شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
أخشى عليكِ مني... كلمات تملأ القلب بالحفر

أخشى عليكِ مني... كلمات تملأ القلب بالحفر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 18 يونيو 202201:27 م

كراكيب القلب


كل يوم في الصباح كانت تنظف قلبها، تكنس كل ما علق به من كلمات الأمس، لا تترك فرصة لأي كلمة، ولو بحجم ذرة تراب، أن تشغل مكاناً به، منذ أيام أعجبتها تلك الجملة "تبدين جميلة"، فكرت أن تتركها وتنظر لها بدلاً من النظر في المرآة، لكنها تأملت شكل الكلمة، أكثر من حرف بها أشبه بحفرة، وإذا آمنت لبقاء كلمة كتلك، فربما تتعثر في قلبها وتفقد اتزانها، وربما يكون ذلك بداية لسقوطها. فكرت أن المرآة آمنة، وكنست الكلمة على الفور، ففرغ قلبها.

زجاج مهشم يوخز القلب

واظبت على فعل ذلك صباح كل يوم، فيما مضى كانت تترك الكلمات تتراكم، معتقدة أن ذلك يجعل العالم أوسع، لكن بمرور الوقت اكتشفت أن الكلمات تُضيق قلبها أكثر ما توسعه، والخدعة تكمن دوماً في البداية: تتراص الكلمات بطريقة أشبه بالمرايا، تعطي شعوراً زائفاً بالاتساع، وفجأة بدون مقدمات تتبدل بعكسها، يتحول الاتساع إلى ضيق يخنقها، توخزها الكلمات العكسية: "لم أحبك يوماً"، "تسرعنا"، "أنت لا تصلحين للحب"، "لن تحبي أبداً"، "لا أصلح لكِ"، "أخشى أن أؤذيكِ". تتذكر كل هذه الكلمات، تراكمها وتحولها إلى زجاج مهشم يوخز قلبها، حتى فكرت ذات يوم أن تنظيف الزجاج السليم آمن وأسهل من المهشم، فقرّرت أن تنظف قلبها أول بأول.

أحياناً كانت تجد كلمات غريبة محشورة في الأركان: "ربما نحتاج لفترة ننفصل بها لنعود بعدها"، لم تعرف ما إذا كانت مثل هذه الكلمات تدخل تحت بند ما يجب تنظيفه أم لا، لكن بعد تفكير، قررت أن الوعود المؤجلة تجعل قلبها في وضع الانتظار، كلمات مكركبة، أو كراكيب على شكل كلمات، لا يحتملها قلبها وهو يتعافى من الضيق، اتخذت قرارها بتنظيف كل الكلمات، وعدم ترك أي كلمة تنطوي على وعد، أو احتمال، أو انتظار، أو...

"لم أحبك يوماً"، "تسرعنا"، "أنت لا تصلحين للحب"، "لن تحبي أبداً"، "لا أصلح لكِ"، "أخشى أن أؤذيكِ". تتذكر كل هذه الكلمات، تراكمها وتحولها إلى زجاج مهشم يوخز قلبها، حتى فكرت ذات يوم أن تنظيف الزجاج السليم آمن وأسهل من المهشم، فقرّرت أن تنظف قلبها أول بأول... مجاز

ظل قلبها نظيفاً تماماً، وكانت مرتاحة لذلك، حتى أعجبتها تلك الجملة "نشبه بعضنا"، كانت على وشك إزالتها، ففيها حفر أيضاً قد تجعلها تتعثر في قلبها، لكنها قالت لنفسها إن الحفر فيها أقل إرباكاً من "تبدين جميلة"، كما أنها لن تنظر إليها كثيراً، فليس فيها شيء يغري بالنظر مثلها، يمكن فقط أن تنظر إليها كلما شعرت بالوحدة، وليس كلما شعرت بعدم الثقة في نفسها. أقنعت نفسها بذلك وتركتها.

ذلك الركن الغامض

اطمأنت حين اثبتت الأيام التالية صحة فكرتها، لم تكن تعير الكلمة انتباهاً، تنظر لها مرة أو مرتين في اليوم دون اكتراث كبير، كانت الكلمة هي التي تغير مكانها لتلفت انتباهها، تنتقل من جانب لآخر، مرة تنتقل من قسم الأصدقاء إلى قسم الأشخاص الذين يصلحون للحب، ومرة تعود إلى خانة الأصدقاء، ومرة أخرى تركن بعيداً في قسم الحب الذي يتسع لكل الإنسانية.

كان هذا الركن آمنهم، مظلماً وبعيداً ويسهل نسيانه، لكن يسهل تذكره أيضا لنفس الأسباب، ركن غامض وهادىء بلا مخاطر محتملة لأنه بلا شروط. فكرت لو تضم إليه الكلمات الجديدة الحلوة بدلاً من تنظيفها، "أرواحنا متشابهة"، "نفهم بعضنا من دون كلام"، فكرت أن هذا من شيم الإنسانية.

بدأت في زحزحة الكلمات إلى الركن المظلم، "وكأننا واحد"، "نفكر في نفس الفكرة في الوقت نفسه"... تتحول الكلمات إلى عبارات، يتراكم المزيد منها. الركن المظلم لم يعد كافياً. فاضت العبارات خارجه. كانت تضعها على استحياء في قسم الأصدقاء، معللة الأمر بأن الصداقة أسمى درجات الإنسانية، وحين فاضت الكلمات خارج هذا القسم، وبدأت تزيحها للحب، اعترفت أخيراً بأن الإنسانية تقوم على الحب، وبدونه تنهار تماماً.

كلمات بلون التوت

بدأت العبارات تتراكم، وهي تخبر نفسها أنها تستطيع تنظيفها متى شاءت، كانت تتأملها كل يوم وهي تؤكد قدرتها على ذلك، وحين دخلت تلك الكلمة الإضافية إلى قلبها "أحبك"، كانت بلون التوت الأحمر الذي تحبه، ظلت تتأملها كثيراً، أكثر من أي كلمة أخرى، انهوست بها، خافت من ذلك الهوس، لكنها لم تجرؤ على إزالتها، قالت لنفسها إنها ستزيلها متى تشاء، أقسمت بذلك عدة مرات قبل أن تنام، لكن في الصباح فوجئت بأن كل الكلمات صارت باللون الأحمر، أفزعها ذلك قليلاً، لكنها فكرت أنها صارت أجمل هكذا، وأنها لو حاولت إزالتها بلونها المصبوغ حديثاً، ربما تترك بقعاً، فكرت أن بإمكانها أن تزيلها متى تشاء فيما بعد.

استعدت لحملة تنظيف شاملة، لكنها كلما توغلت تعثرت بذكريات، المزيد من الذكريات، الكثير من الحفر، وجدت أن كل الكلمات أصبحت بلون قلبها، صارت جزءاً منه، لا يمكن أن تنظف أي منها دون أن تزيل بعضاً منه... مجاز

بدلاً من محاولة إزالة الكلمات، بدأت تبحث عن وسائل جديدة لتنظيف قلبها لا تؤثر على ما بداخله، تجلس في الشمس وتسمع أغاني عاطفية بالساعات، كانت الكلمات تتكاثر بفعل الخيال: "لو أننا معاً الآن نفترش أحد الشواطئ تحت ضوء الشمس". تكاثرت الكلمات بسرعة، فكرت أن تلك المرة مختلفة عن المرات السابقة، لأول مرة تكون للكلمات حلاوة التوت الأحمر، كلمات صحية مثله، حب صحي، يقوم على التشابه لا التنافر والشد والجذب.

استسلمت لها، دون أن تلاحظ أن عدد الكلمات التي راكمها خيالها في قلبها أكثر بكثير من عدد الكلمات التي قيلت لها فعلياً، لم تلاحظ أي شيء، فجميع الكلمات صارت باللون الأحمر.

"مرتبك، خائف، أخشى عليكِ مني"... تراكمت الكراكيب في قلبها، ولم تعد به مساحة لاستيعاب تلك الكلمات الجديدة، رفضتها، نظفت قلبها منها أول بأول، كانت على دراية بالكلمات العكسية، لكنها لم ترغب في تصديق أنها تأتي من نفس المكان الذي ملأ قلبها بالتوت.

كلمات بطعم الـ "لكن"

باتت تستيقظ كل يوم أبكر، لتنظف قلبها من المزيد "ربما أخطأنا حين..."، "كان علينا أن نتريث"، تجلس في الشمس وتستمع إلى الأغاني، تتنفس فتسمع صوت أوراق شجرة التوت في قلبها، صوت يغطي على بقية الأصوات، بقية الكلمات، الخوف، الشك، التراجع.

كثرت الكلمات، لم تكن سريعة كفاية لتنظيفها كلها، بدأت تمتزج بالكلمات السابقة فتربكها، كانت تقع عيناها أحياناً على كلمة تتخيل أنها حلوة، فتجد مرارة لم تكن بها من قبل "أحبك، لكن". صارت كل الكلمات ممتزجة بتلك الـ"لكن". استعادت كل ما حدث. هي لم تكن مكترثة من البداية. الكلمات هي التي كانت تحاول جذب انتباهها. ومثلما أخرجت المارد من ركنه المظلم، يمكنها، ليس إعادته إلى ركنه فقط، وإنما طرده إلى الخارج. فكرت أنه لا توجد إنسانية في الحياة كلها أبداً.

استعدت لحملة تنظيف شاملة، لكنها كلما توغلت تعثرت بذكريات، المزيد من الذكريات، الكثير من الحفر، وجدت أن كل الكلمات أصبحت بلون قلبها، صارت جزءاً منه، لا يمكن أن تنظف أي منها دون أن تزيل بعضاً منه، اكتشفت أن هذه المرة مختلفة فعلاً، مختلفة كثيراً، فالوخزات كانت تأتي من كل قلبها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard