في مثل هذا اليوم، وكما هو معروف جيداً (للسوريين على الأقل) كانت آخر المعارك السورية في زمن الانتداب الفرنسي، عند قصف العاصمة دمشق وتدمير مجلسها النيابي يوم 29 أيار 1945.
كانت معركة مفروضة على السوريين من قبل الجنرال شارل ديغول، رداً على التواصل المباشر بينهم وبين بريطانيا والولايات المتحدة، والذي أدى بدوره إلى دعوتهم ليكونوا— من دون موافقة فرنسا الحرة — أعضاءً مؤسسين في منظمة الأمم المتحدة. غضب ديغول من هذه الصفة التي مُنحت لسورية، وقرر الرد عسكرياً للتخلص من قادتها الثلاثة: رئيس الجمهورية شكري القوتلي، رئيس المجلس النيابي سعد الله الجابري، ورئيس الحكومة بالوكالة، وزير الخارجية، جميل مردم بك.
أُمِرَت عناصر حامية الدرك السوريين المرابطين على أبواب المجلس النيابي في شارع العابد أن يُنزلوا العلم السوري وأن يحيّوا العلم الفرنسي. رفض الجنود السوريون فعل ذلك، وكان الرد إطلاق النار عليهم ليسقطوا شهداءً على أبواب المجلس... 29 أيار 1945
القصة المتعارف عليها هي أن قوات السنغال التابعة لجيش الشرق الفرنسي، أمرت عناصر حامية الدرك السوريين المرابطين على أبواب المجلس النيابي في شارع العابد، أن يُنزلوا العلم السوري وأن يحيّوا العلم الفرنسي. رفض الجنود السوريون فعل ذلك، وردّ السنغاليون بإطلاق النار عليهم، ليسقطوا شهداءً على أبواب المجلس، وفي مقدمتهم رئيسهم المفوض سعيد القهوجي. ولكن ماذا عن الظرف السياسي المحيط بهذا الحدث؟ وماذا عن قادة سورية في هذا اليوم التاريخي، أين كانوا وما هو دورهم في أحداث 29 أيار 1945؟
قبل العدوان
قبل وقوع العدوان، وردت معلومات بأن الفرنسيين يريدون أن يأتوا بثلاثة أفواج من شمالي أفريقيا إلى سورية لتعزيز مواقعهم العسكرية. وصل الفوج الأول يوم 5 أيار، وكان يضم 900 عسكري سنغالي، فقدمت الحكومة السورية احتجاجاً رسمياً على لسان وزير الخارجية جميل مردم بك، الذي كان يشغل رئاسة الحكومة بالوكالة، بسبب سفر الرئيس فارس الخوري إلى مدينة سان فرانسيسكو الأميركية لحضور جلسات الأمم المتحدة. قال مردم بك: إنه ما دامت الحرب في أوروبا قد انتهت، بعد سقوط برلين وانتحار هتلر، فإن القوات الأجنبية لم يعد يحق لها دخول الأراضي السورية بدون موافقة الحكومة السورية.
رفضت فرنسا سحب قواتها، وحدثت عدة مظاهرات في دمشق، تخلّلها إلقاء قنبلة على المجلس النيابي يوم 13 أيار. وفي مساء 19 أيار، أصيب رئيس الجمهورية بنزيف في المعدة بعد عودته من اجتماع مع نظيره اللبناني بشارة الخوري، في بلدة شتورا، ما استدعى بقاءه في المنزل وتكليف مردم بك بتسيير الأمور إلى حين شفائه. كبرت المظاهرات وازداد التوتر، وفي 22 أيار أقيمت المتاريس في حمص وحماة وحلب، وفي جبل الدروز. ثم كانت الدعوة لعقد جلسة برلمانية برئاسة سعد الله الجابري، في الساعة الخامسة من يوم 29 أيار. قرر الجنرال أوليفيا روجيه، الحاكم العسكري لمدينة دمشق، بدء حملته خلال انعقاد الجلسة، واعتقال كل النواب والوزراء لإحداث فراغ دستوري وبعده انهيار كامل في صفوف حكم الرئيس القوتلي.
كانت آخر المعارك السورية في زمن الانتداب الفرنسي قصف العاصمة دمشق وتدمير مجلسها النيابي يوم 29 أيار 1945... ماذا حل بالقادة السوريين؟
لا نصاب في البرلمان
الصدفة كانت في عدم وجود نصاب قانوني لعقد الجلسة بسبب تغيّب عدد كبير من النواب، فتم تأجيل الجلسة. بقي مردم بك في المجلس قليلاً مع صديقه الجابري، ثم توجه إلى السراي الكبير في ساحة المرجة لعقد مؤتمر صحفي مع مراسلي وكالات الأنباء الأجنبية. أثناء مغادرته مبنى البرلمان، لاحظ تجمع جنود مع مدرعاتهم وعرباتهم في شارع العابد وصولاً إلى طريق الصالحية. أعلم الجابري بذلك، وطلب منه مغادرة المكان فوراً مع جميع النواب. توجه الجابري إلى فندق الأوريانت بالاس، مكان إقامته في دمشق، ومردم بك إلى السراي.
لم يكن قد مضى على مغادرة الجابري إلا دقائق عندما بدأ القصف في الساعة السابعة. غادر الجابري من الباب الخلفي، ولم يكن السنغاليون على علم بمغادرته ولا بأن الجلسة قد أٌجّلت، فدخلوا للمجلس بعد قتل عناصره، بحثاً عن رئيسه. وعندما اكتشفوا بأنه لم يكن في المجلس أي رئيس، ولا نائب أو وزير، وجهوا المدفعية نحو الأبنية السكنية واستهدفوا القلعة، وفيها قيادة الدرك والسجن المدني. وقبل مغادرة المجلس، سرقوا الكثير من الأوراق والأختام، بنية إصدار بيانات مزورة باسم الحكومة السورية. ثم غادروا المكان بعد أن أضرموا النار فيه وبدأ سلاح الطيران بقصفه.
هروب الحكومة
وعندما وصل الخبر بأن مردم بك قد وصل إلى السراي، بدأ القصف على الأحياء المحيطة به، وعلى الأوريانت بالاس، حيث كان الجابري قد وصل. لم يضربوا السراي بشكل مباشر خوفاً من مقتل الصحفيين الأميركيين والبريطانيين. ثم احتلت القوات الفرنسية مركز الهاتف وقطعت جميع الاتصالات داخل دمشق، مع فصل الكهرباء بشكل كامل عن المدينة وإغلاق حدود سورية مع كل من لبنان وفلسطين والأردن والعراق وتركيا. في الساعة التاسعة مساء، قرر مردم بك مغادرة السراي مع أعضاء الحكومة. طلب منهم أن يتفرقوا ويلجأوا إلى منازل قريبة، عن طريق الباب الجانبي للسراي المواجه لبلدية دمشق، وأن يقطعوا المسافة بينه وبين فندق أمية، متسللين خلف حاجز النهر. ومن هناك أن يدخلوا طريق البحصة، وينتشروا في الأزقة الضيقة. قال لهم: "أما الثلاثين متراً بين البلدية والفندق، فليس لكم إلا اجتيازها ركضاً وظهوركم منحنية...والأعمار بيد الله".
الوصول إلى منزل خالد العظم
وصل مردم بك برفقة وزير الداخلية صبري العسلي إلى سوق ساروجا، حيث نزلوا ضيوفاً في منزل رئيس الحكومة الأسبق خالد العظم. كان العظم خارج الحكم يومها، ولكنه حضر القصف بصفته نائباً عن دمشق، وهرب من السراي مع زملائه. وبمجرد وصولهم إلى منزله، بدأت القذائف تتساقط على أحياء ساروجا الأثرية. يتحدث العظم عن تلك الليلة الرهيبة في مذكراته قائلاً:
"أمام هذا الخطر الشديد، خطر قذائف المدفعية، بحث الحاضرون أمر الانتقال إلى منطقة أكثر هدوءاً. فقال البعض بضرورة خروج الحكومة من دمشق والاتجاه إلى عمّان، واعترض البعض الآخر على ذلك واصفاً إياه بالانهزام. ولعل كثرة القنوت واليأس تجعل المرء غير حافل بما يحيطه من أخطار، فيستسلم إلى القدر تاركاً الأمور تجري إلى مستقر لها. ومن الناس من تثور أعصابه فيصبح يقظاً متحفزاً، ومنهم من يستطيع التغلب على توترها. وكان السيد جميل مردم بك من هؤلاء الآخرين، إذ استرخى على مقعد والتفَّ بعباءة وطلب إلى الجالسين معه في الغرفة أن يرحلوا عنها أو أن يكفوا عن الكلام ليأخذ حاجته من النوم".
في تلك الليلة، انطلقت مقاومة شعبية في شوارع العاصمة، يقودها نائب دمشق فخري البارودي، أحد أركان الكتلة الوطنية. وصل إلى منزل خالد العظم وهو ينزف، بعد أن أصابته شظية في رقبته، وقال لرفاقه إن الفرنسيين يروّجون لشائعات شتى، منها مقتل رئيس الجمهورية وهرب جميع أعضاء الحكومة خارج البلاد.
في الصباح الباكر من يوم 30 أيار، توجه مردم بك إلى منزل الرئيس القوتلي في جادة بستان الرئيس، القريبة من منطقة العفيف، حيث السفارة الفرنسية اليوم، وعملا معاً على وضع مذكرات إلى الملوك والرؤساء العرب، قاموا بإرسالها تهريباً عبر معتمدين سوريين. كما صدرت قرارات صارمة عن رئيس البلاد، باعتبار أي مواطن سوري يعمل لصالح الفرنسيين من تلك اللحظة خائناً يجب محاكمته أمام القضاء، ما أدى إلى انشقاقات كبيرة في صفوف جيش الشرق، قادها الضابط الشاب أديب الشيشكلي، الذي كُتب له أن يصبح رئيساً للجمهورية بعد سنوات. وبعدها كُتبت رسائل مماثلة إلى رئيس الولايات المتحدة فرانكلين روزفلت، رئيس الحكومة البريطانية ونستون تشرشل، وجوزيف ستالين في موسكو.
هروب الجابري
أمّا عن سعد الله الجابري، فقد كُلّف بالتواصل مع جامعة الدول العربية ومع الملك فاروق، فهرب من تحت القصف بشكل هوليودي، مستغلاً وجود بطريرك موسكو في فندق الأوريانت بالاس. طلبت السفارة الروسية من الفرنسيين وقف القصف وفتح طريق آمن للبطريرك للسفر إلى لبنان، وقد دعا الأخير الجابري لمرافقته، نظراً للعلاقة الطيبة التي كانت تجمع بين الاتحاد السوفيتي وسورية. وعندما وصلت بهم سيارة السفارة الروسية إلى حدود المصنع، ترجّل الجابري شاكراً البطريرك على دعمه، وقال إنه لا يرغب في دخول لبنان تحت حماية أجنبية. استقل سيارة خاصة قام بإرسالها الرئيس سامي الصلح من بيروت، الذي وضع مكتبه تحت تصرف الجابري، إلى حين سفر الأخير إلى القاهرة لمقابلة الملك فاروق والتحدث أمام جامعة الدول العربية، حيث أعلن للعرب والعالم أن "مجزرة رهيبة قد وقعت في دمشق".
صور المقال من أرشيف الكاتب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...