"لن أتحدث عن نفسي، ولكن نيابةً عن شقيقتي وعن مشاعر الصدمة والاشمئزاز والخجل التي تعترينا كلما تذكرنا ما حدث ليلة زفافها"، تقول مريم (اسم مستعار)، لرصيف22.
"قبل عشر سنوات من اليوم، كان موعد زواج شقيقتي، ابنة محافظة سيدي بوزيد (وسط غرب)، بزوجها ابن أحد أرياف محافظة سليانة (شمال غرب)، والذي كان يُفترض أن يكون يوماً سعيداً، وذكرى جميلةً، ولكن أسرتي كانت على موعد مع مفاجأة غير سارّة"، تضيف.
تقول مريم إنه عندما انتصف الليل، كانت الأخت وعريسها جالسيْن في المنصة المخصصة لهما، وكان الجميع من أهله وأقربائه منغمسين في الرقص على الحلبة، على أنغام "الطبل والزكرة"، وهي موسيقى الأعراس التي تختص بها أرياف سليانة، وفجأةً تغيّر كل شيء.
"شاهدتُ شقيقتي وزوجها ينزلان من المنصة، ويدخلان إلى الغرفة المخصصة لهما في منزل عائلة زوجها من دون سابق إنذار. حينها، طلب أشقائي وأقربائي منا نحن النسوة، الصعود إلى السيارات للعودة إلى ديارنا، لأن السفر ليلاً متعب ويستغرق الوصول من سليانة إلى سيدي بوزيد ثلاث ساعات"، توضح.
"طلبت والدة الزوج من أمي الانتظار، وكانت هنا الصدمة الأولى. فبعد دقائق سيُحسم الأمر: إما ستبقى شقيقتي لديهم أو نعود بها، والأمر متعلق بعذريتها"، تفيد مريم.
"عادات راسخة"
"انتاب أسرتي وأقربائي كافةً شعور بالخجل، فبالرغم من انتمائنا إلى مجتمع محافظ، إلا أننا لم نعتَد على هذه العادات البالية البائسة المخجلة، وما هي إلا دقائق معدودات أخرى حتى حدثت الصدمة الثانية، إذ شاهدنا جميع أهل العريس، صغاراً وكباراً، ونساءً ورجالاً، يرقصون على حلبة الرقص على أنغام الطبل والزكرة، أياديهم مرفوعة إلى الأعلى، ويتداولون حمل ملابس أختي الداخلية البيضاء مشوّهةً بدماء حمراء"، تروي الشابة بخجل ممزوج بالغضب، لرصيف22.
"شعرتُ وأسرتي حينها وكأن الأرض انشقت وابتلعتنا. مشاعر مختلطة من الخجل والقرف والغضب اعترتنا، وكنت أفكر في شقيقتي المسكينة، فإذا كنا نحن على هذه الحال، فكيف حالها هي وما هو شعورها؟"، تتساءل.
"طلبت والدة الزوج من أمي الانتظار، وكانت هنا الصدمة الأولى. فبعد دقائق سيُحسم الأمر: إما ستبقى شقيقتي لديهم أو نعود بها، والأمر متعلق بعذريتها"
بالكاد استطاعت الوالدة بمفردها توديع ابنتها الزوجة الجديدة، وصعد الجميع إلى السيارات بصمت مطبق من هول المفاجأة، وعادوا أدراجهم، "وكان تفكيري كله مع شقيقتي وقد ترك ما حصل لها أذى في نفسي يتسبب لي بغضب شديد وآلام في الرأس كلّما تذكرته"، تختم مريم.
هذه القصة ليست استثناءً، بل هي منتشرة كثيراً في بعض الأوساط المجتمعية. إذ يُعدّ الحرص على تأكيد عذرية العروس مهمة والدتها، في بعض الأوساط الريفية في المحافظات التونسية، وما زالت تحافظ نسبة كثيرة من الأمهات على هذه العادة مع تغير بسيط في التفاصيل.
