شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
عائلات على الطراز المصري في الطريق إلى سجن

عائلات على الطراز المصري في الطريق إلى سجن "على الطراز الأمريكي"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 1 يونيو 202212:30 م

"وهما بيعجنوا الأكل باحس انهم بيعجنوا قلبي، الحاجات دي مجتش بالساهل". اعتادت سامية عبدالله* مشهد فتح الحراس لأكياس الطعام التي تأتي بها لابنها في زيارة "الطبلية"، التي يستعين بها السجناء على سوء وجبة السجن "التعيين"، ويستعيدون من خلالها بعضاً من طعم البيت. لكن الطعام يصل للسجين وقد تغيّر شكله، وتعرض لعبث الأيدي الفاحصة بالإضافة إلى ثقوب صنعتها الأقلام التي يحملها أمناء التفتيش على أبواب السجون، رغم وجود آلات للفحص هي نفسها المستخدمة في المطارات.

لكن أخيراً، بات هذا العبث أكثر إزعاجاً للأم التي تزور سجن بنها العمومي منذ عشر سنوات سُجن خلالها ابنها، بعد أن صارت تكلفة تجهيز تلك "الطبلية" التي تقضي أياماً في إعدادها تلتهم ميزانية الأسرة، كما أن تلك المعاناة المالية والنفسية ينتظر أن تزداد مع نقل ابنها إلى "وادي النطرون"، حيث مجمع السجون الجديد المسمى "مجمع وادي النطرون للإصلاح والتأهيل" بعد أن قررت السلطات إخلاء مجموعة كبيرة من السجون ذات المواقع والمساحات المتميزة، ويبلغ عددها 12 سجناً عمومياً في محافظات مصر المختلفة، ونقل سجنائها إلى المجمع الجديد، واستخدام أراضي تلك السجون في أغراض استثمارية.

"وهما بيعجنوا الأكل باحس إنهم بيعجنوا قلبي، الحاجات دي مجتش بالساهل". اعتادت سامية مشهد فتح الحراس لأكياس الطعام التي تأتي بها لابنها في "الطبلية"، التي يستعين بها السجناء على سوء وجبة السجن "التعيين"، ويستعيدون من خلالها بعضاً من طعم البيت

زيارة السيدة مُهدَّدة

قبل عشرة أعوام حكم على أحمد، نجل سامية الأكبر، بالسجن المؤبد على خلفية قتله جارتهم. لا تنكر سامية التهمة، أو استحقاقه للعقوبة، لكنها ترى أن العقوبة طالتها هي الأخرى من دون ذنب. فرغم أن ابنها تم إيداعه أقرب سجن طبقاً للتوزيع الجغرافي لكونه من سكان منطقة شبرا الخيمة التابعة لمحافظة القليوبية، هناك العديد من السجون التي كانت ستكون أقرب إليها مثل طرة أو المرج حيث يمكن وصولها مستخدمة مترو الأنفاق، بدلاً من السجن الواقع على طريق الواصل بين مدينة بنها ومدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، ويبعد عن محل سكنها بنحو 50 كيلومتراً. والآن صار البقاء في سجن بنها العمومي أملاً لها، لأنها لا تثق أنها ستستطيع مواصلة الزيارة عند نقل ابنها لقضاء باقي المدة في وادي النطرون الصحراوية القريبة من محافظة الفيوم (جنوب غربي القاهرة).

المسافة الطويلة وعدم وجود السجن على خط المواصلات الرئيسي من القاهرة إلى بنها، جعلا سامية تستقل سيارة خاصة في كل زيارة، أجرها 700 جنيه (46 دولاراً)، قبل رفع سعر صرف الدولار مقابل الجنيه في مارس/ آذار الماضي نحو ثلاثة جنيهات إضافية. هذا الارتفاع قابله ارتفاع تكلفة السيارة إلى نحو 850 جنيهاً تعادل نفس القيمة من الدولارات أو أكثر قليلاً، في وقت بقي دخل الام ثابتاً وبات يواجه تضخماً حقيقياً في أسعار السلع والخدمات بلغ 14.9% خلال أبريل/ نيسان الماضي، وينتظر أن يكون قد زاد 3% أخرى في مايو/ آيار. علل سائق السيارة هذا الارتفاع بـ"موجة الغلاء الأخيرة التي صاحبت التعويم"، بحسب تعبيره.

وفي 19 مايو/ آيار الجاري، قررت لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المصري، في اجتماعها الثالث خلال عام 2022، رفع سعر الفائدة الرئيسي للسيطرة على التضخم، بنحو 200 نقطة أساس، أي ما يوازي 2%، وهو الإجراء الذي رجح البعض أن يمهد إلى "تحريك" سعر الدولار للمرة الثانية خلال أقل من ثلاثة أشهر. ورغم محاولة الدولة تثبيت سعر الدولار في البنوك لأقل من 18.30 جنيه، ارتفع في الأسبوع الأخير ليتجاوز 18.60، فيما سجل سعره في السوق السوداء قرابة 20 جنيهاً، ما انعكس بشكل كبير على أسعار السلع والخدمات.

تقول سامية لرصيف22: "لوائح السجن تسمح لي بزيارة أسبوعية وزيارات استثنائية في الأعياد والمناسبات الرسمية، لكني لا أستطيع السفر كل أسبوع، فاكتفي بزيارة شهرية واحدة، أحضر فيها لابني الأكلات التي يطلبها، بالإضافة إلى عدة "خراطيش سجائر" وهي العملة المستخدمة بديلاً عن النقود في السجن، كما أرسل له حوالة شهرية عبر البريد تبلغ نحو ثلاثة آلاف جنيه توضع في حسابه في الكانتين "المقصف" ليشتري الطعام والماء النظيف، لأن الطعام الذي أحضره له لا يصمد أكثر من أسبوع في الشتاء، ويومين أو أقل في الصيف".

حتى مطلع فبراير/ شباط، كانت زيارة سامية الشهرية لابنها تتكلف نحو ستة الآف جنيه من المأكولات والأدوية، يضاف إلى ذلك نحو أربعة الآف جنيه من علب السجائر. إلا أنها أثناء تجهيز زيارتها الأخيرة قبيل شهر رمضان، فوجئت أن الزيارة ارتفعت ألفي جنيه دفعة واحدة ولكمية أقل من المنتجات

حتى مطلع فبراير/ شباط، كانت زيارة سامية الشهرية تتكلف نحو ستة الآف جنيه، وكانت "الطبلية" تضم العديد من المعلبات والأدوية والمخبوزات التي يمكن لابنها حفظها وقتاً طويلاً، يضاف إلى ذلك ما تكلفته أربعة الآف جنيه من علب السجائر تضم "خراطيش" قليلة محملة بالكثير من الضرائب والرسوم. إلا أنها أثناء تجهيز زيارتها الأخيرة قبيل شهر رمضان، وبعد تحريك سعر صرف الجنيه أمام الدولار للمرة الثانية، فوجئت أن الزيارة ارتفعت تكلفتها إلى نحو ثمانية آلآف جنيه، كما اضطرت لتقليل عدد عبوات السجائر المرسلة لتناسب الميزانية مبلغ السجائر المحدد. ولا تخشى سامية شيئاً سوى تأثير الارتفاع المتتالي لسعر الفائدة على الأسعار، الأمر الذي سيرفع تكلفة الزيارة مرة أخرى.

 تقول سامية: "هذه ليست المرة الأولى التي أفاجأ فيها بهذا الارتفاع، فابني محبوس منذ عام 2011، وفي عام  2016 صدر أول قرار لتحرير سعر الصرف، فتضاعفت تكلفة الزيارة مرتين. كنت موظفة في وزارة سيادية، فمعاش تقاعدي جيد، كذلك المعاش الذي أتقاضاه عن زوجي المتوفي جيد. لذلك يكفي المجموع للزيارة الشهرية في الوقت الحالي على الأقل، لكن هناك أسراً أخرى يضطر أبناؤها إلى خدمة السجناء الأثرياء في السجن مقابل الإنفاق عليهم لتواضع حال عائلاتهم، بالإضافة إلى العمل في ورش السجن للحصول على راتب يوضع في الكانتين، لكن هذا الأجر لا يغطي جميع نفقاتهم".

تفكر سامية حالياً في الإجراءات التي ستتبعها مع استمرار تفاقم الغلاء وارتفاع تكلفة الزيارة وتجهيز الطبلية، مع اقتراب موعد نقل ابنها بعيداً إلى صحراء الفيوم. وكل خياراتها تنحصر في تقليل كمية المأكولات وجودتها واللجوء إلى وسائل شاقة للسفر لتقليل التكلفة، قد لا تتناسب مع سنّها ووضعها الصحي.

من حاضرة المنيا إلى صحراء الفيوم

إذا كانت سامية تسافر حالياً 50 كيلومتراً لزيارة ابنها، فإن أزمة سهى إبراهيم* باتت أسوأ، بعدما تقرر نقل زوجها من سجن المنيا العمومي إلى وادي النطرون. 

تعيش سهى في محافظة المنيا، وداومت على زيارة زوجها منذ القبض عليه أثناء فض اعتصام رابعة، وظنت أنها ستلتقط أنفاسها أخيراً عندما أفرج عنه عام 2016، إلا أنه ألقي القبض عليه مرة ثانية في سبتمبر/ أيلول عام 2020، بعد مشاركته فيديوهات لمظاهرات معارضة ضد النظام عبر صفحة على فيسبوك.

لا تزيد المسافة بين مقر إقامة سهى الحالي مع عائلتها في إحدى قرى المنيا، ومقر سجن زوجها إلا بضع عشرات من الكيلومترات، لكن بعد نقل زوجها المتوقع إلى مجمع الإصلاح والتأهيل بوادي النطرون، ستتسع المسافة نحو 400 كم، يستغرق قطعها بالسيارة أربع ساعات، ولا تعرف سهى بعد التكلفة. تقول: "لا أعرف أين يقع مجمع تأهيل وادي النطرون كي أذهب إليه. ولا أعرف كيف ستتحمل والدة زوجي وشقيقاته السفر كل هذه المسافة مرتين شهرياً لزيارته".

تعمل سهى في وظيفتين، الأولى في إحدى المؤسسات الحكومية، والثانية في مركز تعليمي، حيث تخصص راتب الأولى لها ولأبنائها، والثانية لزيارة الزوج. تقول: "بالطبع سأحتاج إلى وظيفة ثالثة في حال نقل زوجي إلى وادي النطرون لتغطي نفقات الانتقال"

بسبب تكلفة الزيارة، قسمت سهى ووالدة زوجها الزيارات بينهما مناصفة، خاصة أن الأم تقيم في محافظة أسيوط. لذلك فالمسافة ليست بعيدة للدرجة التي تمنعها من الزيارة، فتذهب سها وأحد أبنائها في الزيارتين الأولي والثالثة خلال الشهر، بينما تذهب الأم وإحدى بناتها في الزيارتين الثانية والرابعة.

تعمل سهى في وظيفتين، الأولى في إحدى المؤسسات الحكومية، والثانية في مركز تعليمي، حيث تخصص راتب الأولى لها ولأبنائها، والثانية لزيارة الزوج وتكلفتها نحو ثلاثة آلاف جنيه شهرياً، وتساعدها عائلتها في رعاية أبنائها. تقول: "بالطبع سأحتاج إلى وظيفة ثالثة في حال نقل زوجي إلى وادي النطرون لتغطي نفقات الانتقال"، مشيرة إلى أن كل دقيقة تقضيها في الانتقال للزيارة تمثل عبئاً مادياً، لأنها تستغني عن راتب يوم الزيارة، كما تحتاج إلى الراحلة في اليوم التالي وهو ما يتوقع أن يزداد مع الانتقال إلى وادي النطرون. 

أما عن تدابير تخفيض تكلفة الطبلية نفسها، فترى سهى أنها لا تستطيع ترك زوجها من دون إعاشة، وفي الوقت ذاته لا تستطيع تقليل المنتجات التي ترسلها في الزيارة، لأنها تعتمد على الأساسيات فقط.

سجون أمريكية

في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، نشرت وزارة الداخلية فيديو يصور جولة تفقدية لمجمع وادي النطرون للإصلاح والتأهيل، ضمت عدداً من البعثات الدبلوماسية والمنظمات الدولية، ودعت للمشاركة في الجولة ممثلي المجالس الحقوقية ولجان حقوق الإنسان بمجلسي النواب والشيوخ وعدداً من الإعلاميين ومراسلي الوكالات الأجنبية.


الجولة جاءت ضمن حملة "فرصة جديدة". وقد أفردت وسائل الإعلام المصرية فقرات كبيرة لتغطية الجولة، صاحبتها أغنية "فرصة جديدة للحياة" التي غناها المطرب المصري مدحت شاكر.

ويأتي هذا المجمع ضمن نحو ثمانية سجون "يتم تصميمها وفقاً للطراز الأمريكي بحسب مداخلة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع التلفزيون المصري في سبتمبر/ أيلول الماضي". قال السيسي إن مجمع وادي النطرون يهدف إلي توفير سبل الإعاشة والرعاية الطبية والإنسانية للمحتجزين، ومعاملتهم بطريقة آدمية، تزامناً مع تعديلات قانون تنظيم السجون ولائحته التنفيذية، والذي لم يضف إلى حقوق السجناء، فيما اعتنى بتغيير مسمى قطاع السجون إلى قطاع الحماية المجتمعية، على أن يتم وقف استخدام كلمة "سجن" واستخدام تعبير "مركز الإصلاح والتأهيل" بدلاً منها، كما تستخدم كلمة "نزيل" بدلاً من "سجين".

لإدراكها عبء التكلفة، أبلغت الأم ابنتها أنها لا تحتاج إلى الطبلية مرة أخرى، لأنها التحقت بخدمة إحدى السجينات الثريات مقابل الإنفاق عليها، كان ذلك طوق النجاة لرقبة نورا، بحسب وصفها. إلا أن طوق النجاة انكسر قبيل شهر رمضان الكريم، حين أبلغتها والدتها أنها ستنقل إلى مجمع وادي النطرون

من السجون الـ12 المنتظر إغلاقها ونقل المسجونين فيها/ نزلائها إلى سجن القناطر للنساء، حيث كانت تقبع والدة نورا مندور* التي تقضي حكما نهائياً بالسجن عشر سنوات بتهمة الاتجار بالمخدرات، وهي التهمة التي تنفيها ابنتها.

لم تتحمل نورا تكاليف الزيارة، خاصة مع تدني راتبها الذي يبلغ ثلاثة آلاف جنيه (161 دولاراً)، لكنها استطاعت تدبير طبليتين في الشهر الأول لسجن والدتها، كانتا عبارة عن وجبة ساخنة وعدداً من خراطيش السجائر. ولإدراكها عبء التكلفة أبلغت الوالدة ابنتها أنها لا تحتاج إلى الطبلية مرة أخرى، لأنها التحقت بخدمة إحدى السجينات الثريات مقابل الإنفاق عليها، كان ذلك طوق النجاة لرقبة نورا، بحسب وصفها.

إلا أن طوق النجاة انكسر قبيل شهر رمضان الكريم، حين أبلغتها والدتها أنها ستنقل إلى مجمع وادي النطرون، وأن السيدة التي تخدمها لن تنقل معها، لتجد نورا أنها عادت مضطرة إلى تدبير تكاليف زيارة شهرية وحيدة على الأقل، وهو الأمر المستحيل لضآلة راتبها ووضع التضخم والأسعار. تقول: "حين تلقيت اتصالاً من أسرة إحدى السجينات مفاده أن والدتي انتقلت، شعرت بأن أحدهم ألقى بي في البحر بعد أن قيّد يديّ".

حاولت نورا تدبير بضعة الآف من الأقارب والمعارف كي تتمكن من إعداد طبلية الزيارة لأمها، إلا أنها فوجئت باتصال هاتفي من أسرة سجينة أخرى طلبت منها أم نورا أن تنقل إلى ابنتها رسالة جديدة، مفادها: "لا تشتري شيئاً". تقول نورا: "حين ذهبت للزيارة أخبرتني أمي أن سيدتها في سجن القناطر أوصت سجينة أخرى لتلحقها بخدمتها في وادي النطرون، وأن الحال أفضل من السجن السابق".

الحال الجيد للأم لم يكن جيداً للابنة، التي رغم تخلصها من العبء المالي، فإن عبء بُعد المسافة بين القاهرة ووادي النطرون (110 كم) يزيد تكلفة رحلة الزيارة، خاصة أنها ستضطر إلى الحصول على إجازة من عملها، بدلاً من تبديل موعد ورديتها في مصنع الملابس الذي تعمل فيه.

تفتخر الدولة بالسجون الجديدة المزمع نشرها "على الطراز الأمريكي"ـ ويعلو التفاؤل وجوه المسؤولين لما ينتظر أن تدره أراضي السجون الشاسعة ذات المواقع المتميزة من موارد إلى الصناديق السيادية، في وقت تتسع الضغوط على المواطنين لري الخزانة العامة العطشى بالضرائب والرسوم. ويجتمع كل هذا مع التضخم ليضع الأمهات والزوجات والبنات في مواجهة أيام عصيبة ومستقبل شائك، كتلك الوجبات الفقيرة التي تصل إلى ذويهم داخل السجون. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image