رسمياً، قرّر الرئيس التونسي قيس سعيّد، تغيير تاريخ ذكرى الاحتفال بالثورة، من 14 كانون الثاني/ يناير، إلى 17 كانون الأول/ ديسمبر، وذلك خلال إشرافه على اجتماع مجلس الوزراء.
وجاء في بلاغ رئاسة الجمهورية، أن "رئيس الجمهورية استهلّ أشغال المجلس الوزاري، بالإشارة إلى إدراج نقطةٍ إضافيةٍ على جدول الأعمال، تتعلّق بمشروع أمرٍ رئاسي، لتنقيح الأمر المتعلّق بضبط الأعياد التي تُخوّل تمتّع أعوان الدولة بعطلةٍ، وعدّ يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر من كل سنة، عيد الثورة، بدلاً من 14 كانون الثاني/ يناير".
ورأى قيس سعيّد أن يوم الانفجار الثوري في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010، الذي انطلق من سيدي بوزيد، هو التاريخ الأجدى بتخليد الثورة، قائلاً: "للأسف، تم احتواء الثورة حتى يتم إقصاء الشعب عن التعبير عن إرادته، وعن الشعارات التي رفعها".
قرار سعيّد أثار تبايناً في المواقف، لكنه ليس مفاجئاً، لأن رئيس الجمهورية كان قد أكّد خلال إشرافه على أعمال مجلس الوزراء، يوم 18 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أن "17 كانون الأول/ ديسمبر، هو عيد الثورة، وليس 14 كانون الثاني/ يناير، الذي تمّ فيه الإجهاض على الثورة، حتى تبقى المنظومة قائمةً، وحتى يتواصل النهب، وحتى تكون تونس دولةً ذات نظامين؛ نظام ظاهر لا يتحرك إلا ضمن الدائرة التي وضعها النظام الخفي... عيد الثورة يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر، وربما يوم 24 كانون الأول/ ديسمبر، حين قيل: الشعب يريد إسقاط النظام".
وفي كلمةٍ ألقاها من مقرّ محافظة سيدي بوزيد، في 20 أيلول/ سبتمبر 2021، أكّد رئيس الجمهورية أن التاريخ الحقيقي لثورة تونس هو 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010، اليوم الذي انطلقت فيه الثورة من سيدي بوزيد، وليس 14 كانون الثاني/ يناير، "تاريخ إجهاض الثورة"، وفق تقديره.
رفض واسع لتغيير تاريخ عيد الثورة
جُوبِه قرار تغيير موعد الاحتفال بعيد الثورة، برفضٍ شعبي واسع. وتعليقاً على هذا القرار، قال القيادي في حزب التيار الديمقراطي، غازي الشواشي، أن الثورة التونسية دخلت التاريخ، وتم التنصيص عليها في توطئة الدستور، بثورة 17 كانون الأول/ ديسمبر، و14 كانون الثاني/ يناير، أي تاريخ اندلاع شرارة الثورة، وتاريخ سقوط النظام الدكتاتوري.
رأى قيس سعيّد أن يوم الانفجار الثوري في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010، الذي انطلق من سيدي بوزيد، هو التاريخ الأجدى بتخليد الثورة
وتابع في حديثه إلى رصيف22، عادّاً أن "تاريخ الثورة جزء من ذاكرة الشعب التونسي، ولا يخضع للشهوات والرغبات"، وتساءل: "على أي أساس تم تغييره، خاصةً وأن التونسيين رسّموا التاريخ، وسجّلوا المواعيد بدمائهم الطاهرة؟".
كما شدّد على أن أي محاولة لتغيير التواريخ، "تُعدّ تزويراً للتاريخ، ولذاكرة شعب بأكمله"، و"أن رئيس الجمهورية منفصل عن الواقع الذي تعيشه البلاد، من أزمةٍ اقتصادية وسياسية واجتماعية وعلمية، ويطمح لتحقيق مشروعه الهلامي".
وقال الشواشي: "كلّ تدخّلٍ في المواعيد التاريخية، هو تزييف من شأنه أن يفرّق التونسيين، في الوقت الذي تحتاج فيه تونس إلى وحدةٍ صمّاء لإنقاذ الدولة من الانهيار.
ورأى القاضي ورئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء، والرئيس السابق والشرفي لجمعية القضاة التونسيين، أحمد الرحموني، أن "إرادة الرئيس، وبصفةٍ سحريةٍ، يمكن أن تغيّر دستورنا وتاريخنا، وحتى أسماءنا، وتواريخ ولاداتنا". وتابع في تدوينةٍ له: "أيا مبروك علينا انفجار الثورة! أيا مبروك العيد الجديد: 17 كانون الأةل/ ديسمبر، تاريخ انفجار الثورة، وإلى الجحيم العيد القديم: 14 كانون الثاني/ يناير، تاريخ وأد الثورة! الزعيم قرّر، ولا معقّب على حكمه، ولكم حرية التعليق! وللشعب أن يلاحظ كيف أن إرادة الرئيس، وبصفةٍ سحرية! يمكن أن تغيّر دستورنا، وتاريخنا، وحتى أسماءنا، وتواريخ ولاداتنا! الفارق كبير: 14 كانون الثاني/ يناير، لم يكن إلا دستوراً -أو قانوناً- على المقاس، أما 17 كانون الأول/ ديسمبر، فهو فكرة الرئيس -الرئيس وحده- التي تحوّلت إلى قانون!".
"قذافي جديد"
بدورها، كتبت الناشطة السياسية، نزيهة رجيبة، بسخريةٍ في تدوينةٍ لها، متمنيةً ألا يغيّر أسماء أشهر السنة بدورها: " إن شاء الله برك ما يبدللناش أسامي شهور العام، ويولي عندنا: شهر النوار، وشهر الربيع، شهر الطير، وشهر الماء، وشهر التمور، وشهر الحرث... إلى آخره".
وكتب المدير التنفيذي لمرصد الحقوق والحريات، مروان جدة، في تدوينةٍ له: "وجد الزعيم القائد (القذافي)، الأمة مجتمعةً باعتماد التقويم الهجري (الذي أقرّه عمر بن الخطّاب)، أو الميلادي (إفرنجي-مسيحي)، فلم يعجبه ذلك -كالعادة- ‘من أنتم حتى تختاروا هذه التواريخ؟ هذي آخرتها؟’، ثم قرر أن يكون التأريخ بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلّم، لا بهجرته (أعظم وأدقّ حدث توافقت عليه الأمة)، ولا بالتاريخ الميلادي الذي تعتمده دول العالم كلها! ولم يكتفِ ملك ملوك إفريقيا بذلك، بل إنه ابتدع أشهراً لا توجد في غير جماهيريته، الاشتراكية العربية العظيمة. شهر النار، أو أين النار؟ (...). ولولا ‘الغزو’ الذي قادته القوى الإمبريالية والتوسعية، المستعينة بخونة الداخل من المأجورين، والشياطين، و’المحربشين’، لتمكّن القائد من تغيير مواقيتنا كلها، أسبوعاً أسبوعاً، ويوماً يوماً، وساعةً ساعةً! لكن اللي خلف ما ماتش... القذاذفة موجودون، وسيغيّرون الأعياد، ويعيدون الأمجاد... ‘ثوار... أبو منيار... سنعيد شهر النار’".
"تاريخ الأمم ليس نزوةً من نزوات الحكّام، هو ملك للشّعوب، وليس ملكاً لأيّ حاكم"
وبيّن الأمين العام للحزب الجمهوري، عصام الشابي، في تدوينةٍ له، أن "يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر، مثّل تاريخ اندلاع شرارة ثورة الحرية والكرامة، بعد تراكمات نضالية امتدّت على عقودٍ من الزمن، فيما مثّل تاريخ 14 كانون الثاني/ يناير، إنتصاراً لإرادة التونسيين، وفتح صفحةً جديدةً في تاريخ تونس... من لم يشارك في فعاليات الثورة، يريد اليوم إعادة كتابة تاريخها، وتقسيم التونسيين، في الوقت الذي هم فيه بأمسّ الحاجة إلى توحيد جهودهم، لتجاوز أزمةٍ طالت أكثر من اللزوم".
كما رأى النائب في البرلمان المجمّدة أشغاله، عبد اللطيف العلوي، أن "تاريخ الأمم ليس نزوةً من نزوات الحكّام، هو ملك للشّعوب، وليس ملكاً لأيّ حاكم"، وأضاف في تدوينةٍ له: "التّفريق بين 17 كانون الأول/ ديسمبر و14 كانون الثاني/ يناير، هو استمرار للنّهج نفسه في تقسيم الشّعب، وضربٌ لرمزيّة سقوط الطّغاة التي توافق العالم كلّه على أنّها تكون بتاريخ سقوط الأنظمة، وليس ببداية الحراك الثّوري. هو قتلٌ آخر للثّورة التونسية، ولرمزيّة شارع الثّورة، ولرمزيّة الوحدة الوطنيّة التي جسّدها 14 كانون الثاني/ يناير، إذ اجتمعت فيه كلّ فئات الشعب من الدواخل، ومن السواحل، ومن كل المشارب الفكرية، والمستويات الاجتماعية. ومع ذلك، فإنّ دستور الثورة قد تصدّى لهذه الإشكاليّة المفتعلة، بمزج التاريخين، وسمّاها ثورة الحرية والكرامة، 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010، و14 كانون الثاني/ يناير 2011. يوم 14 كانون الثاني/ يناير، لم يكن وهماً، كنّا هناك، وأسقطنا الديكتاتور، وانطلقت شرارة الربيع العربي، كحركة تحرّر قومية عربية من المحيط إلى الخليج، وكملهمة للإنسانية قاطبةً، وامتدّت إلى عواصم غربية وأمريكية لاتينية كثيرة، ردّدت كلّها نشيد "إذا الشّعب يوماً أراد الحياة!".
وأضاف النائب: "عشر سنوات من عمري، وأنا أحتفل كلّ عام بالثورة في شارع الثّورة، ولن يأتي اليوم من يصحّح لي حياتي، وأحلامي، وذكرياتي. لتحتفل الدولة بما تريد، ومتى تريد، أمّا أنا، فحياتي ملكي وحدي، وليست ملكاً للدّولة، و14 كانون الثاني/ يناير، هو قطعة من كبد حياتي، وسأظلّ أحتفل به حتى يقضي اللّه أمره".
من جهته، يرى الصحافي والمحلل السياسي، زياد الهاني، أن "اعتزام قيس سعيّد إصدار أمرٍ لإلغاء الاحتفال بموعد 14 كانون الثاني/ يناير، عيداً للثورة، وعدّه انقلاباً عليها، يمثّل حلقةً أخرى من حلقات تقسيمه للتونسيين، وضرب وحدتهم، والانقلاب على دستور 27 كانون الثاني/ يناير 2014، دستور ثورة الحرية والكرامة، الذي أصبح في حكم المنعدم عمليّاً".
"عشر سنوات من عمري، وأنا أحتفل كلّ عام بالثورة في شارع الثّورة، ولن يأتي اليوم من يصحّح لي حياتي، وأحلامي، وذكرياتي. لتحتفل الدولة بما تريد". تغيير تاريخ عيد الثورة يثير جدلا في تونس
وأضاف في تدوينةٍ له: "تلك اللحظة الثورية التاريخية التي يسعى قيس سعيّد إلى تغييبها، طمساً لتخاذله بتغيّبه عنها، وهو الذي لا تربطه أي علاقة بأي نضالٍ وطني، أو حراكٍ من أجل الديمقراطية، بما يفسّر عقدته تجاهها، وحقده عليها؛ جسّدت انتصاراً لنضالات الحرية، والتضحيات التي سبقتها، وفتحت الباب مشرعاً أمام تونس، لتصنع الأمل، وتبني مساراً ديمقراطياً حقيقياً نجحت في التقدّم فيه ببطء، على الرغم من كل العثرات".
"17 كانون الأول/ ديسمبر"، عيد الثورة ولكن...
رأى الباحث الجامعي والناشط السياسي، الأمين البوعزيزي، أن الثورات تاريخ ورموز ومضامين، والثورة التونسية تم التنكّر لتاريخها، وترذيل رموزها، وتعثير مضامينها.
ويضيف البوعزيزي، في حديثه إلى رصيف22، أنه في غياب الديمقراطية، واختراق السيادة، وتردّي الوضع الاجتماعي، يُعدّ تغيير تاريخ عيد الثورة أبشع استغلالٍ لهذا التاريخ، قائلاً: "فعلاً الثورات تؤرَّخ ببداياتها، بأول حدثٍ فيها، واعتماد أي تاريخ آخر هو ضحكٌ على الذقون، ونوع من التحايل على التاريخ، لكن تغييرها في هذا الظرف هو استغلال لها".
بدوره، أكّد كاتب عام الاتحاد الجهوي للشغل في محافظة سيدي بوزيد، لزهر القمودي، أن تغيير تاريخ الاحتفال بالثورة هو مطلب شعبي، لأن 17 كانون الأول/ ديسمبر، هو العيد الأساسي للثورة، والثورات تؤرَّخ ببداياتها، وانطلاق الشرارة الأولى لها.
وأضاف في تصريح لرصيف22، أن يوم 14 كانون الثاني/ يناير، كان يوم إضرابٍ عام في تونس، ويوماً مشهوداً، لكنه ليس تاريخ العيد الوطني للثورة، ومع ذلك فإننا لا نعدّه يوماً للانقلاب على الثورة، أو يوم إجهاضها.
جدلية تاريخ عيد الثورة
الاختلاف حول تحديد تاريخ عيد الثورة، انطلق إبّان الثورة التونسية مباشرةً. فالبعض يرى أن عيد الثورة يتحدد بهروب زين العابدين بن علي، وسقوط نظامه، والبعض الآخر يحددها باندلاع شرارة الثورة، يوم أضرم محمد البوعزيزي النار في نفسه، بعد مصادرة عربة الخضار الخاصة به، من قبل السلطات البلدية. وللقطع مع هذا الجدل الذي تواصل لسنوات، أنهى دستور 2014، الذي عُطّل العمل به قبل أشهرٍ، بقرارٍ من الرئيس سعيّد، الجدل بالنص في توطئته، على ثورة 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010، و14 كانون الثاني/ يناير 2011.
توطئة الدستور لم تنهِ الجدل داخل المجتمع، فقد دأب أهالي محافظة سيدي بوزيد على الاحتفال بعيد الثورة يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر، فيما تحتفل سائر المحافظات الأخرى به يوم 14 كانون الثاني/ يناير، وهو يوم عطلة رسمية، كونه التاريخ المعترَف به، سواء في تونس، أو في الخارج.
تغيير تاريخ عيد الثورة فكرة ذهب إليها الرئيس السابق للجمهورية التونسية، منصف المرزوقي، خلال فترة توليه الرئاسة، لكنه لم يبلورها على أرض الواقع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...