شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
أنا البدوية لم أحمل مفتاحاً قط، كل خيامي مفتوحة على السماء

أنا البدوية لم أحمل مفتاحاً قط، كل خيامي مفتوحة على السماء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 2 أكتوبر 202102:52 م

مجاز الحميم، البيوت التي نسكنها فتسكننا

                      إعداد أحلام طاهر


                             

أشعر بالبهجة كلما خرجتُ من البيت وقذفت مفاتيحي في حلق الحقيبة، أُعلّق هكذا بيني وبين نفسي. تهاتفني أميّ من جنوب دمشق. تقول بأنها حصلت أخيراً على مفتاح للبيت بعد ستة وأربعين عاماً من سكنها فيه.

أنا وأميّ عشنا بلا مفاتيح. لم تملك أمي طوال حياتها مفاتيح للجسد، لكنها أورثتني سلة كاملة من الرغبات التي لم تنفقها، كل ما امتلكته أميّ كان مفاتيح للرهبة والغربة والفقدان والصمت! كيف عشتُ عمري كله في بيت بلا مفاتيح؟ أسأل نفسي كلما تأخرت في العودة إلى البيت. أهذه محاسن من لا يمتلك مفتاحاً، يستطيع العودة متى شاء وكيفما شاء؟

أظن أن أول من اخترع المفتاح أراد أن يحفظ سرّاً ما. وحين تعيش ضمن عائلة ضخمة كعائلتي، كيف ستحتفظ بالأسرار!؟

يقال إن أول قفل يعمل بالمفتاح اخترع في مصر القديمة حوالي سنة 2000 قبل الميلاد. كان عبارة عن مزلاج خشبي كبير مثبت في البوابة من الخارج، والخارج يعني انعدام شرط الأمان، الخارج هو فقدانٌ لهذه الشروط، فقدان أمانك الشخصي يعني أن تعتني بالمفاتيح أكثر. يقوم المفتاح برفع الأوتاد من الثقوب ليتحرك المزلاج وهكذا تفتح البوابة ذات القفل، وتمضي عربة حياتي مفتوحة ومسفوحة دون أن أَلُمَّ منها قطرة واحدة. لكل قفل مفتاح، هكذا يقول العلم.

أقول حسناً أيها الشوق، سأترك لك المفتاح في شق صغير في الجدار، أو أنك ستلقاه لو جئت مبكراً تحت الحصى في حوض الأزهار المهجورة... مجاز في رصيف22

لطالما رغبت أن يكون لدي مفتاح، لذلك اشتريت، على مدار العديد من السنوات، الكثير من علّاقات المفاتيح، وأنا الآن على بُعد آلاف الكيلومترات من بيت أميّ، أحنُّ فقط لعلّاقة المفتاح الوحيد الذي ستحمله أمي، وربما لن تحمل علّاقة ستربط مفتاحها إلى طرف حجابها كما تفعل بقية النسوة حولها.

أقول حسناً أيها الشوق، سأترك لك المفتاح في شق صغير في الجدار، أو أنك ستلقاه لو جئت مبكراً تحت الحصى في حوض الأزهار المهجورة.

سأترك لك الباب موارباً لا تدع الملائكة تراك، تعال خلسة كإثم! كتبت هذا مرة للحبّ، الذي جاء إليّ بكل المفاتيح التي صنعتها أنا وحدي.

كنت قد خرجت من بيت أهلي وأنا على أبواب الخامسة والثلاثين باتجاه بيت الزوجيّة، أردت مثلما تفعل كل النساء العربيات أن أحمل معي مفتاح البيت الذي تربيت فيه، أردت حمله أو هجرانه لا فرق، لكننا كعائلة لم نمتلك يوماً مفتاحاً للباب (باب البيت أقصد). فما حاجة البدويّ للمفاتيح حين يسكن بيوت الله الواسعة! كل الخيّام مفتوحة على السماء هكذا كان يقول جدي، وبعده قلتُ أنا. أنا البدويّة التي ولدت في جنوب دمشق، لم أحمل مفتاحاً قط، لكنني جررت في السنوات الأخيرة الكثير من الأقفال خلفي، وكلها دون مفاتيح.

عبرتُ بحراً دون مفتاح، مفتاحاً للنجاة أقصد. سترة مطاطية فقط كان قد تبرع لي بها مُهرّب، لعله قال هذا مفتاح السلامة، عبرت بدولِ أوروبا الشرقية دون مفاتيح، وماذا أفعل بها وأنا أرفع طفلة إلى ظهري، وأهجر ولداً في الرابعة من العمر في بلاد أغلقت علينا بكل أقفالها مدة أربعمئة عام.

أنا البدويّة التي ولدت في جنوب دمشق، لم أحمل مفتاحاً قط، لكنني جررت في السنوات الأخيرة الكثير من الأقفال خلفي، وكلها دون مفاتيح... مجاز في رصيف22

بعد خروجي من بيت أهلي عشت دائماً في بيوت مستأجرة، يُسقطُ صاحبها مفتاحها بيدي، متعرقاً متسخاً لكثرة الأيادي التي احتضنته. أول ما كنت أصنعه بالمفتاح القديم/الجديد أن أشبكه إلى حلقة جديدة، وقبل ذلك أعمدُ إلى تعقيمه. أقوم بحفّه بشدة. أزيل آثار كل الأيادي التي سبقتني إليه، الأيادي المتعبة الحزينة والفقيرة.

في رواية "الحياة" للروائي الفرنسي غيوم ميسو، تختفي كاري البالغة من العمر ثلاث سنوات، بينما كانت تلعب الغميضة مع والدتها. لا تفسير لاختفاء الطفلة، باب الشقة موصدٌ ونوافذها مغلقة، تركض الأمّ في الشقة الواسعة وتُمنّي نفسها بالنهايات السعيدة التي تحصل في لعبة الغميضة... الانتصار على الاختفاء.

تهرع الأمّ نحو قاعة الدخول، كان الباب المصفح موصداً بإحكام، المفتاح في القفل وعُلّق في حلقة المفاتيح بالباب، مسار أمان واضح للأمّ، فلا يمكن لأي كان أن يفتح باباً من الخارج حين يكون مفتاح الداخل موجوداً في القفل. انتهت لعبة الغميضة بلا بهجة، باتصال الأمّ بالشرطة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image