حياكة الكلام
ثمة عدة أماكن يمكن أن يتوه المرء فيها، لكن لا يوجد مكان أكثر تعقيداً من مكتبة، بل إن الكتاب الواحد يمكن أن يمثل مكاناً نضيع فيه ونتوه.
هكذا وبتلك البساطة التي كتب بها أفونسو كروش هذه الجملة وجدتني أنتمي لها، أصبحت الكتب جزءاً أساسياً مني، أتجاوز الأيام بصحبتها، قطعت لي الكُتب تذكرة ذهاب بلا عودة في رحلة سفر مليئة بالسحر والجمال.
بدأت علاقتي بالكتب في سن متأخر نسبياً، كنت حينها في الصف الأول الثانوي ولم يكن لي تجارب جدية في القراءة سوى دروس المقررات الدراسية الرديئة، وبعض الكُتب التي مُنحت لي كهدية عن تفوقي الدراسي، أو تلك التي اشتريتها من حُر مالي، على كل، كان العدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة أو كلتا اليدين.
شارع النبي دانيال
في هذا الشارع بدأت رحلتي في السير نحو الكلمات، كطفل تعلم لتوه المشي بعد شهور من الحبو، أصبحت قدماي تقودني إلى هناك دون ترتيب. عدد لا بأس به من بائعي الكُتب يتجاورن كتجاور الأكتاف، ينتابني شعور بالدفأ كلما مررت فيه، أشعر أن للشارع رائحة وطعماً، حولته الكتب إلى جنة مليئة بالخيرات.أذكر زيارتي الأولى للشارع حينما عزمت على دخول عالم القراءة، سرت ليلاً تحت أضواء الإنارة الصفراء وسط حشود من الناس، أقف أمام الكُتب، أقرأ ما في ظهر الكتاب بعدما أكون قد أُعجبت سلفاً باسمه، ثم أشتري على بركة الله.
لم تكن تجربتي سيئة كونها مرتي الأولى، شيئاً فشيئاً بدأت التعرف على الأدب العربي، فأنتقل بين نجيب محفوظ وطه حسين وخيري شلبي، وأقفز عابراً المحيط إلى أدب أمريكا اللاتينة فأقرأ لغابرييل غارسيا ماركيز وإدواردو غاليانو، ثم أعبر إلى آسيا كي أستقبل هاروكي موراكامي وأعبر منه إلى الأدب الروسي بصحبة دوستويفسكي و تولستوى، وأتمرد فأقرأ في أوروبا لنيتشه وكافكا، أعبر إلى القارات السبع دون الحاجة إلى طائرة، أتعرف على الشعوب والثورات والقصائد، وأمتلك في ذاكرتي أمم بأكملها دون أن أزورها فقط بفعل القراءة.
للسير في شارع النبي دانيال أصول، فإذا كنت أمر بضائقة مادية – والحق أنني كثير الوقوع فيها – فعلىّ أن أسير في الاتجاه المقابل للكتب، حتى لا يضطرني أحدها لشرائه، فأذهب إلى البيت سيراً على الأقدام، وحينما تزدهر الحياة أسير بجانبها كالحبيب لعلني أقتنص فرصة شراء الكُتب النادرة.
"في أحيانٍ كثيرة أؤجل إنهاء حياتي من أجل إنهاء الكتاب الذي بين يدي، وحين أفرغ منه أبحث عن جديد"، فأظل أقرأ الواحد تلو الآخر، القديم فالجديد فالأجدد، وهكذا ظلت الكُتب تنقذني دائماً من الموت... مجاز
ملأت عليّ الكُتب حوائط الغرفة، وأصبح يستأنس كُل منا بوجود الآخر، بدأت أبني رفوفاً للمكتبة، وقضيت أيامي أغالب قسوة ووحشة العالم كطفل يبدد شعور خيبته من أصدقائه ويرافق الكتب، أنتقل من الشعر للأدب، ومن الأدب للتراث، ومن التاريخ للجغرافيا، اشتريت كُتباً كثيرة، كنت أقرأ لأرتوي فازداد عطشاً!
الدرع الواقي من الرصاص
أصبحت حريصاً أن أضيف إلى مكتبتي كتباً جديدة من حين لآخر، حتى لو كنت سأقراها بعد أعوام، وبالتالي وجب عليّ الاقتصاد الذي طال مصروفي في الثانوية العامة، حتى أنني أذكر قراءتي لكتاب "يوتوبيا" لأحمد خالد توفيق، قبل موعد امتحان اللغة العربية بأسبوع. كنت أقرأه خلسة، كان الكتاب صغيراً ومشجعاً للقراءة ويسهل تخبأته بين مذكرات اللغة العربية، كنت أقرأ كلما اختفت أمي عن ناظري، لدرجة أنني كنت أقرأ حتى أثناء دخولي إلى دورة المياه.منذ دخولي إلى الجامعة بدأت الكُتب ترافقني كظلي أينما ذهبت، ولكن واجهتني مشكلة كبيرة تتمثل في عدم القدرة على القراءة في المواصلات، فكنت أقضي ذلك الوقت مستمعاً للأغاني، أو أسب وألعن لأني نسيت الهاند فري، وقد اضطرني ذلك لأن أستمع لكل ما هو بغيض حتى النزول.
في القراءة، كما في الكتابة، نوع من الحرية
حاولت تغير تلك العادة وقاومتها، فبدأت بسطر فسطرين فنصف الصفحة فالصفحة كلها، وارتقى الأمر إلى العشرات من الصفحات، ثم الفصول ثم الكتاب بأكمله دون الشعور بألم الدوار والدوخة والصداع.
صحيح لا يتسنى لي فعل هذا في كل مواصلة، إما بسبب الإجهاد أو لأن السواق كثير الغُرز والمطبات، فيعيد إليك آلام الدوار والدوخة والصداع، ولكن هناك تطور ملحوظ أفضى إلى نتائج ممتازة، نتيجته أنني تغلبت على عدم القراءة في المواصلات.
كانت الكتب تساهم في قتل أوقات الفراغ بين المحاضرات، أو حتى أقرأها في المحاضرات المملة نفسها، بل وأفرح إذا ما وصلت متأخراً، فيُطلب مني أن أحضر في معاد آخر لأن هناك عشرين صفحة باقية من الكتاب، غالبني النوم دون أن أكملهم وأنا توّاق للنهاية.
هكذا توطدت علاقتي بالكتب، تصاحبنا سوياً ونحاول معاً في كل مرة فهم العالم أو السخط عليه، نداوي الألم بالألم أو بالضحك والسخرية، وفي أحيان أخرى نداعب الغريزة ونثير الشهوة ونبحث عن المقاومة أو حتى تضيق النفس، لأنها لم تظفر بما ظفر به الكاتب في حياته الشخصية، تعلم دائم ومستمر ورحلة من النشوة والسعادة لا تنتهي.
حتى أنني إذا نسيت وَضع الكتاب في حقيبتي، يزيد بي اليوم ضيقاً وحزناً، أسير فأحمل الكتاب في يدي كما أحمل البالطو على كتفي. وفي مرة وضعت الكتاب في سُترة الجاكت الداخلية وقلت لنفسي: وكأن الكتاب درع واقي من الرصاص.
لست الوحيد في العالم
بعد وقت لا أعلم بالتحديد مدته، توقفت عن القراءة، وتساءلت لماذا أقرأ؟ حتى ولو كنت مستمتعاً فما الجدوى إذا نسيت ما أقرأ؟ وما الجدوى إذا كنت لا أفهم ما أقرأ؟ وهل تغيب الحياة الحقيقة الواقعية الملموسة اذا ما استبدلتها بقراءة الكتب؟ هل يُعد ذلك جنوناً أم هو عين العقل؟ هل تستوجب تلك الكلمات والأسطر إنحناءة عمودي الفقري بالساعات؟ أخاطب نفسي ولا أجيب.
أنقذتني الكتب من نفسي، تجاوبت معي بجنوني وعقليتي، برزانتي وعفويتي، بقبحي ويأسي وآلامي، لم أكن أغالب نوبات الاكتئاب أو أرق الليل حتى عرفت الكتب، لم أنسج خيوط آرائي ومعرفتي دون الكُتب، أنقذتني الكتب من الحياة التي يغلفها الموت... مجاز
انسلخت عن الكتب وتابعت السير في طرقات الحياة دون ترتيب مسبق حتى اصطدمت – مع اتساع الحياة – بالقسوة والمرارة التي لا يعدل كفّتها الحُسن والجمال. جرعة مكثفة من الغضب والسخط والحزن دون جدوى، لم أعد أفهم أو أدرك معنى الحياة، تتوالى الليالى التعيسة على صدري كصخرة بلال، ربما لُعنت بأسطورة سيزيف، حتى أنار لي ذهني دون إنذار مُسبق مقولة العقاد: "أنا أقرأ لأن حياة واحدة لا تكفي".
ذُهلت من نفسي وقتها، هل ما أقرأه وإن نسيته سأستعيده يوماً ما، وحتى إذا لم أستعيده سيقبع في ذاكرتي اللاوعية، ثم سألت نفسي بلوم شديد: وهل من الأساس أنت تفهم الحياة أو تدرك معناها كي تستنكر عدم فهمك للنصوص، وتقول لنفسك أقرأ حتى لو لم تكن تفهم ما تقرأه؟
إن القراءة موهبة لا يقل إبداعها عن الكتابة، هذا ما لحظته بشدة بمرور الأيام، فلكل قارئ زاويته في قراءة النص وعقله في الترجمة البديعة، وحينما يجئ موعد النقاش في كتاب ما ربما تخرج بمعانٍ جديدة مما يتضمنه الكتاب نفسه، بل إن الكُتاب أحياناً يستكشفون نصوصهم من أعين القراء.
أصبحت القراءة عن القراءة لا تُمل، وأصبحت الكتب رويداً رويداً تطلعني من العالم بأكلمه، أصبح الكتاب صديقي ومعلمي الأكبر، والأهم من ذلك أنه خلصني من هم كبير يلازمني، أخيراً وجدت حلاً لأفكاري التي تتردد في ذهني دون حياء، طارقة بابي في أي وقت لتصيبني بهلع التّفكر والبحث وقلة النوم، أصبح الكتاب يجيب على أسئلتي وكأنه يناقشني، نتفق مرة ونختلف مرات، بأدب وبدون سُباب. لم أعد وحدي، لم أعد فريسة لأفكاري دون إجابة، أو على الأقل لم أعد أشعر أني الوحيد في هذا العالم الذي تؤرقه مثل هذه الأفكار.
مجاراة الموت وتجاوزه
أقول إنني أحببت الكُتب كما أحبتني، احتوى كل منا الآخر بما فيه من عيوب، نتعاقب كالشمس والقمر ونتجاور كالسماء والنجوم. داومت على اقتناء الكتب من المعارض والمكتبات، وأحياناً بالقرصنة من على الأرصفة حينما أكون مفلساً، والحق أنني مفلس أغلب الوقت، أرجو أن تسامحني دور النشر على أي حال.
بدون اللغة لا أقوى على المقاومة، بدونها أصبح خالياً من أي جديد، في كل مرة أريد فيها أن أكتب أقرأ، في كل مرة أريد فيها أن أتعلم أقرأ، في كل مرة يكون خياري أن أقرأ... مجاز
كانت الكُتب تمثل لي الملاذ الآمن، بنج الحياة الموضعي، ساحرية السينما، مجداف الحياة في بحور الغرق، تحملني الكلمات مهما كانت متواضعة إلى البرّ، فتجود لمن يحترمها بنصوص غاية في اللطف والجمال، وتمضي على مضض وتأفف، صابرة على كل من يستهزئ بها، تلك الكلمة التي تتشكل هي مخرج الحياة ولذته، حتى في الغناء يُمكن للكلمات أن تحمل على كتفها لحناً أو صوتاً ضعيفاً، بينما لا يمكن للعكس أن يحدث. حملتني الكلمات كما حملتني أمي، حنت عليّ كعصفور يحاول الطيران، آمنت بالكلمة وأصبحت رائحة الكُتب الجديدة هي أفيون سعادتي وتغيبي عن الواقع، تلبستني روح الجنون في القراءة، أصبحت ألاعب الحياة بل بتعبير أدق، أهرب منها.
هكذا، وبكل بساطة، أنقذتني الكتب من نفسي، تجاوبت معي بجنوني وعقليتي، برزانتي وعفويتي، بقبحي ويأسي وآلامي، لم أكن أغالب نوبات الاكتئاب أو أرق الليل حتى عرفت الكتب، لم أنسج خيوط آرائي ومعرفتي دون الكُتب، أنقذتني الكتب من الحياة التي يغلفها الموت.
إنني بدون اللغة لا أقوى على المقاومة، بدونها أصبح خالياً من أي جديد، في كل مرة أريد فيها أن أكتب أقرأ، في كل مرة أريد فيها أن أتعلم أقرأ، في كل مرة يكون خياري أن أقرأ، أحياناً تؤانسني الكُتب أكثر من البشر، مجرد النظر إليهم وهم بجانبي تشبع قلبي وتطمئنه، شهوة الاقتناء تملكتني، وتتحرك مشاعري في المناقشات المعرفية كأنها لم تسكن قط، تلك المناقشات التي تبقينا على قيد الحياة حقيقة لا مجازاً. في القراءة، كما في الكتابة، نوع من الحرية.
ولا يمكنني أن أختم بأفضل ما قالت له لي صديقتي ريم، أو لم تقله لي تحديداً، بل كانت تتحدث في عموم الأمر، فتقول: "أنا في أحيانٍ كثيرة أؤجل إنهاء حياتي من أجل إنهاء الكتاب الذي بين يدي، وحين أفرغ منه أبحث عن جديد"، فتظل تقرأ الواحد تلو الآخر، القديم فالجديد فالأجدد، وهكذا ظلت الكُتب تنقذها دائماً من الموت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.