أفنت أمي عمرها في العمل المنزلي وكرست حياتها لخدمة خمسة أبناء وزوج، لا تنتهي طلباتهم. لم أسألها يوماً: هل أنت سعيدة؟. ولم أعرف أيضاً هل هي تعِسة. كل ما أعرفه هو أنّي في كل مرة وجدتها تبتسم من قلبها، كانت الابتسامة من أجلنا
إنكار الذات
اعتادت أمي أن تفترش مطبخنا الصغير أو أنْ تجلس على ذاك المقعد الخشبي ذي الأرجل القصيرة وتضع طبق الطعام بين ساقيها لتأكل. سألتها مراراً: "لماذا تأكلين في المطبخ ولا تجلسين معنا؟". تقول إنها اعتادت ذلك. وتبتسم راضية دون شكوى، فيمرّ الموقف المتكرر. لا أعرف تحديدًا متى بدأتُ أسمع منها جملة: "أنا مش مهم"، ولكن من المؤكد أنها لا تفكر في نفسها على الإطلاق. منذ أن كنت في السادسة أو السابعة من عمري، وأنا أتذكرها تستيقظ بعد أذان الفجر، تدور في أرجاء البيت، وتبدأ بإطعام الطيور أعلى سطح المنزل. ثم تجهز لنا طعام الفطور وتساعدنا في ارتداء ملابس المدرسة. لا تتوقف ولا تطلب الراحة. وكيف تنشدها وهناك خمسة أفواه - عدا الزوج -ينادونها في آن واحد.لا أعرف تحديدًا متى بدأتُ أسمع منها جملة: "أنا مش مهم"، ولكن من المؤكد أنها لا تفكر في نفسها على الإطلاق.
عندما كانت أمّي تتألم من شيء ما ونعرض عليها الذهاب للطبيب، كانت تردّ بكل يقين: "صحتي تمام. لا أحتاج لدكتور". لسنوات، كانت تنكر أمي نفسها وتعيش لنا، سعادتها في أن ترانا سعداء، وأن يكون لدينا كل ما نحتاجه.
سعادة حقيقية أم عادة؟
لفتت نظري باستمرار سعادة الأم المبالغ فيها يوم زواج ابنتها. تلك الفرحة المعكّرة بالدموع تذرفها الأم حزناً على فراق الابنة، ولكن هذه الدموع لا تنفي أنها اللحظة التي انتظرتها طوال حياتها. ولم أفهم يوماً لماذا تنتظر الأمهات تلك اللحظة وتسعى لها بهذا القدر. في يوم زفاف شقيقتي، كادت أمي تطير من الفرحة. لقد أعانها الله هي وأبي وتمكّنا من تزويج ابنتهما. هكذا شعرت، الفرحة تظهر على وجهها، ثم وجدتها تبكي. وسرعان ما ذهبت الفرحة وحلّ مكانها التفكير في أمور شقيقتي بعد الزواج والانشغال بكل توابعه. فهل ما شعرت به هو سعادة حقيقية أم مشاعر تعيشها الأم على سبيل العادة؟لماذا نبكي على "ست الحبايب"؟
لم أستطع يوماً أن أتحكم بدموعي فور سماعي أغنية المطربة المصرية السورية فايزة أحمد، وهي تغني كلمات الشاعري المصري، حسين السيد، "ست الحبايب". أتساءل: "هل هذه الأغنية كُتبت للأبناء حتى يبكوا؟" ظننتُ أنّ الأمر متعلق بي وبحساسيتي تجاه الكلمات، ولكن الأمر متكرر مع كثيرات غيري. يبكين رغم أنّ أمهاتهن على قيد الحياة. فهل نبكي على حالهنّ أم على مصيرنا الذي سيكون مماثلاً؟لم أستطع يوماً أن أتحكم بدموعي فور سماعي أغنية المطربة المصرية السورية فايزة أحمد، وهي تغني كلمات الشاعري المصري، حسين السيد، "ست الحبايب". أتساءل: "هل هذه الأغنية كُتبت للأبناء حتى يبكوا؟"
لم تصيّف أمي يوماً، ولم تطلب أن تتنزه أو "تغيّر جو" في أي مكان في الدنيا.لم تصيّف أمي يوماً، ولم تطلب أن تتنزه أو "تغيّر جو" في أي مكان في الدنيا. لم تلتق صديقاتها مرةً، ولم تسافر خارج القرية إلا عندما جئت أنا إلى القاهرة للعمل وعشت فيها، فزارتها بعدما أصبح لي بيت فيها. قبل أن أنجب ابنتي الأولى، كنت اتصل بها كل يوم لأسألها عن كل صغيرة وكبيرة. عاشت معي قلقي لحظة لحظة. شعرت أنها هي من ستلد للمرة السادسة ولست أنا. سمعت أدعيتها لي، ودُهشت لأمرها. فالمرأة التي أصبحت جدة منذ سنوات ما زالت كما هي، تعيش لنا ولأحفادها. تنتظر أن نجتمع لنلتف حولها فتطلق ضحكاتها الخجولة. ما زالت تقول "أنا مش مهم". قررت في المرة المقبلة التي أقابلها أن أسألها: "لماذا لا ترين نفسك مهمة؟ لماذا لا تضعين احتياجاتك في الأولوية حتى بعدما انتهت مهمتك في تربيتنا؟". عندما أراها ثانية وبعد أن أقبلها وأحتضنها، سأسألها بشجاعة ودون تردد: "أمي، هل أنت سعيدة؟". ربما، وقتذاك، سأسمع إجابة لا نعرفها نحن الأبناء ولا تعترف بها بقية الأمهات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 17 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين