شهدت مصر ظهور حضارة عظيمة على أرضها عندما اجتمع المصريون القدماء على ضفاف نهر النيل ليمارسوا الزراعة والرعي وليستقروا في شكل مجتمعات كبيرة، كثيفة العدد، تتمتع بالاستقرار والهدوء والطمأنينة.
هذه الحضارة، والتي شهدت -منذ مرحلة مبكرة من تاريخها- الانتقال من النظام الماتريركي/الأمومي إلى النظام الباتريركي/الأبوي، قامت على أساس مجموعة من القيم الأخلاقية المُعتبرة، والتي عمل المصريون على الحفاظ عليها وترسيخها من خلال توريثها جيلاً بعد جيل. من ضمن تلك القيم، كانت قيمة الأمومة، وما أرتبط بها من حنان ورعاية واهتمام بالأبناء، وهي القيمة التي صارت مع الوقت إحدى أهم القيم المركزية الشائعة في المجتمع المصري، كما تم ترسيمها كأحد العناصر التي لا غنى عنها في سبيل تحقيق اللُحمة الأسرية، وتوطيد العلاقة بين أفراد العائلة الواحدة.
ثيمة الأم المصرية الحنون، التي تجتهد لرعاية أبنائها والحفاظ عليهم، ظهرت في تفاصيل الكثير من القصص الديني والفلكلوري، ذاك الذي شاع وانتشر في مصر عبر القرون، ومن أهم تجليات تلك الثيمة، كل من الإلهة المصرية القديمة إيزيس، والعذراء مريم، أم المسيح، هذا فضلاً عن سليلة البيت النبوي، وحفيدة الرسول السيدة نفيسة بنت الحسن.
زوجة وفية وأم حنون... الإلهة إيزيس في مصر القديمة
عرفت مصر القديمة الكثير من النماذج التي ظهرت فيها الأنثى بمظهر الأم الحنون التي تحنو على أبنائها، وتدافع عنهم ضد الأعداء. من أشهر تلك النماذج، الإلهة سخمت، التي تظهر في صورة لبوءة قوية تدافع عن صغارها، وتهب الشفاء للمرضى والمتعبين، والإلهة نفتيس، إلهة الولادة، والإلهة حتحور، إلهة الخصوبة، التي طالما ظهرت في النقوشات القديمة في صورة بقرة طيبة حنون، ترمز للخير والنماء.
أشهر نماذج الأم الحنون التي عرفتها مصر القديمة على الإطلاق، تتمثل في الإلهة إيزيس، وهي ابنة الإلهين، جب ونوت، وزوجة الإله أوزيريس إله العالم الآخر، والذي تحكي الأساطير أنه قد قُتل على يد أخيه الإله ست، وأنه قد تم تقطيع جثمانه للكثير من القطع، وتم توزيعها في شتى أقاليم مصر. بحسب ما نقله المؤرخ اليوناني بلوتارك في كتبه، فقد بحثت الزوجة الوفية إيزيس، عن قطع الجثمان، وجمعتها جميعاً مع بعضها بعضاً، ما عدا العضو الذكري، الذي أكلته بعض الأسماك في نهر النيل، وبعد ذلك، مارست بعض الأعمال السحرية، وحملت من زوجها المتوفى بطريقة روحية غامضة، وانتقل هو بعدها ليشغل مكانه في العالم السفلي.
بعد ذلك انتقلت إيزيس بطفلها حورس إلى أحراش الدلتا النائية، مبتعدةً عن عيون أعوان الإله ست، وهناك، قدمت له الرعاية والحنان حتى شب قوياً جريئاً، ولم يلبث بعدها أن دخل في صراع دامٍ مع ست، حتى حُكم في نهاية الأمر بتنصيبه حاكماً لأرض مصر.
صورة العذراء كأمٍّ لجميع المصريين، ترسخت في الوجدان المصري الجمعي من خلال حكاية شهيرة وقعت في بدايات العصر الفاطمي
بحسب ما ورد في "موسوعة الأساطير والرموز الفرعونية"، فإن إيزيس في مصر القديمة كانت ترمز لأرض مصر الخصبة، تلك التي تتلقى فيضان النيل الذي يمثله أوزيريس، ويمكن القول إنها كانت تتشابه إلى حد بعيد مع الكثير من الإلهات اللاتي اشتهر أمرهن في شتى جنبات العالم القديم، ولا سيما الإلهة عشتار/عشتروت التي عُبدت في فينقيا وبلاد الرافدين.
أم يسوع، الممتلئة بالبركة... العذراء مريم في مصر القبطية
مع حلول القرون الأولى لميلاد السيد المسيح، وقع تحول مجتمعي مهم في التركيبة الدينية في مصر، وذلك عندما اعتنقت الغالبية الغالبة من المصريين للديانة المسيحية، فيما احتفظت الأقلية بمعتقداتها الدينية القديمة. هذا التحول الديني، تسبب في تطوير ثيمة الأم الحنون، لتأخذ شكلاً -أكثر بشرية- من ذلك الشكل الإلهي الذي اعتمد من قبل في إيزيس وباقي الآلهة المؤنثة.
يمكن القول إن العذراء مريم، أم المسيح، قد مثلت الصورة النموذجية المثلى، والتي ظهرت من خلالها ثيمة الأم الحنون في مصر المسيحية، إذ تفاعل المصريون مع هذه الشخصية المقدسة، ونسبوا إليها الكثير من القصص التي تتوافق مع نظرتهم الخاصة للبركة والحنان والنماء.
صورة العذراء البتول، التي تحمل بابنها بشكل روحي بحت، ثم تضعه لتصبح الأم الحنون، التي تدافع عن وليدها، وتتدفق منها البركات في كل مكان تحط فيه ركائبها، ظهرت كأوضح ما تكون في قصة رحلة العائلة المقدسة إلى مصر، وهي الرحلة التي خاضها يوسف النجار ومريم وابنها فراراً من تعقب الملك هيرودس لهم، بعد ولادة يسوع المسيح.
أحداث تلك الرحلة وردت في كتاب "ميمر رحلة العائلة المقدسة"، الذي صنفه البابا الثالث والعشرون لكنيسة الإسكندرية، البابا ثاؤفيلس المتوفى 412م، والذي ذكر في كتابه أن ما أورده من تفاصيل حول الرحلة المقدسة، قد عرفها من خلال رؤيا ظهرت له فيها العذراء مريم، وذلك أثناء عمله على تدشين إحدى الكنائس الجديدة.
بحسب ما ورد في هذا الكتاب، فكانت البركة تتنزل بكل مكان حلت فيه العذراء مريم؛ ففي مدينة بلبيس على سبيل المثال، تسببت نقطة واحدة من لبن مريم، وقعت من صدرها أثناء إرضاع المسيح، في تحويل الصخرة التي وقعت عليها إلى قطعة من البلور النقي، كما أن الميمر قد حكى عن الماء الذي تفجر من الأراضي التي مرت عليها العذراء في شتى ربوع مصر.
أيضاً تسببت بركة العذراء في تسريع نمو النباتات، وبحسب ما يُحكى فإنها لما باركت حقل البطيخ الذي مرت عليه، قد نما الحقل في أيام معدودة بدلاً من الفترة الطبيعية اللازمة للنمو، والتي عادةً ما تصل إلى بضعة شهور، الأمر الذي صار مضرباً لأمثال المصريين، وصار من الشائع أن يتحدث أحدهم قائلاً: "هو أنا حضرب الأرض تطلع بطيخ"، للدلالة على ضيق الوقت ورفض الاستعجال.
في مدينة بلبيس، تسببت نقطة واحدة من لبن مريم، وقعت من صدرها أثناء إرضاع المسيح، في تحويل الصخرة التي وقعت عليها إلى قطعة من البلور النقي
القصص الشعبي المسيحي، ذكر أيضاً بعض المواقف التي حلت فيها لعنات مريم على كل من أراد إيذاءها أو إيذاء وليدها، ومن ذلك أنها عندما كانت في منطقة المطرية، فإنها قد طلبت بعض الخبز من أهالي المنطقة، حتى تتمكن من إطعام طفلها الصغير، فلما رفضوا ذلك، دعت عليهم، فقالت لهم "إن شالله عجينكم ميخمر".
كذلك تحكي بعض القصص أن العائلة المقدسة لما خرجت من البدرشين، قابلت رجلاً شريراً أسود البشرة، وأراد هو أن يعتدي على العذراء، فدعت عليه بتوقف نموّه وتوقف عقله، فبقي يبكي لمدة ثمانية عشر عاماً، فسمي المكان الذي كان فيه باسم العياط. وهكذا تظهر العذراء في تلك الروايات على كونها صاحبة البركات، والأم الحنون التي تستطيع أن تدافع عن أسرتها بشتى الوسائل.
صورة العذراء كأمٍّ لجميع المصريين، ترسخت في الوجدان المصري الجمعي من خلال حكاية شهيرة وقعت في بدايات العصر الفاطمي، وهي تلك التي تحكي أن الخليفة الفاطمي العزيز بالله قد طلب من الأقباط أن ينقلوا جبل المقطم من مكانه، ولما أُسقط في أيديهم واحتاروا في أمرهم، ظهرت لهم القديسة مريم العذراء، وأرشدتهم للطريق الصحيح، وبذلك أنقذتهم جميعاً من الموت المحقق.
بركة مصر التي دافعت عن المظلومين... السيدة نفيسة في مصر الإسلامية
مما لا شك فيه، أن ثيمة الأم الحنون ذات المشاعر الفياضة، قد ظهرت أيضاً في مصر الإسلامية، كما ظهرت من قبل في كل من مصر القديمة ومصر القبطية. يمكن أن نرصد الملامح المميزة لتلك الثيمة في قصص الكثير من نساء آل البيت النبوي، ومنهن على سبيل المثال، كل من السيدة فاطمة الزهراء بنت الرسول، وأم السبطين، الحسن والحسين؛ والسيدة زينب بنت علي، التي صاحبت شقيقها الحسين إلى كربلاء في العام الحادي والستين من الهجرة، ودافعت –بعد وفاته- عن ابنه علي زين العابدين أمام جحافل الأمويين المتعطشة لدمائه، كما ظهرت ملامح تلك الثيمة أيضاً في تفاصيل القصص الشعبي المصري، ومن ذلك قصة فاطمة اللبؤة، زوجة حسن رأس الغول، والتي قدمت الرعاية لابنها علي الزيبق، فأخفته عن الأنظار حتى شبّ قوياً شجاعاً، وقد عزم على الثأر لأبيه، كما أنها قدمت له العون والمساعدة في الكثير من المواقف الحرجة التي مرّ بها خلال صراعه مع سنقر الكلبي ودليلة المحتالة.
أما أشهر النماذج النسائية التي قُدّمت فيها ثيمة الأم الحنون في مصر الإسلامية، فتتمثل في نموذج نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، والتي اشتُهرت في مصر باسم السيدة نفيسة.
بحسب ما تذكره الكثير من المصادر الإسلامية، فأن السيدة نفيسة قد قدمت إلى مصر بصحبة زوجها في عام 193هـ، وعاشت فيها لمدة خمسة عشر عاماً، حتى توفيت ودفنت فيها في عام 208هـ، عن عمر يناهز الثلاثة وستين عاماً.
ربط بركة السيدة نفيسة بأرض مصر تحديداً، ظهر بشكل واضح في الروايات التي تناولت وفاتها، فبحسب ما هو شائع، لما أراد إسحاق المؤتمن زوج السيدة نفيسة أن يحمل جثمانها ليدفنه في البقيع بالمدينة المنورة بجوار جثامين آبائها من آل البيت، فإن أهل مصر قد عارضوه وألحوا عليه في أن يترك الجثمان بمصر، وتُستكمل الرواية بأن إسحاق لم يرضخ لطلب المصريين، إلا بعد أن جاءه النبي في رؤيا منامية، وقال له فيها: "يا إسحاق، لا تعارض أهل مصر في نفيسة، فإن الرحمة تنزل عليهم ببركتها.".
أخبار كرامات السيدة نفيسة وعطفها على أهل مصر، شاعت في متون الكثير من الكتب المصطبغة بالصبغة الصوفية، ومن بين تلك الأخبار على سبيل المثال، أن النيل لما توقف في أوان الفيضان، وضجّ الناس بالشكوى، فإنها قد أعطتهم قناعها، وقالت لهم: "أرموه فيه"، فوفى النيل وفاضت مياهه؛ ومنها كذلك أن أرملة كانت تبيع الغزل لإطعام بناتها اليتامى، وأثناء ذهابها إلى السوق، سقط عليها طائر وأخذ لفة الغزل، فذهبت الأرملة باكية للسيدة نفيسة، التي دعت لها بردّ ما أُخذ منها، وبعد برهة قدم جماعة من المسافرين وقالوا للسيدة نفيسة إنهم كانوا في مركب بالبحر وخُرقت، وأنهم لم يتمكنوا من سدّ الرتق، إلا أن طيراً قد جاء ومعه لفافة قماش وسدّ بها الرتق، وأعطوها خمسمائة دينار هدية لسلامتهم، فاستدعت السيدة نفيسة الأرملة ومنحتها الأموال.
أخبار كرامات السيدة نفيسة وعطفها على أهل مصر، شاعت في متون الكثير من الكتب المصطبغة بالصبغة الصوفية
بعض الكرامات المنسوبة للسيدة نفيسة عملت على إثبات أمومتها لجميع المصريين، سواءً كانوا من المسلمين أو الذمّيين، ومن ذلك أن جارة يهودية مشلولة أخذت بعضاً من ماء وضوء السيدة نفيسة، ومسحت به جسمها فشُفيت، وأسلم معها الكثير من يهود مصر. كما أن بعض الروايات قد حرصت على إثبات كرامة السيدة نفيسة، حتى بعد موتها، ومن ذلك أن صبياً قتل بنتاً ودفنها في مقبرة السيدة نفيسة، ولما قبض الناس عليه ودلّهم على مكان جثمان البنت، ذهبوا إليها فوجدوها حية، وأخبرتهم إن السيدة نفيسة قد ظهرت لها وطمأنتها، وقالت لها: "لا تخافي يا بنتي"، ومسحت على مكان الذبح فانقطع الدم، ورجعت من الموت.
الوجدان الشعبي المصري، عمل على استغلال الزخم الكبير الذي تمتعت به صورة السيدة نفيسة كأم حنون، تحنو على أولادها، وتشفق عليهم، في إظهار بعض المواقف السياسية، والتي ظهرت فيها مظلومية المصريين على يد الولاة الظلمة، ومن هنا نجد أنه ورغم أن السيدة نفيسة قد توفيت بحسب أرجح الأقوال في 208هـ، قبل ما يزيد عن الأربعين عاماً من حكم أحمد بن طولون لمصر، إلا أن المِخيال الشعبي قد اختارها لتظهر في صورة الأم الحنون التي تدفع الظلم عن المهمشين والمظلومين من أهل مصر، أولئك الذين تجرعوا مرارة الذلّ والجور في عهد ابن طولون، وظهر ذلك في وقائع اللقاء المتخيل الذي جاء فيه أن السيدة نفيسة لما قابلت موكب أحمد بن طولون في أحد الطرقات، فإنها قد استوقفته قائلة: "ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخولتم ففسقتم، وردت إليكم الأرزاق فقطعتم. هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نفاذة غير مخطئة لا سيّما من قلوب أوجعتموها، وأكباد جوعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنَّا إلى الله متظلمون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون". وتُستكمل الرواية بأن ابن طولون قد بكى وندم، وأنه قد اعتذر لها وطلب منها المغفرة والصفح.
في بعض الأحيان، تم استغلال شخصية السيدة نفيسة في صياغة الكثير من السيَر الشعبية، ومن ذلك سيرة السلطان المملوكي الأشهر، الظاهر ركن الدين بيبرس، والتي ظهرت حفيدة الرسول في بعض مواضع قصته الأسطورية، ومن أهمها ذلك الموضع الذي قامت فيه بعقد المصادقة والمحالفة بين بيبرس -الذي يرمز للسلطة- من جهة، وعثمان
بن الحبلى -الذي يرمز للشعب والفئات الدنيا- من جهة أخرى، فنراها تأتي لبيبرس في منامه، وتقول له: "هذا –أي عثمان- تابعي وخديمي، وأنا لم أفوته أبداً، ولكن رضيت أن يكون خديمك على طول المدى، ويكون سامعاً مطيعاً، وكذلك أنت الآخر تطيع أمره، فإنه صحيح النظر، وأنا ناظرة إليكما بالرعاية والعناية". وهكذا تظهر السيدة نفيسة كأم لجميع المصريين، بغض النظر عن توزيعاتهم الطبقية أو الاجتماعية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين