شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
شهرزاد القرن العشرين... رحلة فاطمة المرنيسي في الدفاع عن حرية المرأة

شهرزاد القرن العشرين... رحلة فاطمة المرنيسي في الدفاع عن حرية المرأة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 14 يونيو 202212:48 م

تسعى المرأة إلى حماية حدودها وهويتها، وإثبات قدرتها في شتى الميادين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها. وحين نستحضر إشكالية المرأة في الخطاب العربي الإسلامي، لا يمكن ألا نتحدث عن عالمة الاجتماع المغربية، فاطمة المرنيسي.

وُلدت المرنيسي في مدينة فاس المغربية، عام 1940، في عائلة بورجوازية محافظة، والتحقت في المراحل التعليمية الأولى بالمدارس الوطنية المختلطة، وانتقلت في تعليمها الثانوي إلى مدارس الإناث التي كانت تموّلها الحماية الفرنسية حينذاك.

وفي جامعة الملك محمد الخامس، درست العلوم السياسية، ثم كسرت كل الحدود ورحلت إلى باريس، ودرست علم الاجتماع في السوربون، قبل أن تغادر إلى الولايات المتحدة حيث التحقت بجامعة برانديز، ونالت درجة الدكتوراه في الاجتماع عام 1973، لتعود بعد ذلك إلى المغرب كأستاذة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة محمد الخامس، وفي المعهد القومي للبحث العلمي.

تجاوز "الحريم"

خطاب المرنيسي مزيج فريد خلطت فيه بين العام والخاص، والتاريخي والأدبي، والفلسفي والاجتماعي. تحدثت بجرأة ولامست كتاباتها مناطق شديدة الخصوصية، مؤيدةً ومعارضةً ومراقبةً، وقررت منذ البداية أن تنصّب نفسها للدفاع عن حرية المرأة وكرامتها، في عالم يتعمد إقصاءها كونها "عورةً" و"مبتورةً" من ناحية، ومثيرةً للشبق من ناحية أخرى.

عاشت الباحثة المغربية في وسط تقليدي محاط بالأسوار. كان يُسمح لها فيه بالعديد من الأشياء، ولكن حين أتمت العاشرة من عمرها، بدأت تشعر بأنها في مجال محاصَر له أبواب موصدة، وبأن هناك حدوداً لا يمكن تجاوزها في أي حال، ولم يعد مسموحاً لها الخروج من أبواب "الحريم"، إلا بصحبة رجل من العائلة.

وعندما نتحدث عن "الحريم"، نجده مكاناً تجتمع فيه النساء ويتقاسمن الآلام والأحلام معاً، ويسافرْن بمخيلاتهن فيخترقن الحدود والزمان. والسؤال الذي أصبح اعتيادياً بالنسبة إلى المرنيسي، من قِبل الصحافيين هو: هل وُلدتِ حقاً في "حريم"؟

كانت تُدرك من خلال النظرة الحادة التي تواكب الكلمات، أنه يتحتم عليها ألا تراوغ أو تتفادي الموضوع. تقول في كتابها "شهرزاد ترحل إلى الغرب": "لن يخطر ببالي قط أن أربط ‘مصطلح الحريم’، بشيء مُبهج، خاصةً أن أصل الكلمة يعود إلى ‘الحرام’، أي الممنوع، وفي كل الثقافات يحيل بشدة على العقاب، إلى حد يجعلنا لا نربط البتة بينه وبين الفرحة".

في كتابها "نساء على أجنحة الحلم"، وهو بمثابة سيرة ذاتية وسرد لتجربة شخصية منذ الطفولة والصبا، تكشف عن النسق الثقافي السائد في العالم النسوي في أربعينيات القرن الماضي. ولكنها، في أكثر من موضع، تؤكد أن هذا الكتاب ليس سيرةً ذاتيةً، وإنما هو تجميع لأحداث متخيلة على شكل حكايات تُروى لطفلة صغيرة.

في مطلق الأحوال، اقتنعت هذه الطفلة بأن العلم هو الخلاص الوحيد من الوقوع في براثن "الحريم". ولأن الأم هي حائط الدفاع الأول، كان لوالدة المرنيسي التأثير الأكبر على تطوّرها وحبّها لذاتها وقدرتها على التفكير، فقد قالت لها منذ نعومة أظافرها: "أنت سوف تغيّرين العالم، أليس كذلك؟ سوف تقودين السيارات والطائرات، وسوف تخلقين كوكباً خالياً من الجدران والحدود"، كما روت في كتابها "أحلام النساء الحريم/ حكايات طفولة في الحريم".

وفي سياق الحكي عن "الحريم"، تحدثت المرنيسي عما أسمته بـ"الجمال النسوي بالمفهوم البليد"، أي العيون الواسعة والفم الصغير المغلق والأنف الذي بحجم القمحة. كانت النساء في الحريم يقضين معظم أوقاتهن في صناعة الوصفات المغربية التقليدية للاعتناء بجمالهن، حتى أن المرنيسي ذكرت في كتابها بعض هذه الوصفات باستفاضة.

ولكنها تمردت على هذا النسق قائلةً إن "كل هذا يروق لي، ولكنه لا يمكن أن يستغرق منّي وقتاً طويلاً، فأنتِ حُرة تفعلين بنفسك ما تشائين"، حسب ما قالت في حوار أجرته معها فاطمة الزهراء أزرويل، ونشرته مجلة عيون المقالات المغربية في العددين 9 و10، عام 1987، تحت عنوان "من الواقع النسائي الراهن إلى التراث".

لم تتحدث فاطمة المرنيسي عن حريم شرقي فحسب، بل انتقدت "حريم الغرب" وفقاً للمنهجية التحليلية الغربية ذاتها، وأكدت أن الحريم هو ذلك الإرث المشترك بين الشرق والغرب

ولكن، "ثمة مقياس آخر للجمال لا بد من إدراكه، يرتبط بما يوجد في ذهنك، فالجمال يكمن بالداخل وعلينا السعي إلى إخراجه"، كتبت في "أحلام النساء الحريم". لذلك، جعلت من مصطلح "الحريم" محور كتاباتها، لأنها عاشت تجربته في أثناء طفولتها. وبرأيها، يعكس احتقار المرأة مرضاً حضارياً ليس له علاقة بالطاقات النسائية.

المغرب عبر نسائه

ارتكزت بعض مؤلفات المرنيسي على دراسات ميدانية. استندت في كتابيها "المغرب عبر نسائه" و"صور نسائية" على مقابلات حية أجرتها مع نساء قرويات وعاملات وخادمات، واهتمت خصيصاً بالنساء البدويات، فقد "وجدتُ أن مصيرهن كبدويات أمّيات أفظع بكثير من مصير امرأة منحدرة من مدينة برجوازية. وفي كل الاستجوابات التي قمت بها معهنّ، كن يقلن لي بأن الإنسان الأمي لا حياة له وبأننا في عداد الأموات... إنهن يعشن حياتهن وكأنهن غير موجودات"، حسب ما قالت في حوارها مع فاطمة الزهراء أزرويل.

لم تقصد المرنيسي أمّية القراءة والكتابة فحسب، بل تحدثت عن أمّية الوعي المعرفي والفكري للمرأة. تقول في "أحلام النساء الحريم": "شخصٌ وحيدٌ تكمن القدرة فيه لقلب موازين المواقع، لجعل الأرض تدور عكْس ذلك الاتجاه، ذاك الشخص هو أنتن"، فهي ترى أن "الهدف الأقصى من حياة المرأة هو السعادة، ولذلك لا تضيعي وقتاً في البحث عن أسوار لكي ترتطمي بها"، حسب ما كتبت في كتابها "نساء على أجنحة الحلم".

قرأت المرنيسي التراث العربي الإسلامي مُستخدمةً آليات النقد من التراث، بحثاً في كتابات المؤرخين القُدامى، "وتقترب من النص الديني عبر سلطة التأويل، وفي تعاملها مع النص التراثي كشبكة من علاقات معرفية وسلطوية، بأن تقوم بإخضاع النص التراثي لعملية تشريحية دقيقة وعميقة تحوله بالفعل إلى مادة للقراءة، فهي تمزج المعالجة البنيوية والتحليل التاريخي للنص التراثي"، كتب ضياء الكعبي، في مقال بعنوان "فتنة الأنثى: المرأة بوصفها نسقاً ثقافياً"، نُشر في كتاب "عبد الله الغذامي والممارسة النقدية والثقافية"، وهو كتاب يجمع أوراق حلقة نقاشية أقامها قطاع الثقافة والفنون في وزارة الإعلام البحرينية.

في كتابها "الحريم السياسي/ النبي والنساء"، شرّحت حديث "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأةً". انكبّت على كتب المؤرخين منذ أن سمعت به، وسافرت لتقرأ نصوص ابن كثير، والقرطبي، والطبري، وابن خلدون وغيرهم، وتتمعن وتحلل ما بين السطور باحثةً عن الحقيقية.

تقول: "بما أنني امرأة مسلمة، فلا شيء يمنعني من القيام ببحث مزدوج: تاريخي ومنهجي حول الحديث ومَن رواه، ولا سيما الظروف التي استُعمل فيها لأول مرة".

توضح أن الحديث المروي عن "أبي بكرة"، روي للمرة الأولى بعد هزيمة السيدة عائشة في معركة الجمل. تحلل: "يجب أن تكون لأبي بكرة ذاكرة أسطورية لأنه تذكر الحديث بعد ربع قرن من موت النبي".

وفي سياق آخر، استنكرت أيضاً ذاكرة أبي بكرة المدهشة في تذكر الأحاديث السياسية، وخصوصاً المناسبة لسياق تاريخي ما. على سبيل المثال، بعد اغتيال علي بن أبي طالب، ومطالبة معاوية بالخلافة، "تذكّر" أبو بكرة حديثاً يقول: "إن الحسن بن علي سوف يكون رجل المصالحات".

وحسب كتابها، رأت أن السيدة عائشة هي أول امرأة تخترق الحدود المكانية وتصدر قراراً سياسياً. وأشارت إلى دور المرأة في حياة النبي، فلم تكن نساؤه على ساحة المعركة مجرد متفرجات، بل شاطرنه اهتماماته الإستراتيجية، فكان يسمع نصائحهن التي تكون حاسمةً أحياناً في مفاوضاته الشائكة، منوّهةً بدور أم سلمة في أثناء صلح الحديبية مع المكّيين.

حاولت ربط الحداثة بالتراث الإسلامي من خلال سبر أغوار النصوص الشرعية لتنقض المفاهيم البائدة التي اتخذت من الأديان غطاءً لإخضاع المرأة وفق مفاهيم سائدة

أما في كتاب "السلطانات المنسيات/ نساء رئيسات دولة في الإسلام"، فقد أشارت المرنيسي إلى أن غياب الامتياز في المجال السياسي بين الرجال والنساء لا يزعج المجال الإسلامي في شيء، بل يريدون في الواقع تجنب طرح المُشكلة بعمق. وذكرت أكثر من 15 امرأةً مارسن السلطة في البلاد الإسلامية، وتطرقت إلى سكينة بنت الحسين التي كانت عضوةً في مجلس قريش، وهو مجلس يوازي البرلمان الحديث، ولعبت دور المعارضة بعد اغتيال أبيها في مذبحة كربلاء.

معركة شرقاً وغرباً

قادت المرنيسي معركتها شرقاً وغرباً، وبإسهاماتها الفكرية شاركت في تصحيح تصورات الغرب عن المرأة العربية التي وصلت إليه أخبارها من خلال لوحات المستشرقين. فلم تتحدث عن "حريم" شرقي فحسب، بل انتقدت "حريم الغرب" وفقاً للمنهجية التحليلية الغربية ذاتها، وأكدت أن الحريم هو ذلك الإرث المشترك بين الشرق والغرب.

وناضلت في كتابها "شهرزاد ترحل إلى الغرب"، ضد الاستبداد الذكوري لتبين للقارئ المكانة التي منحتها الثقافة الإسلامية للمرأة، مقارنةً مع ذكورية الغرب وعلاقته بنساء الشرق. واستشهدت على حكايات شهرزاد التي طبعت الفكر الإنساني بالمغامرة النسوية والتحدي والجرأة حتى تحولت شهرزاد إلى سندباد يصول ويجول في كتاباتها.

تركت لنا المرنيسي إرثاً معرفياً من أكثر الكتب ثراءً، وجرأةً، واستنارةً، وفتحت آفاقاً جديدةً، وتُرجمت أعمالها إلى لغات عدة.

وفي كتابها "الخوف من الحداثة/ الإسلام والديمقراطية"، لم تبرّئ المرنيسي الأنظمة السياسية والديمقراطيات المشوّهة، وانتقدت زج المرأة في المجتمع كسلعة أو جارية مجردة من أي سلطات، سواء داخل الأسرة أو خارجها.

وكان آخر ما سطّرته المرنيسي، بعد ثورات الربيع العربي، وقبل أن ترحل في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، عن عمر يناهز 75 عاماً، كتاب "خمسون اسماً للمحبة/ روضة المحبين لابن القيم الجوزية". تقول عنه: "تتمثل فيه تعريفات جامعة ملخصة للخمسين كلمةً عن الحب، تسهّل على القارئ فهم ذاته دون أن يلجأ إلى محلّل نفسي"، وحاولت فيه أن تعلمنا أن كل ما آلت إليه أحوالنا يعود إلى افتقارنا إلى الحب، رابطةً بين الحب المدني والحب الرومانسي، وعادّةً أن الحب هو أساس كل العلاقات، سواء كانت سياسيةً أو عائلية.

المشكلة التي واجهتها المرنيسي ليست مشكلةً دينيةً ولا مسألة تأنيث أم تذكير، بل كانت مشكلةً إنسانيةً في أرفع صورها. فلم تحاول إقصاء الإسلام أو نفيه أو حتى اتهامه، بل حاولت ربط الحداثة بالتراث الإسلامي من خلال سبر أغوار النصوص الشرعية لتنقض المفاهيم البائدة التي اتخذت من الأديان غطاءً لإخضاع المرأة وفق مفاهيم سائدة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image