شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"لا يمكن أن تكون كالبقية"... الأمّ كما كتب عنها أدباء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 21 مارس 202011:05 ص

لطالما شعرتُ أنّي أم لأمي. 

كثيراً ما كُتب عن الأم. وكثيراً ما قيل. ولكن، دون مبالغة، وبعيداً عن الدراميات، أليس في "الرُوح" (لا القلب) ما هو أكثر؟ وألا تخدعنا تعابيرنا في معظم الأحيان؟

أدباء كُثر حاولوا سرد ما تعنيه الأمومة. حاولوا قول ما يعجز البعض عن قوله. كتبوا عن علاقة عشقية-إنسانية امتزجت فيها مشاعر متناقضة. فكما في الأم الأمان. كذلك فيها الخوف. خوف دائم على قلبها الزجاجي.

في ما يلي بعض القصص/الكتابات.

قلبي يدق كأني على موعد مع حبيبتي

اعتُبر الروائي المصري إحسان عبد القدوس (1919 - 1990) أحد أهم الأعلام الأدبية في تاريخ مِصر الحديث لأسباب عدّة من بينها جمعه بين الكتابة الأدبية والسياسية، ونشأته في أسرة متناقضة. جدّه الشيخ رضوان كان أحد خريجي الأزهر، شغل منصب رئيس المحاكم الشرعية وكان "شديد التمسّك بأوامر الدين"، بينما عشق والداه (محمد عبد القدوس وفاطمة/روز اليوسف) الفن ومارساه. 

سُجن عبد القدوس ثلاث مرّات بسبب آرائه السياسية. في إحدى المرّات، عام 1954، انتقمت له والدته الفنانة والصحافية (اللبنانية الأصل) حينما "تجاهلت في مجلتها 'روز يوسف' كلّ أخبار الضبّاط وعلى رأسهم أخبار تحرّكات الرئيس المِصري آنذاك جمال عبد الناصر. وكتب الصحافيون في المجلة العديد من المقالات عن حملة الاعتقالات ضدّ كل الأصوات الحرّة. وفي إيحاء بليغ، كانت تنتهي تلك المقالات بـجملة 'وكأن مصر ما زالت في عهد الاحتلال البريطاني، والحكم الملكي، وكأن ما حدث يوم 23 يوليو 1952 ليس له وجود (في إشارة إلى ثورة 23 يوليو التي قادها ضباط جيش مصريون ضد الحكم الملكي)'".  

وكان عبد القدوس قد اعتقل لكتابته مقالاً عن "الجمعية السرية التى تحكم مصر".



علاقة عبد القدوس بوالدته كانت استثنائية كما يحكي كتاب "إحسان عبد القدوس معارك الحب والسياسة 1919-1990" للكاتبة الصحافية زينب عبد الرزّاق. عمِلَ معها في مجلة روز اليوسف وكتب هذه السطور عن أول أيامه في مقرِّ المجلة: 

"في هذا اليوم الذي كنتُ أشعر فيه بالاطمئنان على يومي وغدي، كنتُ أنتظرها لتدخل إلى مكتبي -كعادتها- بعد أن تتم جولتها في الدار. كنت أنتظرها وقلبي يدق، كأني على موعد مع حبيبتي، وهي بالفعل حبيبتي. 

"كنت أنتظرها وقلبي يدق، كأني على موعد مع حبيبتي، وهي بالفعل حبيبتي".

وقد استسلمت لنشاط أمي. إن أمي لا يمكن أن تكون كبقية الأمهات. وبدأتُ أراها كبيرة -كبيرة جداً- إنها ليست مجرد أم، لا. وبدأت أذيب نفسي لألحق بها في نشاطها، لأرتفع إليها… لم أستطع، كلما ارتفعت خطوة، رأيتها أكثر ارتفاعاً، مما كنت أظنّ. أمي صنعتني بيديها كما صنعت مجدها بيديها وجعلت من نفسها (سارة برنار الشرق) كما أطلق عليها نقّاد ذاك الزمن. لا تحمل شهادة مدرسية أو تأهيلاً علمياً ورغم هذا أخرجت جيلاً كاملاً من الكتّاب السياسيين والصحافيين. هي التي أرشدت أقلامهم". 

والدته رغم عشقها له لم تكن متهاونة في العمل إلى حدّ أنها طردته مرّة. قال في فقرة تلت روايته طريقة طرده:

"هي أم حنون مرهفة العاطفة إلى حد أنها تبكي أحياناً وهي تقبلني... تكاد تشعرني أنها ابنتي، أكثر منها أمي، فأضمها بين ذراعي وأسند رأسها على صدري، وأغمر جبينها الطاهر بقبلاتي كأنها تحتمي بي. قسوتها مغلفة بالحبّ". 