"قبل شهرين من الآن، تزوجتُ من شريك حياتي ابن محافظة قفصة (الجنوب الغربي)، أنا ابنة محافظة سيدي بوزيد، ومرّ كل شيء على ما يُرام"، تقول وفاء (اسم مستعار)، لرصيف22.
عادة "قصعة العروس"
في صباح اليوم الثالث لزواج وفاء، أصرّت والدتها على إقامة عادة اجتماعية متوارثة في سيدي بوزيد، تُسمّى "القصعة" (الإناء)، كطريقة للاحتفاء بعذرية الابنة، وخاصةً لتفاخر والدتها بها أمام أهل الزوج، نساءً وجارات وقريبات.
وترتكز هذه العادة على إعداد طبق العصيدة البيضاء (أساسها مادة الدقيق)، بزيت الزيتون، وتُزيَّن وتُغَطّى "بالفاكية" (المكسّرات)، والحلوى، وتغمّس فيها العروس أصابعها لتأكل بعد ذلك، من الطبق، الفتيات العزبات والمقبلات على الزواج.
كذلك تتولى والدة العروس، بمعيّة نسوة أخريات، صناعة "السرغين"، وهو نوع من البخور الذي تتكون منه قفة العروس التي قدّمها لها زوجها في أثناء التحضير للزواج، والتي تتكون من مواد تقليدية كالحنّاء والبخور والسواك والكحل، بالإضافة إلى صناعة العنبر و"السخاب"، وهو عقد من البخور تفوح منه رائحة زكية.
سعادة وفخر
"لا فائدة من مناقشة والدتي في هذا الأمر، لكني محظوظة لأنها تخلت عن حركة عرض ملابسي الداخلية للحاضرات، لكنها تعدّ حفلة القصعة تعويضاً على ذلك. أعلم جيداً أنها تريد من وراء هذا الجمع إظهار سعادتها بأن ابنتها "تهنّت" (الهناء)، وكانت عذراء. حتى وإن عارضتُها أتفهّمها"، تقول وفاء.
"يُضحكني الأمر، إذ تجتمع النساء ويأكلن ويمرحن ويتحدثن، ولكني أقرأ في نظراتهن الكثير. لا أعلم ما دخلهن في حياتي التي أعيشها بتفاهم مع زوجي، ولكني على يقين من أنهن وبعد خروجهن من الغرفة سيتناقلن خبر أن فلانة ابنة فلان "تهنّت"، وكانت عذراء، وأن والديْها الآن يستطيعان استكمال حياتهما من دون خجل أو حمل أي وصمة عار"، تختم.
شاهدنا أهل العريس، صغاراً وكباراً، ونساءً ورجالاً، يرقصون على حلبة الرقص على أنغام الطبل والزكرة، أياديهم مرفوعة إلى الأعلى، ويتداولون حمل ملابس أختي الداخلية البيضاء مشوّهةً بدماء حمراء
عن استمرار بعض الأوساط الريفية التونسية في ممارسة هذه الظواهر المجتمعية، يقول المتخصص في علم الاجتماع محمد نجيب بوطالب، إنه كلما تم التعامل مع هذه الظواهر التابوهات أو المسكوت عنها بسرية في عالم النساء وحدهن، أو في عالم الرجال وحدهم، كلما ازداد انتشارها وإشعاعها، ومن بينها "ظاهرة دخلة الزوج على زوجته للمرة الأولى في حفل شهير".
ويوضّح لرصيف22، أنها ظاهرة ترتبط أساساً بالريف التونسي الذي يشهد بدوره تغييرات نحو التخلي عن مثل هذه الظواهر نتيجة تطورات عديدة، منها ارتفاع مستوى التعليم عند النساء والرجال.
وأشار الباحث إلى وجود "تناقض في الأمر لأن المجتمع الريفي محافظ ويرتكز على الحشمة، ولكنه يضم أحياناً بعض التصرفات الغريبة، مثل إطلاق النار والزغاريد ودقّ الطبول بعد انتهاء دخول الزوج على زوجته، خاصةً من أهل العروس تعبيراً عن شرف ابنتهم".
ويعزو بوطالب، ربط مسألة عذرية العروس بقضية الشرف إلى "مجتمعاتنا الذكورية التي تعدّ الجانب الجنسي حساساً، فتركز عليه كونه محدداً لمفهوم الشرف".
وتحدث عن استمرار "بقايا هذه الظاهرة في بعض الأرياف التونسية في الوسط والشمال الغربييْن والجنوب التونسي حيث يعطون قيمةً كبيرةً لدخلة الزوجين، وللاحتفاء بعذرية الزوجة، ويتم إشهار إتمام الدخلة للمجتمع وخاصةً الأم التي تضغط على الابن والابنة".
"رمز العفة والشرف"
يؤكد في هذا الإطار، أن والدة العروس وشقيقاتها يرغبن في إظهار أن ابنتهم رمز للوفاء والعفة والشرف والكفاءة، وتالياً في إشعار الأنساب والأقارب والجيران بذلك، حتى أن أفراد أسرة العروس لا ينامون ليلة دخلتها من شدة التفكير، وعندما يعودون إلى منزلهم يقيمون حفل زواج آخر مصغّراً فيه الرقص ودق الطبول".
عندما تقدم المرأة على الزواج تبدو وكأنها تدخل إلى امتحان ولإثبات شيء، ليس بالشهادة ولكن بإشهار أنها شريفة وبكر
كما يرجع مختص علم الاجتماع استمرار هذه الظاهرة إلى خاصية المجتمع العربي الإسلامي، وخاصةً الأوساط الريفية المحافظة التي تريد إشهار الزواج وحيثياته وإظهار المكانة المجتمعية الملتزمة والمتضامنة مع قيم المجتمع المحلي، مبيّناً أن "شرف العروس هو إحدى هذه القيم، لذلك تحرص الأسرة على إظهار هذا الجانب للآخرين وتالياً لا تتخلى بسهولة عن العادات والتقاليد".
كما يعزوها إلى افتقاد المجتمع الريفي "المراقبة والجانب الأمني، ما يدفعه إلى بناء أمنه وحده، فعندما تقدم المرأة على الزواج تبدو وكأنها تدخل إلى امتحان ولإثبات شيء، ليس بالشهادة ولكن بإشهار أنها شريفة وبكر وذلك أمام الآخرين فتقع مجازاتها بالإعجاب والتصفيق والفرح، وهو نوع من السلوك الاجتماعي الذي يعتمد على نقل التجربة إلى الأجيال القادمة".
ويتابع: "بنات المستقبل الصغيرات حينما يشاهدن هذه الظاهرة ويشاركن فيها ويفرحن أيضاً، فهن مدعوات من قبل الأسرة والقبيلة إلى الانتباه إلى شرفهن والحفاظ عليه".
"عنف رمزي وجسدي"
عن رمزية هذا السلوك المجتمعي الريفي التونسي الذي يصل أحياناً إلى إظهار الملابس الداخلية للزوجة التي تسمى "بالسورية والقمجة"، "ففيها كثير من العنف ولا علاقة لها لا بالدين ولا بالقيم الاجتماعية الحديثة ولا بالتقدم، وإنما هي عادات سيئة يبدو أنها موروثة من المجتمع الذكوري المتخلف جداً والذي يرى أن الرجولة تكمن في فحولة الرجل وأن العذرية هي شرف المرأة"، يؤكد.
ودعا بوطالب وسائل الإعلام إلى الاضطلاع بدورها في نشر الوعي والثقافة الجنسية والاجتماعية والأسرية في صفوف المجتمع التونسي بصورة مدروسة للقضاء على هذه الظواهر التي تتراجع بدورها.
ولعلم النفس قراءة ثانية للموضوع، خاصةً في ما يتعلق باستمرار هذه الظواهر الاجتماعية في المجتمعات الريفية "المحافظة"، بالرغم من أنها محرمة دينياً.
سطوة الموروث المجتمعي
في السياق، يقول المتخصص في علم النفس، مروان رياحي، إنه ليس بالضرورة أن تكون لأي ظاهرة مجتمعية صبغة دينية وإن هنالك ظواهر على علاقة فقط بالموروث الثقافي والمجتمعي المتفق عليه بين الناس، "فليس بالضرورة أن يكون المجتمع المتدين ملتزماً بكل ما له علاقة بالدين".
ويلاحظ في تصريحه لرصيف22، في علاقة بظاهرة الاحتفال بعذرية العروس، "وجود سطوة الموروث المجتمعي والشعبي على كل ما له علاقة بالدين بخصوص بعض عادات المجتمع التونسي وتقاليده".
يضيف أنه وبالرغم من تدين المجتمع، إلا أنه يتشبث في الوقت نفسه بممارسات "محرمة دينياً"، لأنه غالباً ما تكون هذه العادات والتقاليد مرتبطةً بشحنة عاطفية كبيرة ترتقي إلى مستوى المعتقد أو الاعتقاد، بمعنى أن تكون الفكرة مصحوبةً بشحنة عاطفية كبيرة جداً إلى درجة أنها تصبح شيئاً أساسياً من الإنسان، فيحدث نوع من التقديس لهذه الفكرة أو لهذا المعتقد.
"طقوس مقدسة عند البعض"
وفق رياحي، فإن تحول هذه العادات إلى نوع من الاعتقاد يفسر أسباب استمرار ممارستها من قبل كثيرين ينظرون إلى طقوس الزواج بنوع من القدسية، إلى درجة ضرورة الالتزام بها وتطبيقها بغض النظر عن مستوى الزوجيْن التعليمي والدراسي والثقافي.
عن رمزية انتشار مثل هذه الطقوس، يتحدث رياحي عمّا وصفه بـ"محظور العذرية" الغامض في المجتمع التونسي والذي أصبحت لديه هالة من القدسية تتلخص في مثل هذه الطقوس والعادات والتقاليد المعينة.
ويرى أن "عذرية المرأة هي مسألة محورية ليس للزوجة فحسب، وإنما للرجل الذي سيتزوجها ولأسرتها فهي مرتبطة بفكرة الشرف وخوف الزوج والأسرة ليس على شرف الزوجة، بل على شرفهم وشرف العائلة الموسعة والأقارب وحتى أبناء الحي أو المنطقة".
لهذه الأسباب، يوضح رياحي، فإن ممارسة هذه الطقوس منذ ليلة الزواج أو في صباح اليوم التالي فيها نوع من إثبات الشرف بأن الزوجة عفيفة ونظيفة ولم تجرّب وتكتشف سابقاً قبل زواجها".
ويشير إلى أن التعريفات الكلاسيكية النفسية تعرّف المرأة على أنها "رجل لا يملك عضواً ذكرياً"، ما يعني أن الفرق بينهما مرتبط بالعضو الذكري، وفي هذه الحالة سيثبت الزوج كفاءته أو أسبقيته النفسية أولاً بالممارسة الجنسية، وثانياً بقوته البدنية وبسلطته وجبروته وطغيانه، "لأن الرجل وعلى مر التاريخ يتمتع بالأسبقية النفسية والمعنوية والاجتماعية على المرأة".
يضيف مروان رياحي، أن الرجل لا يستطيع إثبات هذا الغرور الذي منحته إياه هذه التعريفات إلا عبر هذه الحركة الجنسية "التي يجب أن تكون مقدسةً إلى درجة أنه يجب على الزوج أن يكون أول من نام مع زوجته".
ويختم: "غير ذلك يكون نوعاً من الخدش لرجولته ولقوته وكأن هناك شخصاً آخر أقوى منه تعدى على زوجته وأفقدها عذريتها، رمز شرف الرجل والأسرة، وتعدى على حرمته وسلطته، لذلك يتم الاحتفال بعذرية الزوجة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون