في شتاء 1970، أصدر الشاعر السوري محمد الماغوط (1934-2006) آخر دواوينه الشعرية بعنوان "الفرح ليس مهنتي"، ليتفرغ بعدها لنقده السياسي والاجتماعي بأشكال فنية تضمن له المباشرة وحرية الاقتراب من الواقع مثل المسرح والرواية والأفلام وكتابات تحمل تصنيف "نصوص"، ولكن: هل تخلصت قصيدته من المباشرة والأفكار السياسية؟
رغم أن المرحلة التي أعقبت كتابة الماغوط للشعر كانت أكثر تعبيراً عن أفكاره وتوجهاته السياسية، فإن مرحلة الشعر ذاتها ظلت غامرة بالانفعالات والمخاوف والتمرد ضد أوضاع متردية ذاق مرارة تجربتها، بداية من معاناة الفقر مع أب "مسالم يعمل بالحصاد، عاش مديوناً ومات مديوناً"، كما قال في حوار له مع الشاعر والكاتب اللبناني عبده وازن، ثم هجر التعليم، فالسجن والمطاردات، وانتهاء باختياره العزلة.
حفاظاً على الشعر، تحوّل الماغوط إلى ممارسة فنون كتابية مرنة تتحمل أفكاره، ذلك لأن "تحويل الشعر إلى أيديولوجية لن يقود إلا إلى نفي الشعر وإثبات الأيديولوجية"، حسب تعبير سعد الدين كليب في كتابه "وعي الحداثة". وفي النهاية، جرت تحولات الماغوط داخل إطار الفنون الأدبية، أي أنه أصرّ على شخصيته كأديب لا كسياسي.
جثة نافقة أمام سارية العلم
محدداً وظيفة الشاعر، يرى أدونيس في كتابه "سياسة الشعر" أن تغيير الطريقة السائدة في رؤية الحياة والعالم مجازياً تخلق صور وطاقات مادية لتغيير العالم، ودونها لا يكون الشاعر كاتباً، بل إن انفراده وفاعليته واختلافه يرتبط عند أدونيس بـ"كونه خرقاً مستمراً للمُعطى السائد".
هذا الدور الذي انحاز إليه أدونيس قام به الماغوط خلال مسيرته الأدبية بامتياز، فلم يكن عطاؤه مجرد خرق بل تمرد وثورة صاخبة على السائد، فقد رفض الشكل العمودي التقليدي للشعر وأيضاً قصيدة التفعيلة، ليصبح رائداً لقصيدة النثر الجديدة، مُعبّراً عن أسباب ثورته وأحزانه المستمرة ومخاصمته للفرح.
في ديوان "الفرح ليس مهنتي"، تتجلى أسباب أحزان الماغوط في قصيدة "بدوي يبحث عن بلاد بدوية". فيها يفتقد فرصة البوح والشكوى والبكاء بين أيدي غرباء ابتعاداً منه عن شبح المحاكمة. فاستماع الغرباء سيكون متحرراً من أغراض التعقب والمقاضاة. يقول: "آه كم أتمنى لو أكون في هذه اللحظة/ محموماً في قرية بعيدة/ على سرير غريب/ وتحت سقفٍ غريب/ وامرأة عجوز لم تقع عيناي عليها من قبل/ تسألني/ وهي تعصرُ منديلها المبلّل فوق جبيني/ من أي بلادٍ أنت يا بني؟/ فأجيبها والدموع تملأ عيني/ آه يا جدّتي...".
وفي "الظل والهجير"، إحدى أهم قصائد الديوان المذكور، سجل نظرية ساخرة تحكم العلاقة بين المستبد والمقهور، فالأول يمتلك الظل والمشانق والحقول، والثاني يمتلك الهجير والأعناق والشفاه الجائعة، لذا سيرفض هذه القسمة وينام راضياً مع حبيبته على الرصيف.
متحولاً إلى جثة نافقة، تتجلى ذاته في قصيدة "واجبات منزلية"، فيطلب من حبيبته وضع كلابة في شفته السفلى لدحرجته في الوديان، ناصحاً إياها بألا تُبطئ أثناء المرور أمام سارية علم بلاده، بل تعبُر بسرعة كما المدين الذي يمر بحانوت الدائن، فرغم تحوله إلى جثة فإن ذاته تشعر بالحرج تجاه بلاده. يقول: "اغرسي كلابة في شفتي السفلى/ وجريني كالجثة النافقة/ إلى ضواحي المدينة/ ودحرجيني في أحد الوديان/ وإذا ما لمحك علم بلادي المختال/ فوق ساريته/ اعبري بسرعة/ كالمَدين أمام حانوت مُدينِه".
وفي قصيدته "اليتيم" لن يفقد أباه، بل يخسر الحرية، قائلاً: "ستجدونني هناك.. في المكتبات العامة/ نائماً على خرائط أوروبا/ نومَ اليتيم على الرصيف/ حيث فمي يلامس أكثر من نهر/ ودموعي تسيل من قارةٍ إلى قارة".
المصحف الهجري... مُساءلة المقدس
خلافاً لكثيرين من الأدباء العرب، يوظف الماغوط مفردات المقدس في إطار خطابه الثوري، ليس للبحث في المشاكل الدينية مثل وجود الله التي استهوت عدداً من الأدباء، إنما لمناقشته ومحاكمة صمته أمام قهر المستبد وخضوع الجماهير، وهو ما ظهر بوضوح في "الفرح ليس مهنتي" وكان سبباً في اتهامه بالتطاول على الذات الإلهية.
مثلاً، في مطلع الديوان قصيدة "من العتبة إلى السماء" يتساءل ببراءة عن مصير كل الصلوات والاستغاثات والنداءات المنطلقة تجاه السماء منذ آلاف السنين، هل تتجمع في السماء كالغيوم؟
"كل ما أريده هو الوصول/ بأقصى سرعة إلى السماء/ لأضع السوط في قبضة الله/ لعله يُحرّضنا على الثورة"
وفي قصيدة "مسافر عربي في محطات الفضاء" يقول: "كل ما أريده هو الوصول/ بأقصى سرعة إلى السماء/ لأضع السوط في قبضة الله/ لعله يُحرّضنا على الثورة". وفي قصيدة "الحصار" يجعل من الأديان في مجموعها شريكةً للطغاة والمستبدين قائلاً: "سأبحث عن مسبحة وكرسي عتيق/ لأعود كما كنت/ حاجباً قديماً على باب الحزن/ ما دامت كل الكتب والدساتير والأديان/ تؤكد أنني لن أموت/ إلا جائعاً أو سجيناً".
متمادياً في جرأته، يضع قصيدة "المصحف الهجري" التي تحمل مبادئ الثائر الذي يبذل كل شيء للوطن، ويطمع في عودة زمن نبلاء الخصومة، فقبل تسديد الطعنة تتلقى إنذاراً، وفي عنوانها المثير للجدل إحالة لـ"القرآن الكريم" و"الهجرة النبوية". ولاحقاً ألّف السوري خليل صويلح كتابه "محمد الماغوط: سنونو الضجر" وضمّنه مختارات للشاعر منها هذه القصيدة التي غيّر صويلح عنوانها لتصبح "أرصفة". ورغم هذه الخطوة فإن صويلح نفسه يعترف أن "الحرية هي المفتاح السحري الذي طالما بحث عنه الماغوط في عتمة الليل العربي لفتح كوة بسيطة نحو الضوء".
"قادسية" العجين و"واترلو" الحساء
يرى الناقد الأدبي المصري، وأستاذ الدراسات الأدبية في جامعة الفيوم محمد سليم شوشة أن "بعض شعر الماغوط تناسب مع طبيعته بوصفه شاعراً في المقام الأول، وخاصة في طابعه الراديكالي، ورغبته في تغيير كل شيء" وأن ثورة الماغوط "كانت ثورة جذرية وشاملة، لكن هذا بالطبع يمكن أن يكون بعيداً تماماً عن حقيقة العمل السياسي الذي لا تصح فيه هذه الراديكالية بطابعها غير المتدرج، أو بسمتها المتغطرسة المتعالية على كل واقع أو على كل حتميات الحياة وشروطها أو ما يمكن أن تجبرنا عليه من المسارات الضرورية".
ويضيف لرصيف22 أن "الماغوط كان متسقاً مع شاعريته أو مع صفته شاعراً، ولم يكن دقيقاً بوصفه سياسياً، وكان يطمح إلى المثالية ويعبّر عن الغضب والانفعال والرفض، وكلها أمور تتناسب مع حالات الشعر، ولكنه لا يمكن أن يكون شعراً معبّراً عن مرجعية سياسية صارمة أو واضحة أو حتى ذات خطوط فيها شيء من النسقية أو المنهجية".
ويرى بعض النقّاد أن المباشرة طغت على الخطاب الجمالي الشعري للماغوط، وهو ما قال به سعد الدين كليب، واعتبره شوشة مقللاً من عمر وبقاء شعره.
في قصيدة "الغجري المُعلَّب"، نرى الخبز رمزاً لثورته، وأفواج الجائعين تنشب أظافرها في الشرفات العالية، وتقع معركة فاصلة بين الفقراء والأثرياء يسميها بـ"قادسية العجين" و"واترلو الحساء"، في إحالة إلى معركة القادسية (عام 15هـ) وهزيمة الفرس أمام العرب، ومعركة واترلو (عام 1815م) وهزيمة نابليون بونابرت. ووفقاً لرؤية الماغوط فإن الانحياز للفقراء مجلبة للخوف والرعب. وبرغم ذلك، يؤكد أن لا أحد في العالم يستطيع إرغامه على شيء طالما يملك من الحياة سيجارته وعود ثقابه والشوارع التي تأويه، وكل هذه الأفكار لا تحتاج إلى أي تأمل لفهمها، بل هي واضحة ومباشرة للغاية.
"السياسة فن الممكن أو ما يصبح في الإمكان تحقيقه، أما الشاعر فيركض وراء المستحيل وغير المتاح وكل ما هو بعيد عن الإمكان، ولهذا فإن جوهر العلاقة بين السياسة والشعر وربما الإبداع الأدبي هي التناقض والتعارض التام من حيث المبدأ"
لا يتوقف صويلح عند هذه المباشرة، ويرى أن الماغوط دخل غابة الشعر بكل وحشية وأخذ يحطم الأشجار العالية بفأس حادة "ليعيد إلى القصيدة حسيتها وللأشياء ملمسها الخشن، وللحنجرة صراخها التاريخي ضد الظلم والاستبداد".
وعلى نحو ما فإن جميع الشهادات التي ضمها كتاب "محمد الماغوط: الشاعر المتمرد"، إعداد علي القيم، تمتدح في المطلق ثوريته وتمرده دون التحذير من المباشرة، أو التنبيه على استحالة تطبيق الأفكار السياسية التي حملها خطابه الشعري على أرض الواقع.
وفي هذا الصدد، وصفت زوجته الشاعرة سنية صالح حالته بـ"المأساة" مفسرة الأمر بأنه ولد في غرفة مُسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط، وفق مقدمتها لديوان "الفرح ليس مهنتي".
عيون نحو الأفق... انتظار الثورة
العلاقة بين الشاعر والسياسي يتحدث عنها سليم شوشة معتبراً أن "التقارب النسبي بينهما لا يعبّر عن الحقيقة، ففي الواقع تصل العلاقة بينهما لحد التناقض التام والرهيب، السياسي يرتبط بالواقع والعملي والمادي بكل تمثلاته الملموسة والمحسوسة، ويركز على النتيجة والأثر، أما الشاعر فيرتبط بما هو مثالي وما هو خيالي وما يصعب تحقيقه، السياسة فن الممكن أو ما يصبح في الإمكان تحقيقه، أما الشاعر فيركض وراء المستحيل وغير المتاح وكل ما هو بعيد عن الإمكان، ولهذا فإن جوهر العلاقة بين السياسة والشعر وربما الإبداع الأدبي هي التناقض والتعارض التام من حيث المبدأ".
ويقول: "التعسف الذي يحدث أحياناً حين يكون الشعر سياسياً هو مجرد شكل يتصل باستخدام الخطاب الشعري، أو عملية تتصل بتوظيف الخطابات أو تسخيرها لحمل فكر ما، أي نوع من الاستعانة بالشعر في أمر السياسة، والشاعر حين يكون سياسياً فإن ذلك يكون من قبيل الكلام والطموح والرأي فقط، أما على وجه الحقيقة فلا يمكن أن يكون الشاعر سياسياً على الإطلاق، فستظل أدوار الشاعر السياسية محصورة في مجال القول والكلام والتخيل وإنشاء النصوص".
لذا، فإن رأي الماغوط يتحدد بضرورة الثورة واستعجالها حتى وإن كانت سيئة ومخيفة، جاعلاً من الحرية أفقاً يتطلع إليها في قصيدته "كل العيون في الأفق"، متجاهلاً تيبس قدميه من انتظار الثورة، مستعداً لها كي يزغرد فرحاً رغم سياطها ورصاصها.
بكل وضوح، تكشف هذه القصيدة تصوراته للأمور في ما بعد الثورة. يقول: "سأرتمي على صدرها كالطفل المذعور/ وأشكو لها/ كم عذبني الجوع وأذلني الإرهاب/ وفي المساء/ سآخذها إلى الحواري الضيقة/ والريف المصدور/ سأجلس وإياها تحت مصابيح الشارع/ وأروي لها كل شيء/ بفمي وأصابعي وعيني/ حتى يدب النعاس في أجفانها/ وتغفو رويداً رويداً/ كالجدة أمام الموقد".
حالة شعرية في امتداح الثورة أقرب إلى روح الشعر وأبعد عن السياسة، وهو ما يكشفه البحث عن مرحلة ما بعد الثورة عند الماغوط، فنصطدم بالغياب والصمت. فقط سيأخذ الثورة ليشكو لها ولتنام أمام الموقد، وستفقد الأمواج الهادرة من الثائرين المشغولين بخطابه طريقها، فهل نسي أن يخبرنا، أم هي روح الشعر وخطابه الجمالي المتعلق بالمستحيل واللامعقول؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون