حياكة الكلام
اللعنة على الأرق الذي يطاردني ويسرق النوم من عيني ولم أنل نوماً هانئاً لليلة واحدة منذ سنوات في بيت أبي. ساعات وأنا أتقلب في سريري مثل "فطيرة" يعجنها ويقلبها "فطاطري" يتعلم لأول مرة. دارت في عقلي كل الأفكار السوداء والهموم وبواقي الأحزان على من ماتوا ومن عاشوا وهم أموات. وفجأة تذكرت الجدة التي رحلت وتركتني قبل خمسة عشر عاماً، كنت أضع رأسي فوق حجرها حيث لا مهدئات أو أقراص منوم مستوردة أو هموم تنغص على حياتي، أغمض عيناي وأغط في نوم عميق يشبه نوم أصحاب الكهف، لا أدري ما يدور حولي في العالم الخارجي، ولا أكلف نفسي حتى بعد الاستيقاظ عناء السؤال عما دار وجرى وأنا نائم، يحترق العالم بأكمله طالما بيتنا ورفقائي وبيت الجدة بخير.
مرت في عقلي أحداث يوم بالكامل وأنا في طفولتي وراحت تفاصيل تلك اليوم تتحرك أمام عيني في مشاهد سينمائية، أعتقد أن ذاكرتي تحفظ تفاصيل هذا اليوم لأنه آخر عهدي مع النوم قبل أن يهجرني.
الفاكهة الشقية
كنت طفلاً شقياً لم أتجاوز العاشرة من عمري، لا أعرف سوى الاستيقاظ مبكراً، واللهو واللعب مع أصدقاء السوء، كما تلقبهم أمي التي تمنحني في الصباح قطعة خبز وكوب من الحليب يجعلاني أجري لساعات في أرض فضاء، شاء حظ صاحبها العثر أن تتحول إلي ملعب كرة قدم علي يد مجموعة من الصبية لا تعرف "الشفقة" طريقاً لقلوبهم، وكنت واحداً منهم بالطبع، بعد الانتهاء من لعب الكرة ومع اقتراب فترة الظهيرة نشعر بالجوع، وننطلق في الحقول أشبه بالجراد نأكل الأخضر واليابس.
ثمة رجل كان جالساً بين أرضه يشاهد من بعيد مجموعة من الصبية تقطف من زرعه ثمرات الطماطم خضراء اللون، إذ لم تكن قد نضجت بعد، انتفض من مكانه يجري خلفنا بكل من أوتي من سرعة، ولكنه لم يلحق بفريق تعوّد على الجري لمسافات بعيدة، عائداً للتو من مباراة كرة في ملعب مساحته شاسعة، روي بحبات عرق تسيل يومياً من فوق جبين هؤلاء الأوغاد سارقي "قوت الغلابة"، لكنه فشل في الإمساك بنا، ليقف مكانه دون أي حركة مثل "خيال المآتة" الذي يضعه في منتصف الحقل حتى يخيف الطيور. وضع الرجل يده على قلبه يتحسس دقاته بعد أن توقف عن التنهيد، وأطلق بصوت عال وابلاً من الشتائم والسباب، مع التوعد بالانتقام وأنه لن يترك حقه بعد أن حلف برحمة والده.
يعرف الأهالي والجيران بعضهم البعض عن ظهر قلب في قرى الصعيد "الجواني" جنوبي البلاد، الرجل يعرف والدي، وحتماً سوف يشتكيني عنده مع إضافة القليل من "البهارات" فوق ما حدث بالضبط، لضمان "علقة" محترمة لا تقل في سخونتها عن التي ينالها "حرامي" ضبط متلبساً وهو يسرق محفظة في سوق.
"جعان": قالتها "بهجة" بصوتها الرفيع وبتعطيش "الجيم" كلهجة أهل الصعيد، وقبل أن أنطق قالت: "اقطع لنفسك عنقود عنب". بينما وضعت براد الشاي على النار، وأمسكت ملعقة وانتشلت نملة من علبة السكر. كانت تقول إن النار الهادئة تجعل مذاق الشاي جميلاً ويحتفظ بنكهته... مجاز
رحت أتخيل نوع العقاب الذي لن يخرج عن احتمالين كلاهما مر، أما أن يطرحني أرضاً بمجرد رؤية وجهي، ثم يقيد يديّ من الخلف بحبل غليظ، ربما يترك مكانه علامات تدوم لأيام، أو الحرمان من الطعام يوماً كاملاً، والبقاء في البيت كخيمة وحيدة في الصحراء تذروها الرياح. تفكيري في العقاب لم يمنعني من الدعاء على هؤلاء الأوغاد الصغار أصدقائي، الذين تحولت على يدهم إلي لص امتلأت معدته بحبات الطماطم المسروقة، لم يقطع تفكيري سوى صوت الجدة "بهجة" وهي تنادي من بعيد بصوت ينم عن انزعاج بأن أذهب لها في الحال، رفعت يدي بصعوبة وحركة تعني أني قادم، بينما أمشي ببطء كرجل يجر إلي غرفة الإعدام ولم يتبق له في الحياة سوى دقائق معدودة.
:جعان"... قالتها بهجة بصوت رفيع
تقف "بهجة" تحتمي من الشمس والحر تحت ظل شجرة "الصفصاف"، فارعة الطول، ذات الأغصان المتشابكة، في انتظاري. قلت في نفسي لن أبوح لها عن سر ملابسي المتسخة، ما إن اقتربت منها حتى أصابتها الدهشة والذهول، وبدت على وجهها علامات التعجب وهي ترى طفلاً كأنه ولد يتيماً، لا يجد من يعتني به وينظف ملابسه التي ضلت طريقها نحو "الغسيل". سحبتني من ياقة "الجلابية" قبل أن يشاهدني الجيران على تلك الهيئة من القذارة، وتلاحقها نظرات الشماتة عند رؤية حفيدها "حافي" القدمين.
نحو ثلاثة أمتار وأنا أمشي خلفها كأسير حرب دون أنطق بكلمة واحدة، حتى دخلنا إلي حوش بيتها سبقتني هي بالدخول بينما أقف على باب البيت الذي بناه والدي لها من الطين الأسود نزولاً عند رغبتها. كان يشبه الكوخ، أمامه "فسحة" واسعة بها شجرة وحيدة من "العنب" زرعتها بيدها قبل أن تهتز بفضل الشيخوخة، كانت فروع العنب كلما كبرت تسللت فروعها فوق سطح البيت لتغطي أوراقها العريضة فراغات تركتها أعواد "السمسم والبوص" حتى تمنع نزول الشمس إلي داخل حجرة "بهجة"، بينما ظلّ شجرة الصفصاف الواقفة في الخارج يقف بالمرصاد لضوء الشمس ونتكسر حرارته على "عتبة" البيت.
فضلت "بهجة" العيش بمفردها وخدمة نفسها بعد أن مات جدي وهو في السادسة والسبعون من عمره، قبل أن أحل ضيفاً على هذه الدنيا، كان بيت الجدة عبارة عن حجرتين، واحدة تضع بها خمس دجاجات وديك وحيد، تدخل كل صباح تضع لهما بقايا الخبز الناشف في المياه وحبات الذرة، وتجني من تحتهم البيض، وتضعه داخل علبة سمن فارغة. اعتزلت جدتي الحياة في إحدى الحجرات، بها لمبة وحيدة مضاءة ليل نهار، تحول لونها إلي الأصفر الباهت، ونافذة مغلقة بألواح خشبية عليها ستارة معتمة تحجب الضوء، وسرير نحاسي مائل لونه إلى الأزرق، أعلاه وسادة بيضاء اللون.
بعد أن أطالت النظر في ملامح وجهي البائس، أمسكت بملابسي مع هزة خفيفة كانت كفيلة أن تملأ حجرتها بسحابة من الغبار. كنت أتوقع أن تضحك ولكنها لم تفعل. أحضرت إناء به ماء بارد، وسكبته على وجهي لتزيل أثار التراب الذي تحول بفضل العرق إلي طين أسود يشبه لون حجرتها.
"جعان": قالتها "بهجة" بصوتها الرفيع وبتعطيش "الجيم" كلهجة أهل الصعيد، وقبل أن أنطق قالت: "اقطع لنفسك عنقود عنب". تسلقت سور حائط متهالك قادني إلي سطح الحجرة، وقطعت عنقوداً وضعته داخل ملابسي حتى لا يقع أثناء نزولي وتنفرط حباته، بينما وضعت براد الشاي على النار، وأمسكت ملعقة وانتشلت نملة من علبة السكر. كانت تقول إن النار الهادئة تجعل مذاق الشاي جميلاً ويحتفظ بنكهته. ناولتني كوب الشاي الساخن. أخذت رشفة واحدة ووضعته على الأرض حتى يبرد، وبدأت في وصلة مديح، بل أقسمت لها أنها أفضل من يعد كوب الشاي في تلك القرية وفي قريتها التي جاءت منها، فضحكت من كلام طفل تعرف بحنكتها أنه بارع بالكذب، خاصة عندما يرتكب المصائب ليهرب من عقاب والده بعد شكاوى الجيران.
ثمة نسمة باردة تسللت بفضل فروع شجرة الصفصاف، جعلتها تصمت وغطت في نوم عميق كعادتها في الظهيرة، يداعب الهواء وجهها الذي حفره الزمن بالتجاعيد بعد أن وقفت على مشارف الثمانين من عمرها، ويحرك، على استحياء، شعرها الأبيض المنسدل على الوسادة. أغلقت عينيها الخضراوين كأنها طفل رضيع. كانت الورود تزين فستانها الذي تحرص دوماً أن تظهر به أمام جيرانها كي تبدو سيدة عجوز أنيقة، كان جسدها النحيل لا يتحرك طيلة المدة التي قضيتها في حجرتها.
قصة حب أسطورية
غلبني النعاس وفرشت "حصيرة ناعمة" فوق الأرض ونمت بجوارها، ولم أستيقظ إلا على صوتها وهي تنادي علي. فتحت عيني لأجد أن الليل قد دخل بوحشيته، أخبرتني أني نمت من الظهيرة حتى المساء، لأكثر من عشر ساعات، كادت أن تقطعها أمي وتوقظني قبل غروب الشمس، لكن منعتها الجدة واستأذنت منها في مبيتي عندها تلك الليلة. تناولت معها طعام العشاء الذي أرسلته أمي. كان عبارة عن خبز وبعض اللحم المقدد، داخل طاجن كبير تحيطه "البامية" من كل جانب. ناولتني فطيرة وبدأت أكل بنهم شديد بعد ساعات الجوع والنوم. كان بجوارنا الشاي يغلي على النار.
. أخبرت "بهجة" أن رجلاً شاهدني مع أصدقائي ونحن على وشك سرقة بعض حبات الطماطم، قالت وهي تمسح يدها بقطعة قماش: "اوعدني مش هتعمل كده تاني". كان أول وعد أعرفه في حياتي... مجاز
سألتها هل أخبرتها أمي عن رجل من جيرانا اشتكي مني لأبي في النهار فردت بالنفي. أخبرتها أن رجلاً شاهدني مع أصدقائي ونحن على وشك سرقة بعض حبات الطماطم، قالت وهي تمسح يدها بقطعة قماش: "اوعدني مش هتعمل كده تاني". كان أول وعد أعرفه في حياتي.
حاولت أن أتكلم في موضوع آخر قبل أن تتذكر لي مصيبة أخرى من مصائبي التي لا تنتهي. وضعت رأسي على حجرها وبدأت تحكي لي عن مغامرات جدي الذي شاهد "عفريتاً" في إحدى الليالي وهو يروي قطعة أرض مزروعة بالفلفل والباذنجان، تقول: في البداية ظهر على هيئة رجل تبدو عليه علامات الوقار وطلب منه سيجارة، وقبل أن يمد جدي يده في جيبه ليخرج له واحدة من علبة سجائره، تحول الرجل في غمضة عين إلي أرنب أبيض اللون. في ذلك الوقت، كانت تنتشر في الصعيد قصص شبيهة بتلك القصة، بنفس التفاصيل مع اختلاف الأماكن والشخصيات، عن عفاريت يظهرون بالليل ويتفننون في تخويف من شاء حظه العاثر أن يمر في طريقهم.
تقول الجدة لي قبل أن أشكك في صحة القصة، ولكي تضفي عليها نوعاً من الواقعية، أن عقول الأطفال الصغار لا تصدق شيئاً عن عوالم العفاريت، وكيف يتفننون في تخويف الناس، بل وصل الأمر أنهم يعقدون المراهنات فيما بينهم على من يتطوع ويقوم بتخويف القادم إليهم، ويضحكون عندما يفشل أحدهم في المهمة ويخسر الرهان. كنت أعرف أن القصة من وحي الخيال، تقولها حتى يدب الخوف في قلبي ولا أخرج من البيت في ساعات الليل المتأخرة. كانت أمي هي الأخرى تحذرني من الخروج في الليل حتى لا يفتك بي "أبو رجل مسلوعة"، أو تسحبني النداهة ناحية النهر، ويكون مصيري الغرق بعد أن تجذبني "جنية البحر" ويستقر جسدي في القاع ويذوب في الماء.
بعد مرور عام ماتت "بهجة"، ونشفت جذور شجرة العنب حتى ماتت، وقطعت شجرة الصفصاف، وسقط حائط من حجرتها، وأخذت إحدى حفيداتها دجاجات الخمس والديك، أما نصيبي فكان النوم الذي شبعت منه في حجرتها... مجاز
غيرت الجدة القصص عن والعفاريت وعالمهم، وحكت لي للمرة الخامسة فوق المئة عن قصة القرية التي ولدت فيها، والتي تقع على الجانب الآخر من الشاطئ، ويفرق بينها وبين قريتنا نهر النيل. أن جدي شاهدها في إحدى الأيام في سوق القرية، الذي يقام يوماً واحداً كل أسبوع، ولا يقتصر على أبناء القرية بل يجمع الغرباء من القرى المجاورة، ووقع في حبها وغرامها من النظرة الأولى، وتقسم أنه مشي خلفها حتى باب منزلها، دون رهبة أو خوف من أن يفتك به أحد من عائلتها، إذ إن ما فعله جريمة لا تغتفر في عرف وتقاليد الصعيد وأحكامه، وجلس أمام منزلها حتى عودة والدها وطلبها للزواج، وكانت حينها طفلة لما تكمل الحادية عشر من عمرها.
تضحك وهي تقول أن المركب كاد أن يغرق بهما في النهر بسبب الظلام الدامس في تلك الليلة أثناء ركوبها معه قادمة من قريتها شرق النيل والتي تقع في حضن الجبل الشرقي، والتي لم تعاود إليها سوى أربع مرات فقط منذ زواجها من جدي، الذي لا تمل من حكاية قصة الحب الأسطورية التي جمعت بينهما، وفي كل مرة أسمعها بنفس الحماس وكأني أسمعها للمرة الأولى.
دارت عيني في أرجاء الحجرة حتى وقعت على صندوق خشبي يميل لونه ناحية الخضار، عليه قفل بني اللون، كنت أعرف أن بداخله صورة جدي، وكان لدي فضول لرؤية ملامحه. طلبت منها أن أرى الصورة. رفضت في البداية، وبعد إلحاح فتحت الصندوق وأخرجت صورة قديمة، أبيض وأسود، لرجل طويل القامة، أسمر الوجه، تبدو عليه علامات الهيبة، يرتدي جلباباً أسود. خطفتها من يدي وأدخلتها بسرعة في الصندوق، وأخرجت مكحلة فارغة أفنتها المراود، ثم نمت بعدها وكنت كلما أردت النوم الهادئ لساعات طويلة أذهب إلي بيت "بهجة".
وبعد مرور عام ماتت "بهجة" ونشفت جذور شجرة العنب حتى ماتت، وقطعت شجرة الصفصاف، وسقط حائط من حجرتها، وأخذت إحدى حفيداتها دجاجات الخمس والديك، أما نصيبي فكان النوم الذي شبعت منه في حجرتها التي ربما كان قلبها أوسع منها، وضاع صندوق "بهجة"، وضاعت معه المكحلة وصورة جدي، وضاع النوم الذي هجرني وحل مكانه الأرق والتعب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...