ليس اتهاماً خطيراً أن أحصر مظفر النوّاب في قصيدة "وتريات ليلية"

كنت صغيراً عندما سمعت اسم مظفر النوّاب للمرة الأولى. أذكر أنني استغربت الاسم كثيراً، وذلك عندما كان أبي يتحدث مع أحد أصدقائه المهتمين بالأدب العربي، وكان محور حديثهم آنذاك قصيدة "وتريات ليلية"، وكيف أنهم كانوا يتناقلونها مسجلةً بصوت الشاعر على أشرطة كاسيت أيّام الشباب، وكيف كانت حيازة هكذا كاسيت مخاطرة بحد ذاتها.

ناقشوا وقتها بعض مقاطع القصيدة، وكيفية إلقائها من قبل مظفر النوّاب، ولا أنسى أبي عندما قلّد صوت الشاعر في مقطع "القدس عروس عروبتكم"، هذا الصوت وهذا الاسم وهذه القصيدة لم يغيبوا عن خيالي أبداً.

المعلقة الثامنة

عندما كبرت وازدادت قراءاتي الشعرية، كان لابدّ لي أن أعرّج على مظفر النواب، فهو الشاعر الذي علق في رأسي منذ أيام الطفولة ولم أنسَه أبداً.

بحثت عن دواوين له في السوق فلم أجد أياً منها، ولكنني وجدت كتاباً يحتوي على قصيدة "وتريات ليلية" وبعض القصائد الأخرى وبعض اللقاءات التي أجراها الشاعر مع مجلات وجرائد عربية مختلفة.

وقتها كنت أنهل من بحر الوتريات الليلية للمرة الأولى. صدمتني هذه القصيدة. كمية السحر الذي تمتلكه لا يوصف، وكمية الدهشة المستمرة والصور المتلاحقة التي لا تنفك تنهال عليك في أثناء القراءة لا يمكن التغاضي عنها. هي بالفعل معلقة تستحق أن تُكتَب بماء الخلود، وتعلَّق على جدران التاريخ.

كنت صغيراً عندما سمعت اسم مظفر النوّاب للمرة الأولى. أذكر أنني استغربت الاسم كثيراً، وذلك عندما كان أبي يتحدث مع أحد أصدقائه المهتمين بالأدب العربي، وكان محور حديثهم آنذاك قصيدة "وتريات ليلية"، وكيف أنهم كانوا يتناقلونها مسجلةً بصوت الشاعر على أشرطة كاسيت أيّام الشباب، وكيف كانت حيازة هكذا كاسيت مخاطرة بحد ذاته

أعدت قراءتها عشرات المرات، ولم أشبع ويمكن القول إن مظفر النواب هو ملك التناص وأستاذه في الشعر العربي، إذا جاز التعبير، غير أن النوّاب لم يرتكز على نصوص شعراء غيره أو على نصوص قرآنية أو ما شابه، لكنه ارتكز على النص التاريخي، أو فلنقل على الحوادث التاريخية التي مرت في التاريخ العربي والصراع الإسلامي-الإسلامي، والتي كان لها تأثير عظيم في تغيير مجرى مستقبل المنطقة برمتها.

استجلب النوّاب حوادث تاريخيةً، كاغتيال الحسين بن علي بن أبي طالب، والوقائع التي رافقت هذا الحدث، وأدخلها في القصيدة بشكلٍ يجبرك على التعاطف معه، مهما كان توجهك الديني والسياسي، إذ لا يمكنك إلا أن تتخيل نفسك معاصراً لهذه الأحداث.

ارتكز أيضاً على الصراع العراقي الإيراني، وعلى الصراع العربي الإسرائيلي، وعلى الأحداث التي كانت تقوم على هوامش هذه الصراعات من اجتماعات وقمم عربية ومؤتمرات سلام، وكذلك ارتكز على آهاته وخيباته وعقده النفسية والجنسية كما اتهمه البعض.

مظفر النواب هو "وتريات ليلية"، و "وتريات ليلية" هي مظفر النواب، ولكن إبداع الشاعر يمتد إلى الكثير من القصائد التي ألهبت الوجدان العربي، كالتي يقول فيها "دمشق عدت بلا حزني ولا فرحي"، وقصيدة أخرى قالها باللهجة العراقية وغناها أحد المطربين "حن وأنا حن"

مظفر النواب شاعر القصيدة الواحدة

يخبرنا التاريخ العربي عن الكثير من الشعراء الذين كانت قصيدة واحدة لهم سبباً في شهرتهم، والتي كانت زبدة إبداعهم وعصارة فكرهم، فعمرو بن كلثوم لا يمكن لأحد أن يذكر له سوى "ألا هبّي بصحنك فاصبحينا"، والبوصيري مثلاً من الصعب أن تعرف له سوى قصيدة البردة، ولا يتبادر إلى الأذهان عند ذكر أبي القاسم الشابي سوى قصيدته التي تتضمن بيته الأشهر "إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر".

وهذا سلاح ذو حدين على الشاعر نفسه. صحيحٌ أن صيته ذاع بفضل قصيدة واحدة من إبداعه، لكنّ القرّاء بعد ذلك سيحصرونه في هذه القصيدة إلى درجةٍ ستصبح فيها هذه القصيدة هي الشاعر نفسه.

مظفر النواب هو "وتريات ليلية"، و "وتريات ليلية" هي مظفر النواب، ولكن إبداع الشاعر يمتد إلى الكثير من القصائد التي ألهبت الوجدان العربي، كالتي يقول فيها "دمشق عدت بلا حزني ولا فرحي"، وقصيدة أخرى قالها باللهجة العراقية وغناها أحد المطربين "حن وأنا حن".

أنا شخصيّاً لا أجد أن حصر مظفر النواب في قصيدة "وتريات ليلية"، اتهام خطير، لأنه من الظلم أن نطلق مفردة قصيدة على هذه المؤلفة، فهي طويلة جدّاً وتمتد إلى صفحات وصفحات وتحتوي على مختلف أساليب الشعر وأفانينه، من المباشرة والرمزية والتورية والتناص والتفعيلة والنثر. هذه القصيدة هي ديوان بحد ذاته... ديوان اسمه مظفر النواب.