وصف قلبها بـ"القوي الذي تفيض نبضاته حتى تشمل الحياة كلها" وأشار إلى أن "المجتمع المصري كله كان حائراً أمامها: كيف استطاعت أن تجمع بين جهادها الشاق المضني الذي بدأته وهي في السابعة من عمرها (بعدما فقدت والديها واعتنت بها أسرة لبنانية، حتى انتقلت إلى مصر)، وبين واجبها كزوجة وأم؟". 



كتب عبد القدوس عن اللحظات الأخيرة التي جمعته بوالدته منذ أن تلقى اتصالاً مشؤوماً يُخبره بأن والدته تعبة، راوياً لحظات قيادته سيارته وهو يُحاول طرد كلّ الأفكار السوداوية التي تراوده، مُقنعاً نفسه بأن "لا شيء يستطيع أن يسكت هذا القلب، حتى الموت". روى عبد القدوس: 

"لقد أقنعت نفسي، لا بد أنها أكلت شيئاً دسماً، فعاودتها نوبة المرارة. يا سلام يا ماما! لماذا لا تحترسين؟ لماذا لا تسمعين كلام الطبيب؟ لماذا لا تخضعين لأوامره وتعليماته؟ إنك عنيدة دائماً. وتقسين على نفسك حتى وأنت مريضة.

لم يتكلم الطبيب. ولكن سمعت صوتاً يقول البقية في حياتك. أحسستُ كأن شفتي قد انفرجتا وانطلقت منهما صرخة: البقية في حياتك؟ هذا التعبير لا يقال لي. إني لا أرضى ببقية حياة. وليس لي حياة كاملة إلا مع أمي". 

بدأ الأصدقاء يتوافدون ولكنه لم يتقبل موتها كما لم يتقبل أن تجري الحياة بشكلها الطبيعي. يقول إن حبّه للكتابة ورغبته في العودة إليها دفعاه للاقتناع بأنه "ليس في عالم آخر" وأن "الحياة لم تتوقف". فقد عاد من "الشرفة التي صنعها خياله" ليبحث عن والدته ويخبرها بأن الحياة لم تتوقف.

عاد إلى الواقع، أخذ نظارة والدته، وأبقاها كثيراً في جيبه، حسبما كتب في وداع والدته.

"سمعت صوتاً يقول 'البقية في حياتك'. أحسستُ كأن شفتي قد انفرجتا وانطلقت منهما صرخة: البقية في حياتك؟ هذا التعبير لا يقال لي. إني لا أرضى ببقية حياة. وليس لي حياة كاملة إلا مع أمي"

تركت وجهي على منديلها

"أمي هي أمي. ولو استطعت أن أفك خصرها وضفائرها من لعنة الرموز لفعلت. نعم، تركت وجهي على منديلها، لأني خارجها أفقد ملامحي. وعندما لا أطلب من كل هذا المأسوي، الذي هو ما يدور في بلادي وعليها، غير منديل أمي، فلأنني أسعى لاسترداد ملامحي الأولى. لاسترداد إنسانيتي في صوري كما هي، لا كما ترسمها الجريمة الكبرى التي ارتكبت في بلادي من ناحية، ولا كما ترسمها البطولة من ناحية أخرى". 



جاءت هذه الكلمات على لسان الشاعر الفلسطيني محمود درويش (1941-2008) في كتاب "أنا الموقع أدناه محمود درويش" الذي يتضمن حواراً مطولاً أجرته معه الصحافية اللبنانية إيفانا مرشليان.

كثيراً ما شبّه درويش والدته بفلسطين، وفلسطين بوالدته. يقول إن في أمّه، كلما نأت، ذاكرة الأرض الفلسطينية. "والأرض التي، هي أمي، هي الأرض ذات الفصول الأربعة. هي الخارطة الحيّة لكل الشجر والعشب والزهر والدم. هي الباقية، وكأنما بلا اكتراث بالعابرين من الغزاة حتى لو صار بعضهم آباء أو ادعوا الأبوة. ولكنها بأمومتها التي لا يشك بها مؤرخ أو طبيب أو مهندس زراعي، هي أمي". 

كان يظنّ أنه لا تُحبّه، لقسوتها. لا يتذكر قبلاتها ولا هداياها إلا في سجنه الأول. وبعدما تكررت سجونه تكررت زياراتها وهدايا وعندها أدرك أن "وراء قسوتها المصطنعة، أماً عاطفية، هشة، وجميلة ولكنها أيضاً لاذعة في السخرية".

"حين عاتبتها: لماذا كنت تضربينني كثيراً وتحملينني المسؤولية عن كل ما يجري في الحارة؟ ضحكت لتُوحي لي بأنني كنت جامحاً وكثير النكد". 

ولكن درويش نفسه الذي افتقد حب والدته في صغره كتب أكثر الكلمات سحراً إلى الأمّ عبر قصيدة "إلى أمي" التي غنّاها مارسيل خليفة والتي شدد فيها على أنه "يعشق عمره لأنه إذا مات، يخجل من دمع أمه". 

هي كل شيء

"كل البيوت مظلمة، إلى أن تستيقظ الأم".

هذه مقولة لمن وُصف بـ"نابغة لبنان" الأديب جبران خليل جبران (1883 - 1931) الذي مارست عليه والدته كاملة رحمة "تأثيراً بالغاً". هي من عرّفته على الفن عندما أهدت إليه كتاباً عن ليوناردو دافنشي وشجعته على الرسم والكتابة "برغم تحفظات خليل زوجها الذي كانت لديه مشاريع أخرى لابنه". كتب جبران لحبيبته الأديبة اللبنانية مي زيادة: "ورثت عن أمي تسعين بالمئة من أخلاقي (لا أقصد بذلك أنني أماثلها من حيث الحلاوة والوداعة وكبر القلب)". 

"كل البيوت مظلمة، إلى أن تستيقظ الأم".

عن الأم، كتب جبران: "إن أعذب ما تحدثه الشفاه البشرية هو لفظة (الأم) وأجمل مناداة هي: يا أمي. كلمة صغيرة كبيرة مملوءة بالأمل والحبّ والانعطاف وكل ما في القلب البشري من الرِّقَّة والحلاوة والعذوبة. الأم هي كل شيء في هذه الحياة، هي التعزية في الحزن، والرَّجاء في اليأس، والقوة في الضعف، هي ينبوع الحنو والرأفة والشفقة والغفران، فالذي يفقد أمه يفقد صدراً يسند إليه رأسه ويداً تباركه وعيناً تحرسه".

ونُشرت لجبران أيضاً رسالة كان قد أرسلها إلى ابن عمه نخلة عقب وفاة والدته عام 1903، قال فيها: "في ما يتعلق بالأمتعة التي وجدتها في صندوق المرحومة فهي مع كونها بدون قيمة كبيرة، أريد من صميم قلبي أن أحصل على أكثرها لأنها ما تركته والدتي التي أقدّس ذكراها وأحترم آثارها"، وفق كتاب "قاموس جبران خليل جبران" للأديب اللبناني إسكندر نجار.

"عرفتُ نساءَ أوروبا. وطفتُ الهندَ، طفتُ السندَ، طفتُ العالمَ الأصفر ولم أعثر على امرأةٍ تمشّطُ شعريَ الأشقر وتحملُ في حقيبتها إليَّ عرائسَ السكّر"

لم أعثر على امرأةٍ تمشّطُ شعريَ الأشقر

أما الشاعر السوري نزار قبّاني، فقد اشتُهرت له قصيدة بعنوان "خمس رسائل إلى أمي"، كتبها بعد سنتين من وفاة والدته التي قيل إنها كانت تُرضعه حتى السابعة من عمره، وتطعمه بيدها حتى بلغ الثالثة عشرة. تقول بعض أبياتها: 

صباحُ الخيرِ يا حلوة...

صباحُ الخيرِ يا قدّيستي الحلوة

مضى عامانِ يا أمّي

على الولدِ الذي أبحر

برحلتهِ الخرافيّة

وخبّأَ في حقائبهِ

صباحَ بلادهِ الأخضر

وأنجمَها، وأنهُرها، وكلَّ شقيقها الأحمر

وخبّأ في ملابسهِ

طرابيناً منَ النعناعِ والزعتر

وليلكةً دمشقية...

أنا وحدي...

دخانُ سجائري يضجر

ومنّي مقعدي يضجر

وأحزاني عصافيرٌ...

تفتّشُ –بعدُ- عن بيدر

عرفتُ نساءَ أوروبا...

عرفتُ عواطفَ الإسمنتِ والخشبِ

عرفتُ حضارةَ التعبِ...

وطفتُ الهندَ، طفتُ السندَ، طفتُ العالمَ الأصفر

ولم أعثر...

على امرأةٍ تمشّطُ شعريَ الأشقر

وتحملُ في حقيبتها...

إليَّ عرائسَ السكّر

وتكسوني إذا أعرى

وتنشُلني إذا أعثَر

أيا أمي...

أيا أمي...

أنا الولدُ الذي أبحر

ولا زالت بخاطرهِ

تعيشُ عروسةُ السكّر

فكيفَ... فكيفَ يا أمي

غدوتُ أباً...

ولم أكبر؟



ليتني كُنت أكبر منها قليلاً

ومن أصدق ما كتبه أدباء عن الأم أيضاً:

- "المستهين بقدرات النساء، أتمنى أن تُعاد طفولته من غير أُم". (الروائي المصري نجيب محفوظ)

- "يكفي أن تدعو لي أمي لأحس أنني محميّ من كل سوء". (الكاتب المغربي الطاهر بن جلون)

- "ليتني كُنت أكبر منها قليلاً، لأكون أمها!". (الشاعرة اللبنانية سوزان عليوان)

- "كبرتُ وصرتُ أعبر الشارع وحدي. أماه كيف جعلتني أثق بقطعة قماش أكثر مما أثق بقدمي". (الكاتب الفلسطيني أدهم شرقاوي)

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image