شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"هل أمّك سعيدة؟"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأربعاء 8 يونيو 202201:09 م
سألت شقيقتي الكبرى: "هل أمي سعيدة؟" فردّت دون تفكير: "لا" دُهشتُ من يقينها، فقد قالت إن الأمهات عادة لا يكنّ سعداء، ولا يعشن حياتهن الخاصة، بل يستمددن فرحتهن من فرحة أولادهن. هكذا كانت أمي. ويبدو أنه حال كل الأمهات. أفنت أمي عمرها في العمل المنزلي وكرست حياتها لخدمة خمسة أبناء وزوج، لا تنتهي طلباتهم. لم أسألها يوماً: هل أنت سعيدة؟. ولم أعرف أيضاً هل هي تعِسة. كل ما أعرفه هو أنّي في كل مرة وجدتها تبتسم من قلبها، كانت الابتسامة من أجلنا. 

أفنت أمي عمرها في العمل المنزلي وكرست حياتها لخدمة خمسة أبناء وزوج، لا تنتهي طلباتهم. لم أسألها يوماً: هل أنت سعيدة؟. ولم أعرف أيضاً هل هي تعِسة. كل ما أعرفه هو أنّي في كل مرة وجدتها تبتسم من قلبها، كانت الابتسامة من أجلنا

إنكار الذات  

اعتادت أمي أن تفترش مطبخنا الصغير أو أنْ تجلس على ذاك المقعد الخشبي ذي الأرجل القصيرة وتضع طبق الطعام بين ساقيها لتأكل. سألتها مراراً: "لماذا تأكلين في المطبخ ولا تجلسين معنا؟". تقول إنها اعتادت ذلك. وتبتسم راضية دون شكوى، فيمرّ الموقف المتكرر. لا أعرف تحديدًا متى بدأتُ أسمع منها جملة: "أنا مش مهم"، ولكن من المؤكد أنها لا تفكر في نفسها على الإطلاق. منذ أن كنت في السادسة أو السابعة من عمري، وأنا أتذكرها تستيقظ بعد أذان الفجر، تدور في أرجاء البيت، وتبدأ بإطعام الطيور أعلى سطح المنزل. ثم تجهز لنا طعام الفطور وتساعدنا في ارتداء ملابس المدرسة. لا تتوقف ولا تطلب الراحة. وكيف تنشدها وهناك خمسة أفواه - عدا الزوج -ينادونها في آن واحد. 

لا أعرف تحديدًا متى بدأتُ أسمع منها جملة: "أنا مش مهم"، ولكن من المؤكد أنها لا تفكر في نفسها على الإطلاق.

يعطيها أبي بعض النقود لتشتري لنا ملابس أو حلوى أو فاكهة. أسألُها أو تسألها أختي: "وماذا ستشترين لك يا أمي؟" فترد: "أنا مش مهم". ظلّت تردّد هذه الجملة طوال الوقت. في فترات تعليمنا، عندما لم تكد النقود تكفي لدروسنا، وعندما كانت أمّي تتألم من شيء ما ونعرض عليها الذهاب للطبيب، كانت تردّ بكل يقين: "صحتي تمام. لا أحتاج لدكتور". لسنوات، كانت تنكر أمي نفسها وتعيش لنا، سعادتها في أن ترانا سعداء، وأن يكون لدينا كل ما نحتاجه. أتساءل باستمرار: "كيف تقوى على كل ذلك؟". تنام عدداً قليلاً من الساعات ولا ينتهي عملها معنا، كما لا تنفد طلباتنا. كنا نجلس في الغرفة نشاهد التلفزيون، مسلسل "الثامنة" في فترة التسعينيات. تحب أمي أن تتابعه. وقتذاك كانت تفاجأ  بأي عمل يشغلها عنه. أذهب لأناديها لتتابعه معنا فترد: "احكي لي ما حصل في الحلقة عندما ينتهي عملي". يطرق الباب، وتلتصق أعيننا بالشاشة ولا ينهض أحد منا لفتح الباب، فتنهض أمي دون سؤال. 

عندما كانت أمّي تتألم من شيء ما ونعرض عليها الذهاب للطبيب، كانت تردّ بكل يقين: "صحتي تمام. لا أحتاج لدكتور". لسنوات، كانت تنكر أمي نفسها وتعيش لنا، سعادتها في أن ترانا سعداء، وأن يكون لدينا كل ما نحتاجه.

بعدما كبرت قليلاً، بدأت أفكر في أحوالها. حاولت أن أتذكر تحديداً متى بدأت أمي تتناول طعامها في المطبخ. ولكنّي لم أستطع أن أحدّد تلك اللحظة أو أنْ أعرف الحدث الذي بدأت بعده تبتعد وترضى بالقليل، وتسعد بالفتات، وتعيش على البقايا. أخيراً سألت كلاً من صديقاتي وأصدقائي المقربين: "هل أمك سعيدة؟". اكتشفت من صمت بعضهم وذهول آخرين أنّ السؤال ليس سهلاً. قالت واحدة: "أنا لم أفكر في هذا الموضوع من قبل". وقال آخر: "لا أعرف، ولكن أعتقد أنها ليست سعيدة". ردت الثالثة عليّ قبل أيام من كتابة هذه الكلمات: "الأكيد أنّ أمي لم تفعل يوماً شيئاً خاصاً ترفه به عن نفسها. وهل من السهل أن تكون الأمهات سعيدات؟". زادت حيرتي مع كل هذه الإجابات المختلفة. ربما، فعلاً، لا تعيش الأمهات لحظات حقيقية من السعادة، بينما يُفرض عليهن الواقع الكثير من الأحزان والضغوط. 

سعادة حقيقية أم عادة؟ 

لفتت نظري باستمرار سعادة الأم المبالغ فيها يوم زواج ابنتها. تلك الفرحة المعكّرة بالدموع تذرفها الأم حزناً على فراق الابنة، ولكن هذه الدموع لا تنفي أنها اللحظة التي انتظرتها طوال حياتها. ولم أفهم يوماً لماذا تنتظر الأمهات تلك اللحظة وتسعى لها بهذا القدر. في يوم زفاف شقيقتي، كادت أمي تطير من الفرحة. لقد أعانها الله هي وأبي وتمكّنا من تزويج ابنتهما. هكذا شعرت، الفرحة تظهر على وجهها، ثم وجدتها تبكي. وسرعان ما ذهبت الفرحة وحلّ مكانها التفكير في أمور شقيقتي بعد الزواج والانشغال بكل توابعه. فهل ما شعرت به هو سعادة حقيقية أم مشاعر تعيشها الأم على سبيل العادة؟ 

لماذا نبكي على "ست الحبايب"؟ 

لم أستطع يوماً أن أتحكم بدموعي فور سماعي أغنية المطربة المصرية السورية فايزة أحمد، وهي تغني كلمات الشاعري المصري، حسين السيد، "ست الحبايب". أتساءل: "هل هذه الأغنية كُتبت للأبناء حتى يبكوا؟" ظننتُ أنّ الأمر متعلق بي وبحساسيتي تجاه الكلمات، ولكن الأمر متكرر مع كثيرات غيري. يبكين رغم أنّ أمهاتهن على قيد الحياة. فهل نبكي على حالهنّ أم على مصيرنا الذي سيكون مماثلاً؟ 
رابط خفيّ يجمع بين الأمومة والبكاء في أذهاننا وقلوبنا. الأمومة تُتَرجم في مجتمعاتنا العربية على أنها الشقاء، التفاني، التضحية، كسر النفس، والرغبات، وتحوُّل الأمهات إلى شموع تحترق لخدمة الغير. ربما هذا ما يجعلنا نبكي على حالنا وحال كلّ أم يرهقها الجميع دون رحمة. 

لم أستطع يوماً أن أتحكم بدموعي فور سماعي أغنية المطربة المصرية السورية فايزة أحمد، وهي تغني كلمات الشاعري المصري، حسين السيد، "ست الحبايب". أتساءل: "هل هذه الأغنية كُتبت للأبناء حتى يبكوا؟"

تخبرني صديقتي قبل أن تنجب طفلها الثالث وهي تبكي أنها لم تعد قادرة على التحمل، وأنّ هذا الحمل كان غلطة، فتضحك أمي من كلامها وتقول: "ستقدرين... الأمهات قويّات". لم أفهم الجملة فهماً كاملاً. وكدت أسألها: "وهل الأمهات سعيدات؟" ولكنّي لم أقدر على السؤال. بأيّ قدر يمكن أن تكون أمي سعيدة وهي أنجبت خمسة أبناء وبنات، وقد ماتت واحدة منهن في سنّ الشباب؟ هل تستطيع أن تعيش تلك الحالة الرمادية بين السعادة والتعاسة غير المفهومة؟ هل تقاوم من أجلنا أم من أجل المهام التي كُتبت عليها وهي في سن الرابعة عشرة عندما تزوجت من أبي؟ المهام التي يقوم بها عدد كبير من الفتيات في كل بقاع الأرض. 
لم تصيّف أمي يوماً، ولم تطلب أن تتنزه أو "تغيّر جو" في أي مكان في الدنيا.
لم تصيّف أمي يوماً، ولم تطلب أن تتنزه أو "تغيّر جو" في أي مكان في الدنيا. لم تلتق صديقاتها مرةً، ولم تسافر خارج القرية إلا عندما جئت أنا إلى القاهرة للعمل وعشت فيها، فزارتها بعدما أصبح لي بيت فيها.  قبل أن أنجب ابنتي الأولى، كنت اتصل بها كل يوم لأسألها عن كل صغيرة وكبيرة. عاشت معي قلقي لحظة لحظة. شعرت أنها هي من ستلد للمرة السادسة ولست أنا. سمعت أدعيتها لي، ودُهشت لأمرها. فالمرأة التي أصبحت جدة منذ سنوات ما زالت كما هي، تعيش لنا ولأحفادها. تنتظر أن نجتمع لنلتف حولها فتطلق ضحكاتها الخجولة. ما زالت تقول "أنا مش مهم".  قررت في المرة المقبلة التي أقابلها أن أسألها: "لماذا لا ترين نفسك مهمة؟ لماذا لا تضعين احتياجاتك في الأولوية حتى بعدما انتهت مهمتك في تربيتنا؟". عندما أراها ثانية وبعد أن أقبلها وأحتضنها، سأسألها بشجاعة ودون تردد: "أمي، هل أنت سعيدة؟". ربما، وقتذاك، سأسمع إجابة لا نعرفها نحن الأبناء ولا تعترف بها بقية الأمهات. 



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard