برحيله صباح الخميس الموافق 7 نيسان/أبريل الجاري، تصدر الروائي الكبير مجيد طوبيا (25 آذار/مارس 1938)، قائمة أخبار المشهد الثقافي المصري، عبر تغريدات وبوستات لكتاب وروائيين مصريين على مواقع التواصل الاجتماعي، ينعون خلالها صاحب "أبناء الصمت" الذي غُيب وهُمش عمداً عن هذا المشهد لسنوات طويلة، عاش خلالها وحيداً منعزلاً بلا "ونيس"، وبلا ذكريات.
هاجمه "الزهايمر" بضراوة، لينهش ذكريات الماضي، ويُبقي على جزء بعيد من الذاكرة، تستقر به حبيبته الإيطالية كونشيتا، وقطته "سعدية" و كذلك ذكريات بعيدة مع أصدقائه الحميميين: الفنان الراحل أحمد ذكي، والأدباء الكبار نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، ويحيى حقي. غير أن القدر كان رحيماً بـطوبيا الذي رحل عن عمر ناهز الـ 84، حين أهداه صديقه الوفي الروائي فتحي سليمان.
قبل عقدين، تعارف فتحي سليمان ومجيد طوبيا في مقهى أمفتريون بمصر الجديدة، وصارت بينهما لقاءات عديدة، حتى توطدت العلاقة بينهما، ورأى سليمان أن طوبيا كمريض زهايمر، في وضع خطر، ومن ثم قرر أن يتحمل مسئوليته كاملة، خاصة بعد أن عرف أنه يعيش بمفرده بشقته بمصر الجديدة، حيث تركه الجميع لوحده، بما فيهم ما تبقى من أهله.
كان فتحي سليمان (62) عاماً، هدية الحياة لـطوبيا بعد أن بخلت عليه بكل شيء إلا الموهبة والفن؛ يذهب إليه في الصباح، يُلبي طلباته اليومية، ويتابع علاجاته، ويطبخ له الطعام، بل ويُحممه. هذا الدور الإنساني الفريد، قوبل بثناء وتقدير بالغين من جانب الكتاب والمثقفين، فالجميع قدم العزاء لفتحي سليمان باعتباره رفيق طوبيا المخلص، الذي كان خير صديق وونيس للروائي الكبير.
"هو ليس أقل من محفوظ، وليس أقل من روائيين عالميين مثل ماركيز ويوسا وغيرهم، لكننا عادة ما نكون منسحقين أمام الأدب المترجم"
ولم تتوقف مهمة فتحي سليمان عند هذا الحد، بل إنه كأحد المغرمين بكتابة مجيد طوبيا وعالمه الروائي، كان مندداً في كل الندوات واللقاءات الثقافية بالظلم والتجاهل الذي ناله طوبيا رغم أعماله الروائية والقصصية المتفردة، والتي لا تقل أهمية -بحسب تصريح سليمان لـرصيف 22- عن أعمال نجيب محفوظ.
يقول فتحي سليمان: "لقد ظُلم مجيد طوبيا، ظلماً بيناً. كان روائياً وقاصاً فذاً. هو الأكثر تجريباً وتجديداً في السرد بين أبناء جيله من كتّاب الستينيات. كتب روايات تنتمي إلى الواقعية السحرية، والفانتازيا. كما أنه كان كاتباً ساخراً من طراز فريد، لكنه هُمش بشكل متعمد، وذلك ما حدث ويحدث كثيراً في الحياة الأدبية في مصر؛ فدائماً هناك حسابات وعلاقات مصالح، وثمة أمر آخر مهم ومخجل في آن، ساهم في هذا الحجب والتهميش وهو كون مجيد قبطياً. مجيد طوبيا، كان يستحق الحصول على جائزة نوبل، فهو ليس أقل من محفوظ، وليس أقل من روائيين عالميين مثل ماركيز ويوسا وغيرهم، لكننا عادة ما نكون منسحقين أمام الأدب المترجم. إنني أضع (تغريبة بني حتحوت) بجوار أهم الروايات العالمية، وكذلك (الهؤلاء) و(غرفة المصادفة الأرضية)".
كمغامر، يطوف البلاد، ويتنقل بين العوالم، للإمساك بزهرة الوجود اليانعة، خاض مجيد طوبيا تجربته الإبداعية والفنية التي بدأها وهو في التاسعة والعشرين من عمره، بصدور مجموعته القصصية الأولى "فوستوك يصل إلى القمر" عام 1967، وكانت قصص المجموعة التي تحمس لها الكاتب الكبير يحيى حقي، تُعلن عن ميلاد كاتب، ذي حساسية خاصة، يسعى إلى البحث عن جماليات تخصه، مختلفة إلى حد ما عن كتابات أبناء جيله من كتاب الستينيات.
تتناول "فوستوك يصل إلى القمر" موضوع الحرب والسلام، منطلقة من أفكار جديدة، بلغة توصيلية، تتميز بالبساطة والتكثيف في آن. في ما بعد ستتوالى أعماله الروائية والقصصية، التي مزج فيها بين الواقعية والسخرية والفانتازيا، كما تحقق في رواياته: "غرفة المصادفة الأرضية"، "دوائر عدم الإمكان"، و"الهؤلاء".
كان طوبيا مولعاً بالفن كلعبة، فهو يُجيد بناء العوالم، يُشيدها عبر أفكاره الطازجة، ولغته البسيطة الموحية، وكذلك يُجيد توزيع الأدوار، وتقطيع المشاهد، ليشعر القراء وكأنهم يقرأون عملاً سينمائياً
أما "الهؤلاء" فهي درة أعمال طوبيا التي تتجلى فيها موهبته، ككاتب ساخر، وكذلك كفنان، يجيد ما يُسمى بـ"اللعب الفني". وربما يتضح ذلك في العديد من أعماله، فطوبيا الحاصل على بكالوريوس الرياضة والتربية بكلية المعلمين، ودبلومين في السيناريو والإخراج السينمائي، كان مولعاً بالفن كلعبة، فهو يُجيد بناء العوالم، يُشيدها عبر أفكاره الطازجة، ولغته البسيطة الموحية، وكذلك يُجيد توزيع الأدوار، وتقطيع المشاهد، ليشعر القراء وكأنهم يقرأون عملاً سينمائياً، وأصحاب هذه النظرية في الفن، غايتهم الأساسية، هي تحقيق المتعة للمتلقي.
ولعل طوبيا قد نجح في تحقيق هذه الغاية في "الهؤلاء" على وجه التحديد، وهي رواية صغيرة الحجم، يُقسمها الكاتب إلى فصول وعناوين فنية موحية: "آلة الزمن الموسيقية، الرجل المضغوط، طواف المخافر، نقوش المخفر الأربعين". وتدور أحداث الرواية في مدينة أيبوط الوهمية، ورئيسها هو الديجم الكبير، وتبدأ أحداث الرواية بالبطل وهو يقرأ كتاباً يقول إن الأرض تدور في اتجاه مخالف لدوران عقارب الساعة، ويسأل: هل الأرض تُعاكس الزمن، أم أن الساعة التي تم اختراعها بعد دوران الأرض، هي التي صممها صانعوها حسب هذا النظام الشاذ؟
هذا السؤال سيفتح باب الجحيم، في وجه البطل، الذي سيجد نفسه محاطاً بـ"الهؤلاء"، الذين سيقودونه إلى مختلف سجون أيبوط فقط لأنه يُفكر ويطرح سؤالاً. والرواية في مجملها، ترمز إلى مأزق المثقفين، في ظل دولة استبدادية، تستخدم سلطتها الأمنية في السيطرة على المواطنين، وأولهم المثقفون أو من يجرؤون على التفكير. أما "الهؤلاء" فهم المخبرون الذين تستعين بهم المؤسسة الأمنية، فيقومون في كتابة التقارير السرية عن كل من يُفكر في الخروج عن النظام، أي نظام كان.
وحين كان مجيد طوبيا صبياً في الرابعة عشرة من عمره، كان يتردد على مكتبة البلدية بمدينة المنيا (محل نشأته) بصعيد مصر، وهناك أرشده مدير المكتبة إلى الموسوعة التاريخية لـسليم حسن، والتي تتناول تاريخ مصر منذ عهد الفراعنة. قرأ الفتى الموسوعة في تلك السن الصغيرة، وترسخ في روحه وذاكرته هذا التاريخ الهائل المديد، الذي تحويه الموسوعة، وفي ما بعد، سيكتب عملاً تاريخياً فريداً هو "تغريبة بني حتحوت" التي اختيرت ضمن أفضل مائة رواية عربية في القرن العشرين.
"الهؤلاء" فهي درة أعمال طوبيا التي تتجلى فيها موهبته، ككاتب ساخر، وكذلك كفنان
تقع التغريبة في أربعة أجزاء، وتتناول التاريخ المصري منذ نهايات القرن الثامن عشر، وحتى بدايات القرن التاسع عشر، من خلال أسرة "حتحوت" التي ستخوض رحلة طويلة وشاقة ممتلئة بالمصاعب والأهوال حتى وصولها إلى السودان. استلهم طوبيا في "التغريبة"، السمات الفنية للسيَر الشعبية العربية، والتراث الحكائي المصري، حيث نسجها على منوال "سيرة بني هلال". وقد لاقت هذه الرواية التي صدر الجزء الأول منها (تغريبة بني حتحوت إلى بلاد الشمال) عام 1987، نجاحاً جماهيرياً كبيراً، وصدرت مؤخراً في طبعة حديثة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية.
ثمة تنوع هائل في الإنتاج الإبداعي لصاحب "خمس جرائد لم تُقرأ"، و"ريم تصبغ شعرها"، و"عذراء الغروب"، و"الحادثة التي جرت"، حيث جسد طوبيا موهبته الأدبية الكبيرة في كتابة العديد من الأعمال الساخرة أشهرها: "التاريخ العريق للحمير"، وهو عبارة عن مقالات هزلية، ومسرحية "بنك الضحك الدولي"، وله دراسة مهمة عن أدب يحيى حقي بعنوان "عطر القناديل"، كما أن له مجموعة مؤلفات للأطفال منها: "كشك الموسيقى" و"مغامرات عجيبة".
كتب طوبيا أيضاً سيناريوهات لثلاثة أفلام، بدأها بـ"حكاية من بلدنا" (1969)، بطولة شكري سرحان وإخراج حلمي حليم. وفي عام 1974، كان الفيلم الشهير "أبناء الصمت"، والذي اختير ضمن أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية. أما الفيلم الثالث فكان "قفص الحريم" (1986)، وهو من إخراج حسين كمال، وبطولة شيريهان ووائل نور. وعن مجمل أعماله الأدبية والفنية، حصل طوبيا على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2014 .
أدب مجيد طوبيا مجرد من زيف الأيديولوجيا، منحاز إلى الإنسانية في طريقها صوب الحرية. وكما كان مغامراً ومغرداً خارج السرب في الكتابة الإبداعية، كان كذلك في الحياة؛ أخذ طوبيا قراراً صارماً بعدم الزواج، فبعد أن فقد أمه، وعمته، وهما أكثر من أحبّ في حياته، خاف أن يذوق مرارة هذا الفقد مرة أخرى في حبيبته، فقرر أن يعيش وحيداً يؤنسه صديقه المخلص فتحي سليمان، ويمامة تُشبه عمته، بل –بحسب ما حكى لـ سليمان قبل وفاته- إن هذه اليمامة الوديعة هي عمته التي تأتي لتسامره، وتطمئن عليه، وحين يفتح صديقه الباب تذهب "العمة" إلى جنتها السماوية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع