انتهت الجلسة الأولى للمجلس النيابي الجديد الذي انبثق عن الانتخابات البرلمانية التي جرت في لبنان في 15 أيار/مايو الماضي، بالكثير من الضجة والخلاصات التي حاولت قوى النظام، مرّةً جديدةً، أن تترجمها لصالحها بشتّى الطرق، من خلال لعبة الأرقام والأكثريات والأقليات.
المشهد في الجلسة كان غير مألوف، وهذا الأهم، بغض النظر عن كمّ التعليقات التي صدرت من هنا وهناك بحق النواب الجدد، "التغييريين"، الذين دخلوا إلى وكر سلطوي مُستمرّ بالقوى نفسها تقريباً منذ أكثر من 15 عاماً، إذا لم نحتسب فترة الوصاية السورية التي كانت القوى نفسها، ما عدا "الفرق المسيحية"، مسيطرةً عليه بشكل كامل، ومُسيطراً عليها خلالها من دمشق، أو عنجر لمزيد من التحديد.
في الجلسة ظهرت القوى الجديدة وكأنها غير متفقة مع بعضها البعض على نقاط محددة. ظهر ذلك في التصويت لأمانة سرّ المجلس. كذلك في المبدأ العام للتغيير الذي تريده، وهذا ما بدا جلياً في التصويت لنائب الرئيس، من الورقة البيضاء إلى "التماشي" مع مرشح تدعمه أحزاب تقليدية كانت جزءاً لا يتجزأ من هذا النظام وهذه المنظومة التي أوصلت لبنان إلى هذا الدرك، بغض النظر عن شخص غسان سكاف الذي قد يكون أقرب إلى التغييريين، لكنّه ملتزم فعلياً مع الجهة التي أوصلته إلى المجلس، والمتجذرة في النظام.
كان بإمكان هذه القوى أن ترشح شخصاً منها إلى موقع نائب الرئيس، وتصوّت له في الدورة الأولى، وتكتفي بالورقة البيضاء في الدورة الثانية، لتعلن تمايزها عن الآخرين، التقليديين، وأصحاب الحسابات التي لا تتفق معها "قوى التغيير"، ولتضع نفسها بعيدة عن سجالات ملّ منها كُثر. سجالات "القوي" والأكثر نفوذاً وشعبيةً، في بلاد منهارة تماماً وعلى المستويات كافة.
البراغماتية ضرورية، ولكن ما هو غير ضروري وسيّئ أن يتحوّل "التغييريون" إلى أتباع، كما حصل في الجلسة الأولى. ولماذا؟ لاختيار نائب رئيس لا يُقدّم ولا يؤخر في المعادلة البرلمانية بشكل عام؟
لم يحصل هذا الأمر، وعلى ما يبدو رضخ كُثر من التغييريين لقرار التصويت ضد إلياس بو صعب، مرشح جزء من المنظومة، وهذا ما يُمكن التوقف عنده. التصويت ضد لم يعد كافياً، فالناس ينتظرون صورةً مغايرةً عن كل ما سبق. ينتظرون نواباً يُقررون أن يكونوا من خارج التسويات والمناكفات التي إن دخلوا فيها، لا شك سيغرقون في التصنيفات المملّة، "8 و14 آذار"، وهو ما يعمل عليه بعض أحزاب المنظومة، وتحديداً من يُطلقون على أنفسهم "سياديين"، في محاولة لاستمالة "التغييريين" إلى اصطفافاتهم، وهنا النقاش الذي لا بد أن يُفتح بين هؤلاء: ماذا يريدون من المجلس؟ بل ماذا يريدون أن يكونوا في السنوات الأربعة المقبلة؟
لكن أيضاً يبدو أن "التغييريين" ليسوا في كفّة واحدة. وليس المطلوب منهم أن يكونوا كذلك. يظهر أن في هذا "الفريق" مجموعات متعددة ليس بالضرورة أن تلتقي مع بعضها البعض، بل في مكان ما هناك من هو أقرب إلى طروحات وشعارات تتبناها بعض الأحزاب التقليدية، لا سيما في موضوع المصارف مثلاً، أو في موضوع مقاربة سلاح حزب الله، أو في الصندوق السيادي المزعوم، واللائحة تطول.
محاسبة هؤلاء النوّاب ككتلة لا يُمكن أن يكون صحياً ومبنيّاً على جلسة أولى في بيئة متنمّرة ومتعالية ومستهزئة ليس فقط بالنواب الجدد، بل بالناس الذين صوتوا لهم. أساساً، هذه البيئة لن تتقبلهم مهما فعلوا، إلا في حالة واحدة: الانضواء تحت جناحها. غير ذلك، سيتعامل معهم مثلاً علي عمّار وحسن فضل الله وكأنهم أطفال أو غير مرئيين، وسينظر إليهم علي حسن خليل بنظرته الثاقبة التي أوصلت البلاد إلى الدمار، وسيعدّهم جبران باسيل وكأنهم هواة، كونه المتمرّس في كُل شيء استلمه وقضى عليه، فيما سيكون سمير جعجع في انتظارهم ليقول لهم "معنا، فيكم"، ووليد جنبلاط سيدعوهم (وهو ما فعله)، إلى أن يصطفوا لمواجهة حزب الله.
بين ذلك كله، يُمكن التفكير مثلاً في ما هو الأصح لهؤلاء. بالتأكيد ليس الانضواء في تكتّل من الواضح أن معالمه هشّة قبل الإعلان عنه. أساساً ما الذي سيُقدمه تكتلهم الواحد في هكذا بيئة، غير أنه سيكون صورةً لما حصل في الجلسة الأولى، وسيتصدى للبروز بعض الصقور من بينهم، المتمرسون كما المنظومة، وسيأخذونهم معهم إلى أماكن قد لا تُعبر عن جميعهم فعلياً.
دروس الجلسة الأولى كثيرة، لكن أهمّها هو الاعتراف بأن "التغييريين" ليسوا كتلةً واحدةً، ولا يجب أن يكونوا. بإمكانهم أن يكونوا كتلتين وثلاث وأربع. بإمكانهم أن يكونوا أفراداً. فعاليتهم هي في ما يُقدّمونه من اقتراحات قوانين وما يفرضونه من تشريعات
ما الذي يمنع أن يكون "التغييريون" أفراداً، يلتقون في مكان ويختلفون في آخر؟ لا شيء. بل يبدو هذا الأمر أقرب إلى المنطق وإلى مصلحتهم مستقبلاً. وهذا لا يعني أن التلاقي مع الأحزاب "ممنوع". لكن هذا التلاقي يُمكن أن يكون حول ما يهمّ الناس، حول قوانين وسياسات وطروحات تساعد في بدء الخروج من هذه الأزمة التي ستطول كثيراً. البراغماتية ضرورية، ولكن ما هو غير ضروري وسيّئ أن يتحوّلوا إلى أتباع، كما حصل في الجلسة الأولى. ولماذا؟ لاختيار نائب رئيس لا يُقدّم ولا يؤخر في المعادلة البرلمانية بشكل عام؟
دروس الجلسة الأولى كثيرة، لكن أهمّها هو الاعتراف بأن "التغييريين" ليسوا كتلةً واحدةً، ولا يجب أن يكونوا. بإمكانهم أن يكونوا كتلتين وثلاث وأربع. بإمكانهم أن يكونوا أفراداً. فعاليتهم هي في ما يُقدّمونه من اقتراحات قوانين وما يفرضونه من تشريعات، تبدأ بالهموم المعيشية ولا تنتهي بالسياسات المصرفية والأحوال الشخصية واستقلال السلطة القضائية.
دروس الجلسة الأولى أن غالبية "التغييريين" عليهم أن يفرضوا إيقاعهم بين مجموعة من "الذئاب"، وهذا بحد ذاته يحتاج إلى أن يكونوا أقرب إلى ما يؤمنون به، من أن يكونوا مسيّرين خلف مصالح فردية لبعضهم، وبين هؤلاء هناك من لديه مصالحه ويلتقي أو تلتقي مع "النظام" والمنظومة. التحرّر من عباءة التقيّد بالموقف العام، هو أول الطريق، وجلسة أمس هي لاستخلاص العبر، والواقعية، بعيداً عن حملات الجلد والانتقاد والتهشيم التي يتناوب عليها كُثر، وفي النهاية يقطف نتائجها أرباب هذا النظام وليس أي أحد آخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون