي على هامش مهرجان کان.
واجه فيلم "العنكبوت المقدس" الذي يتناول عنف المجتمع ضد المرأة، تنديداً واسعاً واحتجاجات من قبل المؤسسات الرسمية الإيرانية
وأوضح المخرج عباسي للصحفيين أن الفیلم يتحدث عن المجتمع الذي يربي مثل هذه النماذج من قاتلين متسلسلين، وليس عن منفذ جريمة مشهد فحسب. وقد جاءت فكرة الفیلم من الأجواء التي عاشها المخرج من صدی تلك الأحداث في عامي 2000 و2001 في إيران. ويقول عباسي عن مشاهداته: "كان جزء من المجتمع یری السفاح بطلاً لما فعله بعاملات الجنس"، الذي استنتج أن الإشكالية تقع في ثقافة المجتمع الإيراني وليس في المجرم.
إدانات مستمرة حتى الآن
اشتعلت منصات التواصل الاجتماعي في إيران بسبّ طاقم الفيلم وشتمه بسبب لقطات مزار الإمام الرضا، والتي فُسرت بأنها إهانة واضحة لرموز الشيعة، مما استدعی تدخل وزير الثقافة الإيراني محمد مهدي إسماعيلي.
"ندين هذا العمل المسيء للمعتقدات الدينية، والذي يشوه صورة المجتمع الإيراني. تم إنتاج الفيلم في الأردن، ولا صلة له بالساحة الفنية داخل البلاد، ولكن سوف يخضع كل شخص تعاون مع طاقم إنتاج هذا الفيلم من داخل إيران للمساءلة القانونية. كما تم إبلاغ احتجاج إيران الرسمي للحكومة الفرنسية عبر الخارجية الإيرانية"؛ هكذا قال وزير الثقافة الإيراني.
وأدانت المدرستان الدينيتان في مدينتي قم ومشهد هذا الفیلمَ، وطالبتا بمحاكمة طاقمه واتخاذ تدابیر لعدم تكرار مثل هذه الأفلام. وأصدرت هيئة السينما من جانبها بياناً أكدت فيه أن الفيلم يقدم صورة مشوّهة عن المجتمع الإيراني، وقد جرح مشاعر ملايين المسلمين الشيعة، كما أن إدارة المهرجان ارتكبت عملاً منحازاً ومسيّساً من خلال تقديرها لهذا الفيلم الخاطئ والسخيف، وفق تعبيرها.
صرح المخرج عباسي، أن الفيلم لم يکن ضد إيران ولا ضد أي بلد أو أحد، بل هو انعکاس للواقع. وأوضح أن هناك فساداً في إيران کما في أي بلد آخر
وطالب بعض الأكاديميين والفنانين الجماهيرَ الغاضبة أن يتريضوا حتی عرض ونشر الفيلم، ثم يدلوا بآرائهم علیه، فغرد أستاذ جامعة طهران محسن بُرهاني: "يجدر بالأشخاص الذين يسبّون ويشتمون ويلعنون الفيلم، أن يصبروا حتی عرض الفلم ومشاهدته، ثم ينشغلون باللعن والشتم. فالاحتياط وعدم التبعية دون علم ومعرفة هو ما أكد عليه أهل البیت عليهم السلام".
تركيا ترفض والأردن توافق
وبعد الحملة التي طالت الفيلم صرح المخرج عباسي أن الفيلم لم يکن ضد إيران، ولا ضد أي بلد أو أحد، بل هو انعکاس للواقع. وأوضح أن هناك فساداً في إيران کما في أي بلد آخر.
وأعلن عباسي أنه كان ينوي إنتاج الفيلم داخل البلاد في عام 2019 والقبول بالرقابة والمراجعة لفيلمه بغية إنتاجه في مدينة مشهد، ولكن التعلل في إصدار الرُّخص من وزارة الثقافة حال دون ذلك، وبعد قراره لإنتاج الفيلم بتركيا، لم ینل الموافقة من هناك أيضاً. واعتبر أن القرار التركي جاء بعد ضغوط إيرانية، وبعد ذلك تم اختيار الأردن عام 2021 لإنتاج الفيلم المثير للجدل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 17 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 18 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت