هذه المقالة جزء من مشروع (جال) الذي يتعاون فيه "رصيف22 " و"درج" مع عدد من الجامعات والأكاديميات حول العالم لنشر جهود الباحثين/ات الشباب وتقديمها للقارئ العربي، للإضاءة على المفاهيم البحثية، والمقاربات الجديدة التي تنتجها المؤسسة العلمية، وذلك لإغناء المحتوى العربي، وتشجيع الباحثين/ات الشباب على إطلاق أفكارهم/ن خارج الجدران الأكاديميّة.
"مَن مِن الحكام حالياً شرعي، ومن لا شرعي"، طرح هذا السؤال البلاغي، وزير الخارجي الروسي سيرجي لافروف، عام 2013 في الدورة 49 من "مؤتمر ميونخ الأمني"، ليتابع بعدها طرح سلسلة من الأسئلة: "متى يكون مقبولاً التعامل مع أنظمة قمعية؟ ومتى يكون مقبولاً دعم الحركات العنفية التي تريد الإطاحة بها؟"، ليكشف بذلك موقف روسيا من الربيع العربيّ، وخصوصاً سوريا التي تدخلت فيها روسيا عسكرياً بصورة رسمية عام 2015، لإنقاذ نظام الأسد من الانهيار.
أسئلة لافروف السابقة تدفعنا لإعادة النظر في مفهوم الشرعيّة، والبلاغة السياسية وراءها، وكيف تترجم على أرض الواقع، فمنذ منتصف القرن العشرين، مارست الولايات المتحدة (وأوروبا إلى جانبها) هيمنتها العسكرية والثقافية على العالم، عبر مساءلة شرعيّة الأنظمة "الأخرى"، تلك التي لا تتطابق مع القيم التي تدعوا إليها ( الليبرالية الديمقراطية)، والتي لابد أن ينصاع لها العالم بالقوة أحياناً، وأي "نظام" لا يطبق هذه القيم، مُهدد بأن "يُزال"، وهذا ما رأيناه سابقاً في العراق، أفغانستان ثم أوكرانيا الآن.
روسيا التي لم تتدخل في الشأن الليبي، ولا تريد تكرار التجربة الشيشانيّة، وجدت نفسها أمام فرصة سانحة لإعادة تقديم نفسها على الساحة العالمية، عبر دعم النظام السوري عام 2015 والحفاظ على استمراره، دون مسائلة شرعيته أو الإشارة إلى مبادئ "الديمقراطية" التي لا يتبناها، فسؤال شرعيّة أي نظام حكم، يبدو من وجهة نظر روسيا شأناً داخلياً، وليس دولياً، ولا دور لـ"القوى الكبرى فيه"، فالتدخل في سوريا مثلاً، حسب لافروف عام 2017، كان "لإنقاذ النظام من الانهيار خلال أسابيع"، ذات الأمر سابقاً مع قاديروف، بالرغم من انتهاكات حقوق الإنسان المتهم بها، مهمته (بأمر من روسيا) هي إعادة بناء الدولة، ومع اجتياح أوكرانيا حالياً، تكشّف أكثر النموذج الروسي لـ"الغزو" و"التحرير"، لنرى أنفسنا الآن أمام موقفين أيدولوجيين من الشرعية والسيادة المحلية، وكيفية التعامل معها من قبل دولة كبرى تمتلك حق الفيتو.
لا تسائل روسيا شرعيّة الأنظمة الديكتاتورية، وترى أن علاقة هذه الأنظمة مع مواطنيها شأن داخلي، لا يجوز التدخل به أو مساءلته
"بلاغات" الغزو ومفارقاته
الملفت للنظر في النموذج الروسيّ هو توظيف بروباغاندا اللايقين كتمهيد للحرب، إذ بدأ الحديث عن الغزو الروسي عبر الإشارة إلى فيديو مفبرك لم يصور بعد سينتجه الإعلام الروسي من أجل تبرير غزو أوكرانيا، هذا الفيديو غير الموجود و"اللاحقيقة" المرتبطة به، جزء من خطة روسية للغزو، كشفتها الولايات المتحدة، واستبقت الحدث إن صح التعبير، لكن لابد من الإشارة إلى أن هذه التقنية سبق وأن نجحت في سوريا لمحاولة نفي استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية ضد المدنيين، لنصل إلى حالة من اللايقين، تنفي قدرة الصحافة على إنتاج "الحقيقة" و رصد مبررات الغزو العسكري.
حين نقارن ما سبق مع غزو العراق ، نرى أن المبرر الأمريكي اعتمد على معلومات استخباراتية، سريّة، لم يطلع عليها أحد، نُطقت علناً، مفادها أن صدام حسين يمتلك أسلحة نووية وكيماويّة، والتي، حسب جورج بوش الابن، "تهديد يجب أن يؤخذ على محمل الجد"، هذه المعلومات تبين لاحقاً أنها مغلوطة، لكنها شكلت لحظتها تهديداً لأمن العالم، لا فقط الولايات المتحدة، فالعداوة مع صدام حسين والتخلص منه يهدف لتحرير المنطقة من شروره، ذات الأمر مع طالبان التي آوت "عدوّ" الولايات المتحدة أسامة بن لادن، ولا بد من التخلص منها لإنقاذ العالم.
يتبنى النموذج الروسي في العلاقة مع "السكان الأصليين" بلاغة مختلفة عن تلك التي نتلمسها في السرديات الأوروبية والأمريكيّة، فالسكان الأصليون من وجهة نظر روسيا، أشقاء، كحالة الشعب الأوكراني (هدف بوتين بعيد المدى هو إذابة أوكرانيا في روسيا)، أو أصدقاء، كحالة الشعب السوريّ، وحسب الخطاب الرسمي الروسي، على اللاجئين السوريين العودة لبناء البلاد وتحديد شكل الدولة التي يريدونها، "فعملية الإصلاح لن تكون سهلة"، في ذات الوقت هناك رهان على تاريخ سوريا الطويل مع الاتحاد السوفيتي سابقاً، إذ تجمع البلدين علاقة صداقة وتبادل ثقافي وغيرها من المبررات التاريخيّة التي أخذت شكل دبلوماسيّة إنسانويّة، نتلمسها في زيارة طفلة سورية لبوتين، وأخرى روسية لأسماء الأسد.
الحوار الآن بين تركيا وإيران وروسيا من أجل تحديد مستقبل سوريا، ولا دور لنظام الأسد فيه بصورة فعالة، صحيح أنه لم ينهر، لكنه فقد قدرته على اتخاذ القرار
يظهر الروسي أيضاً بوصفه مدافعاً عن الشعبين الأوكراني والسوري، يقف بجانبهم ضد الإرهابيين، أما في حالة الولايات المتحدة وأوروبا، الموقف مختلف، فالتدخل العسكري يهدف لتحرير السكان الأصليين المقموعين، المحرومين من حقوقهم والمنتهكة "إنسانيتهم"، هم شعوب تمتلك "قدرات هائلة" لكنها غير قادرة على الاستفادة منها، ناهيك أنهم يعيشون في ظل ظلم يمنعهم من ممارسة "الديمقراطيّة" واستعراض هوياتهم المختلفة. هم ليسوا أشقاء أو أصدقاء، بل شعوب أقل حظاً لابد من مساعدتها.
عن الرعب، مرتان
يحوي النموذجان الروسي والأمريكي (والأوروبي) عدواً ذا خصائص واضحة، يجب الوقوف بوجهه كونه يشكل تهديداً أنطولوجيّاً. في حالة أوروبا والولايات المتحدة، العدو هو التشدّد الإسلامي، طالبان تقيم الحدود الإسلامية وتدرّب الجهاديين، تنظيم الدولة الإسلاميّة الذي استهدفه التحالف من بعيد، يهدد أمن أوروبا عبر عملياته النوعية على أراضيها، وغوايته للشباب الأوروبي الذي يترك بلاده لينضم إلى ساحات الجهاد، هذا العدو يشكل تهديداً لا يمكن رصده بدقة، والأهم، هو عدو غريب عن القيم الأوروبية والأمريكيّة، يغزو فكرياً ويرهب مدن الآمنين.
العدو في النموذج الروسي أشد وضوحاً، في سوريا كانت الحرب ضد تنظيم الدولة ومعارضي الأسد المتشددين، أما التشدد الإسلامي بشكل عام وما ينتج عنه، فلا يوصف بأنه عدو مباشر لروسيا، بالرغم من تاريخها في الصراع معه، ويتضح ذلك بتساهلها مع أشكال المقاومة الإسلامية كـ"حزب الله" أو المقاتلين الشيشان الخاضعين لأمرة قاديروف، فلا يهم ما ينتهك من حقوق إنسان، المهم أن هذا التشدد الديني غير موجّه ضد روسيا.
في الحالة الأوكرانية، تلوح روسيا بغول أوروبي من المفترض أنه غير موجود أو تمت إبادته، والمقصود هنا "النازية الجديدة" التي حاربتها روسيا وهزمتها، بل إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ذكر هذه النقطة بالذات في خطابه الأخير، مذكراً الشعب الروسي بتضحياته ضد النازيّة.
استخدام العدو النازي ذو شرعية في روسيا كما في أوروبا بأكملها، هذا عدو لابد من التخلص منه، وبالرغم من تكذيب أوروبا لادعاءات روسيا حول النازيين الجددد في أوكرانيا، لا يمكن إنكار امتلاك روسيا تاريخاً وشرعيةً عسكرية في إطلاق هكذا لفظ على "عدو"، شكل لها سابقاً تهديداً وجودياً، وهذا ما ذكره بوتين حين الحديث عن السبب الرئيسي لغزو أوكرانيا: نحن أمام عدو يهدد وجود روسيا و"لا خيار آخر" .
الرعب الثاني وشرعية الغزو تتمثل بالسلاح وأثره المدمر، حجج الحرب الأمريكيّة على "الأعداء" نابعة من خطر السلاح المدمر على العالم، نووي صدام حسين، كيماوي بشار الأسد (فكك ضمن عملية سميت ماكينة المارغريتا)، بل إن داعش نفسها قُصفت خوفاً من أن يقع كيماوي الأسد بين أيديها، ذات التهديدات تطلق على كوريا الشمالية، هناك سلاح يشكل خطراً كونياً، لابد من ضبطه والتحكم به، الملفت، أن الرعب من هكذا احتمال، لا تراهن عليه روسيا ولا تلوح به، وقالها لافروف صراحةً: "الحرب النووية في أذهان أوروبا فقط"، التهديد باستخدام النووي لم يصدر عن روسيا، التي أمنت المفاعلات التي وقعت تحت سيطرتها في أوكرانيا.
دور الدولة "المُستعمِرة"
الواضح أن روسيا لا تدمر الدولة التي تحاول السيطرة عليها بعد تجربة الشيشان، ففي أوكرانيا نحن أمام زحف عسكري تقليدي، الطائرات تؤمن الطريق للقوى الأرضية ،وتتسع رقعة السيطرة بسبب عوامل جغرافية لا يمكن تجاهلها، أما الحدود فمفتوحة لمن يريد المغادرة، لكن ما يلفت الانتباه هو عدم تدمير "الدولة" ونفي دورها في تسيير شؤون المواطنين، حتى ولو كانت هذه الدولة شديد السوء، وهذا ما نراه في سوريا بوضوح، ناهيك أن واحدة من حجج الاجتياح هي الاعتراف باستقلال وسيادة دونيتسك ودومباس، أي منح "الشعب" حق أن يكون مستقلاً.
ضمن النموذج الأمريكي الأوروبي المعاصر يوظف القصف من بعيد أو السيادة على السماء، وحين يتم الاجتياح كحالة العراق، تقع الدولة وعملتها و تفقد قدرتها على ضمان الحياة، لتتدخل مؤسسات المجتمع المدني في محاولة لسد هذه الثغرة، وتقديم المساعدات والتوعيّة الديمقراطية وغيرها، ما يحوّل شرط الاستمرار بالحياة و"العمل" أحياناً إلى مساحة أيديولوجيّة، والأهم يعزز دور القوى الغازيّة (الجيش الأمريكي في العراق أو أفغانستان) كضيوف لابد من رحيلهم في لحظة ما، هم غرباء، والتعامل معهم مشبوه دوماً.
في النموذج الروسي، الحفاظ على الدولة يأخذ شكلاً اقتصادياً واضحاً وعلنياً، إذ تقيم روسيا صفقات مع الدولة التي تغزوها وتكتسب شرعية مُحرك الاقتصاد، بل يمكن القول إنها تُخضع المساحة التي تسيطر عليها إلى سيادتها، هي ليست فقط قواعد عسكرية، كحالة قاعدة حميميم في اللاذقية في سوريا، إذ تبرم روسيا عقوداً تخضع لقوانين دولية تحميها مستقبلاً، إذ تم تأجير القاعدة في سوريا لعدد من السنوات للدولة الروسيّة، بالمقابل، القواعد الأمريكية في أفغانستان والعراق فهي مساحات محمية بالمدن، حصون لا يمكن الدخول إليها، والتعامل معها يتم بحذر شديد، خصوصاً أنها مساحات لتجارة الحرب التي تخصخص الأنشطة العسكريّة وتتعاقد مع الشركات العسكرية والمرتزقة المرخصين كـ"شركات أمنية".
إعادة النظر في "الصراع"
بعيداً عن الآنية والحميات الوطنيّة، ما تشهده أوروبا الآن، وتاريخ الصراع بين الغرب والشرق، يجعلان سؤال الشرعيّة طارئاً: من يقرر ما الذي يحدث في العالم ومن يستحق أن يحكم أو لا؟ قام النموذج الأوروبي على مركزيّة حقوق الإنسان والانتصار لقيمة "الفرد"، والنموذج الأميركي قام على محاربة الإرهاب، الخطر الذي يهدد "العالم" بأكمله، أما النموذج الروسي الذي لا يرى نفسه مُبشراً بقيم "جديدة"، فيتبنى بلاغةً لا يقدم فيها نفسه كمتفوق أخلاقياً على "أعدائه" أو "أهدافه".
لا نحاول هنا أن نكون سينيكيين أو مهادنين فيما يخص حقوق الإنسان، لكن لابد من إعادة النظر في شكل "الهيمنة" الغربية وطبيعة القيم التي تفرض على "الشعوب"، خصوصاً أننا الدول "الشرقية" الأكثر تأثراً في هذه التغيرات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...