الحديث عن الفلسفة قد يكون حديث شجون، فتلك النبتة الغريبة دائماً تتعرض على الدوام لشتى ضروب الإجحاف والعزل والإقصاء، فما بالك إذا كان الحديث عن الفلسفة في مجتمعات الفرجة الحديثة، تلك التي في ما تفعله تحاول أن ترسم حدوداً للأفعال اليومية وتصيب الناس بنوعٍ من المخدر الذي يبلّد الأحاسيس، وتكاد تُفقد الفرد قدرته على التمييز؟
***
التفلسف هو شأن الأفراد المتوحدين، والفيلسوف يفكر لأجل نفسه، أي لأجل الآخرين وعنهم أيضاً، ولأنه يفكر لأجلهم وعنهم (ولا يعني هذا أن الآخرين لا يفكرون) ولأن الفلسفة ليست بالأمر السهل أو البسيط، يضطر الفيلسوف أحياناً إلى تبسيط فلسفته، إلا أن محاولات تبسيط الفلسفة، على أهميتها، تتضمن إجحافاً ما، فالتبسيط لا يستطيع أن يقدّم تصوراً فلسفياً وافياً لأن الفلسفة اشتغال وإبداع مفاهيمي وصيرورة وتيه وتساؤل ولايقين، ولأن للفلسفة تاريخ لا يستطيع أن يتضمنه كتاب إلا بشكل مختزل.
***
ما يفعله الفلاسفة منذ فلاسفة الطبيعة إلى عصرنا هذا هو محاولات لفهم التعقيد وجعل الحياة أكثر ألفة، لذلك فإن التبسيط إذا كان يساهم بجعل الحياة أكثر ألفة فهو يقدّم خدمة جليلة للناس. ولكن بالرغم من ذلك، هو ليس من طينة الفلسفة، ولعل صعوبة الفهم هي إحدى الأسباب التي تدفع بعض الناس إلى حب البساطة وكره التعقيد.
***
تستطيع الكتب التبسيطية أن تقدّم تصوراً عامّاً ومبدئياً عن الفلسفة، وهو تصور يغني ولكنه قد يقف عند حدود تقديم مدخل عام للتفلسف وتقديم بعض المفاتيح الأولية. أما الوسائط الإعلامية في مجتمعات الفرجة الحديثة فهي لا تكتفي بالتبسيط، بل تقدّم في الغالب، باستسهال وبصورة مخلّة ومغلوطة، محتوى عن الفلسفة يمكننا القول إن غايته تجارية بالدرجة الأولى، وفي بعض الأحيان قد يقف ذلك المحتوى ضد أن يفكر الناس أو أن يمتلكوا قدرة عالية على استخدام عقولهم، أو لنقل: قد يقف ضد التفلسف بحد ذاته.
***
للفلسفة تاريخ معقّد يعمل على مقاومة التبسيط، ما يجعلها عدوّاً كبيراً له بالرغم من محاولات التبسيط العديدة التي يقوم بها الفلاسفة وغير الفلاسفة. لكن محاولات التبسيط رغم عللها، تحمل من النبل ما يبررها، إلا أن الأهم أن الفلسفة بحاجة دائمة إلى بحثٍ وجَلَدٍ، وصبر، ومثابرة، ووحدة، وجرأة وشجاعة... وربما يجب إضافة أنها تستطيع أن تسخر من كل محاولة لتبسيطها، وكل محاولة لتطويعها أو جعلها مجرد أداة، وأن تحطّم أي تصوّر أداتي عنها، وأن تفكك المزاعم والنزعات التسلّطية التي تحاول أن تحدد لها مهاماً تدجينية وتدرجها ضمن خطة لا رغبة ولا قدرة لديها على احتمال النظر الفلسفي أساساً.
"الوسائط الإعلامية في مجتمعات الفرجة الحديثة لا تكتفي بالتبسيط، بل تقدّم في الغالب، باستسهال وبصورة مخلّة ومغلوطة، محتوى عن الفلسفة يمكننا القول إن غايته تجارية بالدرجة الأولى، وفي بعض الأحيان قد يقف ذلك المحتوى ضد أن يفكر الناس"
***
في لعبة المرايا اللامتناهية في مجتمعات الفرجة الحديثة، قد نجد مسوّغاً أو مبرراً ما للتفلسف، لكنه يأتي من "خارج الفلسفة"، والحال أن الفلسفة لا تحتاج إلى مبرر من خارجها يشير إلى أهميتها، فهي تحمل مبررها في ذاتها، إنها مبرر نفسها.
يتحدث ابن رشد مثلاً عن الفلسفة بوصفها تفكيراً ونظراً نافعاً بذاته أو بطبعه لا بأعراضه، لذلك فإن كل محاولة لتبريرها أو لإضفاء الأهمية عليها من "خارجها" قد تكون محاولة نافلة لا حاجة للفلسفة بها.
***
وحدها الفلسفة مَن يحق لها أن تحدد مهاماً لنفسها، وهذه المهام كانت على الدوام مهاماً تاريخية بطريقة أو بأخرى، أي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعصر الذي تعيش الفلسفة في أفقه وتتعامل مع إكراهاته ومحدداته. وحتى إذا امتدت مهامها على طول التاريخ الفلسفي، فإن الفلسفة تحدد لنفسها مهاماً جديدة في كل عصر.
كان "جيل دولوز" قد أشار إلى أن الفلسفة بعامة "مضاد للحمق"، وفي زمن مجتمعات الفرجة الحديثة، حددت الفلسفة مقاومة حماقات هذه المجتمعات خصوصاً كإحدى المهام التي عليها أن تضطلع بها، وشرعت بتفكيك البداهات والأنماط التي ترسّخها، لذلك فإن كل مَن يتفلسف في زمن مجتمعات الفرجة الحديثة سيجد نفسه مدعواً للانخراط في هذه المهمة.
"فاعليتنا على شبكات التواصل الاجتماعي مثلاً تعني أننا مفتوحون بطريقة ما على الآخرين ولكن بطرق وحدود يفرضها نمط التواصل الافتراضي بكل ما فيه من أوهام ومخاطر"
***
أحد مكامن الخطر في مجتمعات الفرجة الحديثة على الأفراد يتمثل بتعزيز العزلة التي سبق للمدن أن أوصلتها إلى مراحل غاية في القسوة. والفرجة بوصفها "علاقة اجتماعية تتوسطها الصور" تدّعي أنها وفّرت "للجميع" مخرجاً من انعزالاتهم، إلا أنها في حقيقة الأمر وفّرت للأفراد أفقاً يستطيع الفرد أن يكوّن فيه علاقة مع "الجميع" دون أن يكون على علاقة مع أحد، ووضعت خصوصيته تحت الخطر بشكل مستمر. إن فاعليتنا على شبكات التواصل الاجتماعي مثلاً تعني أننا مفتوحون بطريقة ما على الآخرين ولكن بطرق وحدود يفرضها نمط التواصل الافتراضي بكل ما فيه من أوهام ومخاطر، والحال أن شكل الحياة المعاصرة يتجه نحو تعزيز خطورة هذا الوضع المعيشي وتثبيت أوهامه.
***
ما يعاني منه البشر أكثر من الوحدة هو العزلة، فالعزلة انفصال وحدود وانقطاع وابتعاد وحرمان وضيق، أما الوحدة فرحابة وتعدد وانفتاح وآخرون. ولعل الجوهري أو الأهم أننا في الوحدة وحدها نستطيع أن ننصت إلى جوهر الأشياء كما يشير مارتن هايدغر، لأنها كما يقول: "لديها القدرة الأصلية على جعلنا نقيم حواراً مع جوهر الأشياء"...
إحدى مهام الفلسفة أن تنقلنا من العزلة نحو التوحد كما يشير عبد السلام بنعبد العالي، لذلك فإنها تفضح أوهام مجتمعات الفرجة الحديثة التي تدّعي أنها تكسر عزلة العالم وتفتح الجميع على الجميع، بينما هي في حقيقة الأمر تكرّس أنماطاً جديدة من الانعزال والتواصل الموهوم بالدرجة الأولى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...